مقالة الاستقصاء بالرفع قيل :" التاريخ يعد علما حقيقيا" فند هذا الاعتقاد


ملاحظة: اعتماد طريقة الاستقصاء بالرفع من أجل التعامل مع الموضوع، لأن صيغته الاستفهامية توحي بدحض الطرح القائل بأن  التاريخ يرتقي إلى مرتبة العلم الحقيقي.

I المقدمة ( طرح المشكلة ):
إذا كان العلم هو تلك المعرفة المحققة بالتجريب والمتميزة بالدقة والموضوعية، وكان التاريخ هو بحث تعلق بدراسة أحداث إنسانية ماضية لا تقبل الملاحظة، تفرض الذاتية ولا يمكن أن تخضع لمبدأ الحتمية التي تعد من بديهيات العلم، فإن الأبحاث التاريخية لا ترتقي لتكون علما حقيقيا. لكن ورغم ذلك إلا أننا نجد الكثير من الدارسين يؤسسون اعتقادا خاطئا تمثل في الإقرار بإمكانية التجريب على مستوى الحادثة التاريخية بنفس الكيفية التي تمت على مستوى الظواهر الجامدة. لذا فكيف يمكن تفنيد هذا الاعتقاد والقائل بأن التاريخ يعد علما حقيقيا؟ وما هي أهم الحجج والبراهين المؤكدة لبطلانه؟ بل ما هي أهم الأخطاء المنطقية والمعرفية التي وقع فيها المناصرون لهذا الاعتقاد؟  


II التوسيع (محاولة حل المشكلة) :





