تحليل قصيدة (الكآبة الخرساء) لأبي القاسم الشابّي\ سؤال الذات

تحليل قصيدة (الكآبة الخرساء) لأبي القاسم الشابّي\ سؤال الذات : 
نشرت الدراسة في مجلة (حروف الضاد) خريف 2018م، العدد الأول، بعنوان (الغنائية السوداء).
لقد جعل التيار الرومانسي من الذات محورا للعملية الإبداعية؛ فهي مصدر الشعر وموضوعه، وتدور في فلكها موضوعات غنائية ترتبط بوجدان الشاعر سواء كانت وصفا للواقع النفسي أو هروبا إلى الطبيعة أو تفلسفا في الوجود أو تغنّيا بالحرية، وتراوحت المضامين بين ما هو سوداوي معتِم وبين ما هو مشرق نابض بالحياة والأمل، لتستحيل القصائد لوحات تعكس تجربة الشاعر وواقعه ورؤيته ورؤياه، وتتلون بالمشاعر والأفكار.
يعدّ أبو القاسم الشابي من شعراء التيار الذاتي وأحد رواد مدرسة أبوللو، شكلت قصائده ميدانا للتغني بالذات ووصف الطبيعة والتوق إلى الحرية، وعُرف بنظرته السوداوية ونزعته التشاؤميّة التي شكلت خصوصيته الشعرية. خلّف ديوانا موسوما ب" أغاني الحياة"، تتراوَحُ موضوعاته بين الطبيعة، والتغني بالألم، والتّعبير عن المعاناة، ووصف حال الوطن. وتشكل القصيدة، موضوع الدراسة، نموذجا للغنائية السوداء في أحلك تجلياتها، رسمها الشاعر بوسائل فنية عكست المضمون ولونته بالسواد.
يثير عنوان القصيدةِ، من النَّاحية الدلالية، كثيرا من الأسئلة الناتجة أساسا عن وصف الكآبة بالخرَس، وهو ما قد يحيلنا بداءةً على ما يعانيه الشاعر داخليا من كآبة وحزن يعتصره ويجعله غير قادر على التعبير والبوح. فإلى أي حد يعكس العنوان مضمون القصيدة ؟
يعبِّر الشَّاعر في قصيدته عن مدى كآبته التي جعلته غريبا في عالم الإنسان الذي يحيا فيه، مقارناً في مرارةٍ مسرِفةٍ بينها وبين كآبة الناس التي تخبو مع مرور الليالي، فيما كآبته تزداد نارُها اتِّقاداً وشرارتها اشتعالا، بل إنها باقية ما بقي الدهر، وهي في النهاية تفوق كآبة كل البشر. 
من خلال عرضنا المختَصَرِ لمعاني القصيدة، نجدها تحمل ملامحَ تجديديَّة على مستوى المضمون الذي يعبر عن الهموم الذاتية، كما نجد تفلسُفا وجوديا واضحا وحلولاً في الطبيعة، وعليه خرج شاعرنا مطلقاً عن الأغراض الشعرية الموروثة، معتَنيا بالمضمون الذاتيّ الذي يعبّر عن تجربته الشعورية.
يعكس الشكل الفني للقصيدة الواقع النفسي للشاعر، إذ يسهم في نقل تفاصيل العالم الداخلي وتلوينه، حيث يتساوق التعبير مع الفكر، ويؤثر الثاني في الأول لونا ورائحة وطعما.
يتوزَّع ع معجم القصيدة َعلى حقْلين دلاليين يعكسان نظرة الشاعر للحياة:
 حقل دال على الحزن، وينضوي تحته ما يلي: "أنا كئيب، كآبتي خالفت نظائرها، سمعتها صرخة..."
 حقل دالّ على الحيرة والغربة، ويندرج تحته ما يلي : " أنا غريب، غريبة في عوالم الحزن، لوعة سكنت روحي..." .
