كتاب الإسلام الأخلاق والسياسة لمحمد أركون PDF


يتكون الكتاب من مقدمة و اربعة فصول:


المقدمة
في المقدمة يتطرق أركون للجو العام الآن في الفكر الإسلامي و عن طرق الباحثين و المفكرين، فيقول "مثل هذا المناخ من المجادلة الحادة، و الخصومة العنيفة، نجد بعض الباحثين مجبرين على التزام الحذر الشديد من الناحية الفكرية و المنهجية. فهم يقدمون بعض التنازلات لوجهة النظر الاسلامية و يخففون من استخدام منهجيتهم التاريخانية التي سيطرت في بيئات الاستشراق منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. اما بعضهم الاخر فيلتزم بالوصف البارد و العرض الحيادي التام لمبادئ الاسلام الازلي، كما لو ان المسألة الحقيقية المطروحة هي مسألة إسلام المبادئ. وليست بالاحرى مسألة المعاش الإسلامي اليومي بكل جذوره المحلية و تشكلاته التاريخية المحسوسة. انهم يريدون ان ينجوا بجلودهم فلا يجلبوا عليهم سخط الحركات الاسلاموية و الاوساط المحافظة، و ينتج عن ذلك فراغ ثقافي كبير، و طلب علمي هائل على موضوع غني و مثير للشهية. و يشعر الباحث احيانا بالمرارة و الالم لعدم القدرة على الخوض في مناقشة فكرية سليمة في مثل هذا الجو. بل إن هذه المناقشات تتحول الى عقبات تحول دون انتشار المعرفة العلمية الخاصة بالاسلام "
يقدم المتخيل الديني ذاته بصفته مجمل العقائد المفروضة و المطلوب ادراكها و تاملها بل و عيشها و كأنها حقيقة، و التي لا تقبل اي نقاش او تدخل للعقل النقدي المستقل. على العكس تماما يصبح هذا العقل مصدرا للزندقة و الانحراف و الضلال اذا لم يقبل بأن يصبح كليل الخادم المطيع للمتخيل الديني
و عن مجتمعاتنا العربية خصوصا، يقول "في المجتمعات التي تسيطر فيها التصورات الدينية و تغزو كل مناحي الوجود البشري نجد ان المتخيل الديني ينتهي بأن يتطابق مع المتخيل الاجتماعي كليا، فيؤثر ذلك في الحياة الاجتماعية ككل".

بعدها ينتقد الكتب التاريخية الدينية و يقول ان هناك دائما اسباب لنجاح بعض الكتب التاريخية الدينية: نلاحظ ان المؤلفين ينتقلون بسرعة من التحدث عن نشأة الدولة المثالية (و كلمة نشأة قد توهمنا بأن المؤلف يتبع المنهجية التاريخية و لكن الامر غير ذلك) الى التحدث عن نظام الحكم و هذا الموضوع الاخير محبب لدى هؤلاء الكتاب لأنه يتلائم تماما مع عرض العقيدة المثالية المشتركة لدى المخيال الاسلامي، بكل انواعه منذ انتصار الرؤية السنية و العمليات الاسلوبية التي يتبعها المؤلف من اجل تدعيم الشعارات و المطالب الحالية للمخيال الاجتماعي هي التالية: احتقار السياق الت ريخي، اختيار الوقائع المناسبة او الاحداث الايجابية و حذف ماعداها، اختيار مقاطع متفرقة اما من الفكر الليبرالي او من الفكر الاشتراكي الحديث السائد في الغرب منذ القرن التاسع عشر مع نزعها تماما من سياقاتها و حيثياتها التاريخية السائدة في زمانها، ثم اسقاط الصور المثالية النموذجية (الناتجة عن هذه الطريقة في التلاعب بالاحداث و النصوص على الازمان الماضية و خصوصا القرن الهجري الاول و فترة المدينة.

كيف يمكن ان نضع حدا لسوء التفاهم الكبير الحاصل بين المستشرقين و المسلمين؟ كيف يمكن ان نضع حدا للمماحكة الجدالية القائمة على رفض التاريخية من الجهة الاسلامية، و رفض الاهتمام بعناصر المخيال الاجتماعي و ضغطه الشديد على وعي المسلمين المعاصرين من الجهة الاستشراقية؟