                                 1 - عرض منطق الأطروحة:
تؤكد الأطروحة أن التاريخ يعد علما كونه طبق خطوات المنهج التجريبي على مستوى الحادثة التاريخية، حقق الموضوعية في التعامل مع أحداث الماضي، وكمثال على هذا نجد أن الباباوات ظلوا حتى القرن الخامس عشر ينازعون الأباطرة في سلطتهم، ويستشهدون بوثيقة يزعمون أن الإمبراطور قسطنطين قد منحهم بموجبها سلطته اعترافا بجميلهم في تنصيره، ولقد أثبت أحد النقاد أن هذه الوثيقة مزورة، لأنها كتبت بأسلوب وورق القرن الثامن عشر، أي بعد وفاة قسطنطين بخمسة قرون. لا يمكن تجاهل الأبحاث التاريخية مادامت قد حققت معايير الصدق بكشفها أسباب الكذب في الرواية التاريخية والمتمثلة في التشيع للآراء والمذاهب، الثقة بالناقلين والانحراف عن المقاصد وتوهم الصدق. بعد الكشف عن الخلل طرحت الحل والمتمثل في العمل على اعتدال النفس عند تقصي الخبر وتمحيصه، وذلك باعتماد الجرح والتعديل.
                            2- نفي الأطروحة شكلا ومضمونا:
لكن لا يمكن أن يكون هذا الطرح صوابا، لأن التاريخ تعامل مع أحداث مضت والماضي لا يلاحظ، وتعذر الملاحظة يفرض أيضا تعذر إمكانية التجريب. التاريخ لا يعد علما، لأنه يفتقد الموضوعية، خاصة وأن كل مؤرخ يروي الماضي من الزاوية التي تتماشى مع ميوله( الذاتية)، فالمؤرخ الجزائري يؤرخ للثورة التحريرية على أنها حرب العظماء، لكن المؤرخ الفرنسي يؤرخ لها على أنها فقط حرب العصابات، المؤرخ الأمريكي يتكلم عن حرب الخليج على أنها وجدت من أجل استرجاع الشرعية الديمقراطية وتحرير الشعب من حاكم مستبد، لكن المؤرخ العراقي الحر يتكلم عنها أنها لعبة سياسية من أجل استغلال الثروات ودعم النزعة الامبريالية. فبين الرأي والرأي الآخر يصدق طرح بول ريكور القائل:" إن التاريخ يعيش الغربة المقلقة". التاريخ لا يعيد نفسه، وحتى إن تكرر فليس بنفس الظروف والشخصيات، أي لا يخضع لمبدأ الحتمية الذي يعد من بديهيات العلم الحقيقي. لذا أشار شوبنهاور أن التاريخ ليس علما، لأنه لا يتعلق إلا بالظواهر الخاصة والحوادث الفريدة، وتوصل فولتير أنه كان من الضروري أن يكتب الفلاسفة التاريخ، لأنه فن وليس علما.
                               3 - نقد أنصار الأطروحة:
إن الأطروحة التي نحن بصدد تفنيدها، لها أنصار حاولوا عبثا الدفاع عنها، ونجد منهم المفكر العربي بن خلدون والذي اعتقد بإمكانية تطبيق خطوات المنهج التجريبي على مستوى الحادثة التاريخية، وذلك بجمع المصادر وإخضاعها للتحليل والتركيب. أكد أن التاريخ يحقق الموضوعية العلمية لما يتعامل مع الوثائق وفق منهج النقد الخارجي (الشكل) والنقد الباطني (المضمون).أكد أن التاريخ يخضع لمبدأ الحتمية، لأنه حدد في مشروعه علم العمران البشري عمر الدولة، وتوصل أن كل دولة تبدأ من البداوة ثم تبلغ القمة وحتما تسير نحو الانهيار، أي التاريخ حسب بن خلدون يعيد نفسه. هذه الرؤية وجدت عند كلود ليفي  ستراوس، لأنه توصل أنه ليس فقط التاريخ من يعد علما، بل كل الأبحاث الإنسانية، وهو ما يتجلى من خلال قوله:" إن العلوم الفيزيائية تنفرد بالقدرة على القيام بتجارب وإعادتها كما هي في أزمنة وأمكنة أخرى، والعلوم الإنسانية تستطيع ذلك أيضا".
لكن و على الرغم من أهمية طرح هؤلاء ، إلا أنه لا يمكن التصديق بما ذهبوا إليه ، لأن كلود لفي ستراوس أخطأ لما حاول التعامل مع الظواهر الإنسانية بنفس الكيفية التي تمت على مستوى الظواهر الفيزيائية، خاصة وأن الإنسان يحتوي على تداخل ما هو نفسي، ما هو تاريخي وما هو اجتماعي، لكن المادة الجامدة تتميز بالبساطة، التاريخ يتعامل مع أحداث مضت لا يمكن أن تصطنع في المختبر، بينما الظواهر الفيزيائية تخضع للملاحظة والتجريب دون قيد. هذا الاختلاف يمنحنا اقتناعا بأن ما يصدق على الفيزياء لا يصدق على الأبحاث التاريخية.  التاريخ لا يعيد نفسه وحتى إن كان ذلك، فإنه ليس بنفس الكيفية ونفس الأشخاص، النتائج المحقة في التاريخ لا تتميز بالدقة، المؤرخ عاجز على التخلص من الذاتية، ومن ذلك فإن اعتقاد بن خلدون يبقى مجرد أمل لن يتحقق أبدا. كل هذا يعني أنه للقضية تفسيرا آخر، تفسير رافض للأطروحة التي نحن بصدد تفنيدها.





III - الخاتمة : (حل المشكلة):
ختام القول يمكن التأكيد أن الماضي هو لحظات عايشها الإنسان في زمن معين، ولما يحاول استرجاعه سوف يجد صعوبة في استرجاعه كما هو، فيضطر إلى صياغة الأحداث بتوظيف الخيال من أجل سد الثغرات، وهذا ما يعني أن التاريخ الشخصي يفتقد الدقة والموضوعية، فكيف للتاريخ العام أن يحقق ما عجز حتى الفرد على تحقيقه؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تزكي رأي شوبنهاور والقائل بأن التاريخ هو مجرد حيل ومكائد سطرها الأحياء من أجل التحايل على الأموات، يزكي الاعتقاد القائل بأن الحديث عن الموروث التاريخي  هو حديث عن غرق الصدق في القلق. ومن ذلك فإن الأطروحة القائلة بأن:"التاريخ يعد علما حقيقيا." هي أطروحة فاسدة ولا يمكن الأخذ بها.

          تحميل مقالة برابط مباشر :


او 

Microsoft Word



       لمزيد من مقالات اضغط هنا  اي استفسار ضعه في تعليق  الله ينجحك ولا تنسونا من دعائكم لنا .

ليست هناك تعليقات