يتيح جرد الحقلين وتتبُّع مكوناتهما ملاحظة هيمنة مُطلقة للحقل الدَّالِّ على الحزن؛ لسبب بسيط هو أنّ غرض القصيدة يدور حول وصْف كآبة الشاعر وحزنه ومعاناته الداخلية، وفيما يخُص العلاقة بين الحقلين فهي قائمة على السّببية؛ ذلك أن الحيرة الوجودية والغربة الكونية هي التي أنتجت حُزن الشَّاعر وعمّقت كآبته، وبناء عليه يمكن القول أنّ الشاعر طوّع المعجم لنقل واقعه النفسي.
يتّضح من دراستنا لمعجم النص أنّ شاعرنا لاذَ بلغة تتسم بالليونة وعمق الدلالة وبعد الإيحاءِ، مبتعدا بذلك عن صرامة لغة الإحيائيين وجزالة تراكيبهم وفخامة تعابيرهم ، كما اتسمت بطابع فلسفي عميق الغوْرِ.
وإذا ولَّينا وجوهنا شطر البِنية الإيقاعيّة الخارجية، وجدنا الشّاعر قد ركب بحر "المُنسرح" ، وهو ما يظهر من تقطيع البيت الأول:
كأَأْبتي\ خالفتْ نَ\ظائِرَها غريبتُنْ\ في عوالِ\مِ لْحَزَنْ
متفعلن\مفعلات \ مفتعلن متفعلن\مفعلات\مفتعل
ويتميز هذا البحر ،كما هو واضح، بقصر نفَسِه الشّعري وضيق مساحته ، وهو ما يتماشى مع نفسيَّة الشاعر التي لا تقوى على القول والانطلاق في انسيابية وتدفُّقٍ، بسبب ما تعانيه من كآبة تمنعها من ذلك. أما القافية فقد جاءت متعدِّدة ومتراوحة ؛ تارة مقيَّدة (مِلْحزنْ) وتارة مطلقة (تستعرُو)، ويدل تعدُّد القافية على تغيُّر عواطف الشاعر وتقلب نفسيته التي لا تعرف ثباتاً واستقرارا، وفيما يخص الرويَّ فقد جاء متعدِّدا (النون، اللام، الدال، الراء) وهو تارة مقيّد (النون واللام) يدل على الانحباس الشعوري، وتارة مطلق متحرك (الدال والراء) يدل على محاولة الخروج من حالة الغربة و والانسلاخِ من جوّ الكآبة ، وهكذا فتعدُّد حرف الرويّ ذو علاقة وطيدةٍ بتغيُّر نفسية الشاعر المتقلِّبة دوماً.
وبالانتقال إلى الإيقاع الداخلي، نجد أن الشاعر قد وظَّف التوازيَ في البيتين العاشر والحادي عشر ، حيث وازَى بين:
←" كآبتي مرَّةٌ " وبين " كآبتي شعلةٌ "،
وهو تواز عموديّ\مقطعيّ، نحويّ، عروضيّ.
نلفي توازياً آخرَ في البيتين الخامس والسادس ، حيث وازى الشاعر بين:
" سمعتها صرخة " وبين " سمعتها أنةًّ"،
وهو تواز نحوي، عمودي\مقطعيّ ، نسبي.
تكمُن جمالية التوازي الموظَّف في أنه أعطى للقصيدة، عُضويّا،ً نوعا من الحيويَّة والحركية والبعد الإيقاعي الذي أنقذَها من الرتابة التي فرضها جو الحزن الكئيب والتفلسف الصوفيّ.