الفصل الأول: نظرية القيم القرآنية

يبدأ اركون الفصل بوصفه للنقد القرآني للقيمة و ان القرآن يؤسس نوعا من المراتبية الهرمية بين العاملين الروحي و الزمني و ليس القصد بذلك هو الخلط بينهما و الذي يؤيده المستشرقين لأنهم يعبرون بذلك على تفوق الغرب الذي عرف كيف يفصل بينهما قانونيا .و يبدو لي الحدس الديني للحنابلة صحيحا عندما يلحون على ضرورة تلاوة القرآن و استنباطه من الداخل بعباراته و صياغاته اللغوية الخاصة بالذات. فالواقع، ان اللغة القرآنية و الدينية بشكل عام تتميز ببعد رمزي عجزت المنهجيات الالسنية و الفقهية اللغوية ان تستكشفه، او تقبض عليه حتى الآن، وحدهم الصوفيون استطاعوا استشعاره و الهجس به.
و يتطرق بعدها عند محاولات أي مفكر يبدأ محاولة جريئة تجديدية في مجال مقدس من مجالات المعرفة تصطدم فورا بنوعين من الرفض، متعاضدين و متكاملين هما: موقف التراث الارثودوكسي الذي يرتكز على البداهة المجربة و المرسخة من قبل رجال الدين، أي على بداهة التراث كما هو معروض من قبل الرواية الارثودوكسية و عدم حاجته الى اي تفسير او توضيح لأنه واضح و مفسر و بدهي. كما يرتكز على الحقيقة المحدوس بها. أما الموقف الثاني الرافض فيتجلى في المنهجية الشكلانية المفرطة لأولئك الألسنيين الجادين الذين يرفضون الانخراط في ثرثرات خارجة عن مجال اللغة و علم الألسنيات.

ينبغي ان نعلم ان الخطاب القرآني هو خطاب تكويني فاعل و مؤثر: بمعنى انه يخلقني و يصوغني طبقا لتحديداته الخاصة عندما أتلوه و أتلفظ بآياته و صياغته اللغوية. و لا أعلم فيما اذا كانت هذه المقدرة الخلاقة التي يتمتع بها النص القرآني عائدة الى تركيبته المجازية الهائلة التي تتحكم به كله و تجعله يشتغل و يمارس دوره بصفته وحدة نصية متكاملة و جبارة، أما ان المجاز الذي يرسخ مادة رمزية خصبة مرتبطة بالابداع المعنوي الدائم بقدر ارتباطه بالحدث التاريخي المحسوس الذي ادى الى انبثاقه لأول مرة في زمن الرسول.

اذ انه بين انطولوجيا الفيلسوف المذكور و انطولوجيا القرآن توجد هوة واسعة و مسافة. أقصد بذلك المسافة التي تفصل بين التفكير الذهني و التأملي المجرد، و بين اندفاعة القلب و تدفق التجربة الدينية في اللغة، هذه التجربة المرتبطة دائما بالعمل التاريخي المحسوس داخل الأمة أو الطائفة. و هي المسافة نفسها التي تفصل بين الفيلسوف و النبي كما سنشرحها لاحقا. فالفيلسوف هو بالدرجة الأولى محلل و متأمل، و هو نادرا ما يكون رجل جماهير او قائدا للبشر او فاعلا في التاريخ. أما النبي فهو يقود الشعب ليس على طريقة قادتنا السياسيين المعاصرين من أجل تشكيل أمة دنيوية، و انما من أجل ترسيخ شهادة فريدة لتجربة المطلق في التاريخ الأرضي، و من أجل ترسيخ الميثاق الذي يربط بين الله و ابناء آدم قد أصبح التضاد الصراعي أكثر عنفا و قوة عندما حلت الظاهرة الإسلامية التي تمسك بها الدولة الرسمية محل الظاهرة القرآنية و ذلك بدءا من العصر الأموي.

و بعدها يشرح مفهوم الأمة في الاسلام و يطرح فكرة ان الرسول صلى الله عليه و سلم كان يعقد التحالفات القبلية الشائعة في المجتمع العربي البدوي من أجل تأسيس أرضية لوحدة إجتماعية تتجاوز القبلية، كان القرآن ينفث فيها الروح و الوحي و العقل و يقدم للأمة أو القوم إطارا من الفكر و نظاما من القيم.

إن اللوغوس القرآني "الخطاب و النطق القرآني" ليس عبارة عن تدفق شاعري غنائي ذاتي، و ليس عبارة عن سرد تاريخي على طريقة المؤرخين و ليس عبارة عن تأمل منطقي منهجي لمفكر متفلسف و محلل، انما هو شيء آخر. انه خطاب ينبجس و يتفجر خلال عشرين عاما من العمل التاريخي المحسوس الذي عاشه النبي محمد و جماعته الأولى. و فيه نلمح آثار التردد و الشك و القلق و الأمل و المعارضة المضادة و الهزائم و الإنتصارات التي رافقت الانبثاق التاريخي، البطيء و الصعب لطائفة المسلمين و لكنه استطاع ان يتوصل الى خلع رداء التصعيد و التسامي و الروحانية و التعالي "و ربما التنزيه في بعض الحالات "على كل مغامرات و مراحل ذلك النضال التاريخي الذي انتهى اخيرا بالنصر.