وفيما يخص التكرار، نجد الشاعر قد أكثر من تَرْدادِ بعض الألفاظ مثل : " كآبتي، سمعتها " وفي ذلك تأكيد على مدى كآبته وحزنه ، وإلى جانب تكرار الألفاظ، نجد ترداداً لبعض الصوائت ذات النغم الحزين مثل " الكسرة، والسكون ، وياء المد "، ولِذلك ارتباط بمعاناة الشاعر وألمه الداخلي ، أضف إلى ذلك تكرار اللازمة "أنا كئيب ،أنا غريب"، وتكرار بيتين نهاية كل فقرةِ شعريّة بهدف التأكيد على الحالة النفسية والكآبة الخرساء، أما الصوامت فهي تتكرر بكثرة مثل: " الكاف ، والسين، والراء، والنون "، وهو ما يعطي للقصيدة تنوعا وغنًى إيقاعيا داخليا، أسهم في انتشالها من التَّقريرية والنثرية والخلو من النبض الإيقاعي. 
نلاحظ من دراسة الإيقاع بنوعيه أن الشاعر جدَّد نسبيا في موسيقى القصيدة، وتمثل ذلك في اعتماد لازِمة تتكرر بداية كل فقرة، والتنويع في القوافي وأحرُف الرويّ، مضيفا بذلك إلى التجديد المضمونيّ تجديدا إيقاعيا نسبيا على الأقل، ولئِنْ كان هذا التجديد الإيقاعيُّ قد نقل الواقع النّفسيَّ الداخليّ للشاعر فإنَّه جعل موسيقى القصيدة لا تثبت على حال ووتيرة واحدة، مما أدخل عليها الخلل وأفقدها في أحايين كثيرة تأثيرها وفعلها الجماليّ.
لم ينسَ الشَّاعر توظيف قدْرٍ كافٍ من الصُّور الشٍّعريَّة، لما لها من دور في إضفاء الجمالية والرونق على النص وإعطائه بعداً تخييليًّا يُعلي من أسهُمه في سوق الشِّعر، وكذا التعبير عن الحالة النفسيَّة وإغناء الجانب الدلاليّ للنص، وهكذا وجدناه يستنجِد بالتَّشبيه الذي احتفل به كثيرا، ونضرب له مثلا بما جاء في البيت السَّادس، إذ شبَّه "الصرخة المضَعْضَعَة" أي الضعيفة التي لا تقوى على الانطلاق الصوتيّ ب"جدولٍ في مضايق السّبل" لا يستطيع الانطلاق والتدفق، ووجه الشبه يتمثل في عدم القدرة على الانطلاق في سرعة وانسيابية، ومثل هذه الصّور تبرز حجمَ المعاناة التي يكابدها الشاعر داخليّا، ونجد إلى جانب ما سبقَ بعض التشبيهات البليغة في قوله " كآبتي شعلة مؤجّجَة " وقوله " أما اكتئابي فلوعة "، وتصبّ كلها في التعبير عما يعانيه شعوريا ونفسيّا، ولم يكتفِ الشاعر بالتَّشبيه بل خَطَب وُدّ الاستعارة موظفا إياها بطريقة تختلف عن طريقة القدماء ونجد ذلك في قوله " صَرَخت روحي"، حيث شبه روحه بإنسان يصرخُ، حاذِفا المستعار منه "الإنسان"، رامزا إليه بالقرينة "صرخت" على سبيل الاستعارة المكنية التبعية، ونفس الأمر ينطبق على قوله "يسْمعنَّها الجسد" حيث أسند للجسد صفة السمع ، وقوله "شبابي الثَّمِل" مشبّها شبابه بالسكران الذي يترنّح ويتمايل في إشارة إلى عدم سعادته وحيرته، وقد أدت هذه الصور الشعرية وظيفة تعبيريّة، إذ عبَّرت عن كآبة الشاعر وحزنه، ووظيفة تقوم على المبالغة في وصف ما يعانيه الشاعر، ووظيفةً تشخيصيَّة تتمثل في أنْسنة عناصر الطبيعة، ووظيفة تزينيَّةً تجسدت فيما تضفيه على القصيدة من بهاء ورواء ونضارة ورونق، وخلاصة القول فكلُّ الصور الشعرية نابعة من التجربة الذاتية للشاعر إذ تتلون بها، وصادرة عن رؤيته للحياة، ولعلَّ ما يغلب على الصّورة العامة للقصيدة اصطباغها بالسَّواد . 
إن المتأمل للصُّور الموظَّفة سواءٌ منها التشبيه أو الاستعارة، يلحظ ارتباطها الوثيق بنفسيَّة الشاعر وانطلاقها من ذاته وعودتها إليها، وهي بذلك تختلف عن صور الإحيائيين الذين اعتمدوا-في الغالب- على الذاكرة الشعرية في استدعاء صورهم، وعليه استطاع الشّاعر التجديد في صوره من ناحية كونها معبٍّرةً عن ذاته وصادرةً عن وِجدانه.
راهَنَ الشَّاعر في قصيدته على التَّعبير عما يجيشُ في صدره من ألم وما يعانيه من كآبة وحزن عميق، وهكذا جعل من نَقل عالمه الداخلي غايته ووَكْدَه، وقد وظف لذلك معجماً ذا طابع فلسفي تمتاز لغته بالليونة والعمق الدلالي، وصوراً شعرية نابعة من تجربته الذاتية وصادرة عن وجدانه الكئيب، وإيقاعا يقوم على التعدّد في القافية والرويّ. ويمكن القول أنَّ الشاعر مثَّل إلى حد بعيد تيار سؤال الذات شكلا ومضمونا؛ فمن ناحية الشَّكل نجدُ تقسيم القصيدة إلى فقرتيْن مع تكرار لازمة معينة، وتعدد أحرف الروي والقافية واعتماد لغة لينة، أما من ناحية المضمون، فقد جعل الشَّاعر قصيدته معبِّرة عن تجربته الذاتية، إضافة إلى الحلول في الطبيعة والتفلسف في الوجود، وهو ما يدفعنا إلى القول أنّ الشاعر حافظَ وفي نفس الوقت جدّد، ما يعني أن تجديده كان نسبيا.
نصّ القصيدةِ:
الكآبةُ الخرساءُ
أَنا كئيب، أنا غرِيب
كآبَتي خالفَتْ نظائِــرَها غريبةٌ في عوالِمِ الحَـــزَنْ
كآبتي فكرةٌ مغــرِّدةٌ مجهولةٌ منْ مسامِعِ الزَّمَــنْ
لكنَّني قد سمعْتُ رنَّتـها بمُهجتي في شبابِيَ الثَّمِـــلْ
سمعتُها فانْصَرَفْتُ مُكْتَئِباً أَشْدو بحزني ، كطائر الجبـَلْ
سمعتُها أَنَّةً يُرَجِّعـــُها صوتُ اللَّيالِي، ومُهجةُ الأزَلْ
سمعتُها صرْخَةً مُضَغْضَـغَةً كجَدْوَلٍ في مضايِق السُّبُــلْ
كآبةُ النَّاس شُعلةٌ ، ومـتى مرَّتْ ليالٍ خبَتْ مع الأَمَــدِ
أمَّا اكْتئابي فلوعةٌ سَكنَـتْ رُوحِي ، وتبْقى بها إلى الأَبَـدِ
أنا كئيب ، أنا غريـــب،
وليْس في عالم الكآبةِ مَنْ يحمِلُ مِعْشَارَ بعض ما أجِــدُ
كآبتي مُرَّةٌ ، وإنْ صَرَخَتْ رُوحي فلا يسمعها الجَسَــدُ
كآبتِي شُعلةٌ مؤَجَّــجَةٌ تحْت رمادِ الكوْن تستَـــعِرُ
سيعلَم الكوْن ما حقيقتُها ويطلُع الفجر يومَ تنْفــــجِرُ
كآبةُ النَّاس شعلةٌ ، ومتى مرَّت ليالٍ خبَتْ مع الأَمَــد
أمَّا اكتئابي فَلوْعةٌ ، سكَتَتْ رُوحي ، وتبقى بها إلى الأَبَــد
أبو القاسم الشابي:أغاني الحياة.دار العودة.بيروت.أغسطس 1982. ص 90-94

ليست هناك تعليقات