ان القرآن عندما يتحدث عن حادثة تاريخية حدثت في زمن الرسول تكون الأساليب اللغوية هي التسامي و التصعيد: اي تصعيد هذه الأحداث بالذات و يسبغ عليها صبغة روحانية و دينية على مفردات ذات مضمون اجتماعي و سياسي و قانوني، و هكذا ينجح القرآن في محو كل التفاصيل و الدقائق التاريخية للحدث، ليصبح بعدها خطابا كونيا موجها للبشر في كل زمان و مكان. و هكذا يفقد صفته التاريخية فيبدو و كأنه خارج التاريخ
ان الديالكتيك الكائن بين الأخلاقية القرآنية و التاريخ يمثل فصلا من فصول تاريخ الفكر العربي - الاسلامي. و لم يدرس هذا الفصل بعمق ابدا، بل لعله لم يفتتح حتى الآن. و اذا مادرسنا ذلك الديالكتيك نستطيع بعدها الانتقال الى المرحلة التالية: دراسة المكانة المعرفية لكل اخلاقية موضوعة على محك التاريخ.

فعندما نرى الفقهاء المؤسسين الذين قاموا بجهد شخصي للإبداع العقائدي, فهم قاموا بالاجتهاد و الاستنباط. اما من تبعهم في المرحلة السكولاستيكية فقد اكتفوا بالتقليد و التكرار, و لذلك نرى انه لا يوجد أي مفكر يدرس العلاقة الجدلية بين القانون الديني و بين التاريخ.

ان كل المنتوجات العقائدية و التجارب الدينية المتفرعة عن التجربة التأسيسية, و التي تمثلت تاريخيا بالمذاهب و المدارس و الطوائف, ينبغي ان تؤخذ بعين الاعتبار. كلها تستحق الدراسة و الأهتمام, و كلها ينبغي ان تعتبر بمثابة محاولات لتجسيد الأخلاقية القرآنية في التاريخ البشري المحسوس. و ينبغي ان يجري تقويم شامل لهذه المحاولات الإسقاطية, ليس داخل الإطار البدعوي للتصنيف التيولوجي المعهود للطوائف, و انما داخل اطار آخر و منظور آخر مختلف تماما, ينبغي الخروج تماما و الى الابد من اطار الادبيات البدعوية الموروثة. و ينبغي ان نقوم هذه الطوائف و المذاهب بالقياس الى مقاصد الاخلاقية القرآنية من جهة ثم بالقياس الى اكراهات و حتميات كل منعطف تاريخي, و كل وسط اجتماعي ثقافي من جهة اخرى. هذا يعني وضع حد للامتيازات التيولوجية التي خلعتها على نفسها بعض الفئات سابقا باسم الدين الصحيح او الاسلام الصحيح الذي ينفي ما عداه و يرميه في في ساحة الخطأ و الضلال و الزندقة. هذا المنظور البدعوي القروسطي الذي لا يزال سائدا حتى اليوم في قطاعات واسعة من الرأي العام الإسلامي, لم يعد مقبولا من الناحية العلمية و المنهجية.

نجد الفارق عندما نقيس استقلالية الساحة العقلية و الفكرية مع الساحة الأيديولوجية و السياسية. و المفترض عند دراستنا للأخلاقية القرآنية ان نرتفع فوق الأمور السياسية و الايديولوجيات و نأتي بشرح للأخلاقيات القرآنية بحد ذاتها و لذاتها, و ذلك من ضمن منظور معرفي منفتح على الظاهرة الدينية عموما. و يتطلب منا ذلك, الخروج منهجيا و مفهوميا على الاقل من السياج الاتباعي السكولاستيكي الذي خلفه لنا التراثان التيولوجي و التاريخي.

نرى ان هناك مساحة شاسعة للامفكر فيه و المستحيل التفكير فيه في الساحة العربية الاسلامية

الفصل الثاني: دين و دولة و دنيا


نلاحظ بدءا من القرن الخامس الهجري بدأت بشكل متزايد الحاجة للأمن و استتاب النظام في المجتمعات الاسلامية المهددة من الخارج, تضغط على الواقع الداخلي و الحرية الداخلية. فتفرض ضرورة القبول بكل انواع الحكومات ايا تكن مساوئها, و هكذا خضع العلماء الدينيون و خضعت امة المسلمين لإرادة السلطان أو الأمير بحجة ان الخطر على الأبواب و لا مجال للمعارضة او الاحتجاج. و لا زال للأسف الوضع قائم الى الآن, فنرى باسم الدفاع عن الوطن او الأمة او الدفاع عن المقدسات تشرع الاحكام العرفية و تعلق الحريات و تؤجل الديموقراطية و تلغى حياة الفكر.

الحركات الإسلاموية الآن تستند الى الحكايات الاسطورية و تعبئة الجماهير و تجييشهم بها اكثر من مما تستند على الاسلام الكلاسيكي الحيوي الذي نسي تاريخيا بكل تجاربه التأسيسية كتجربة ابن حنبل مثلا. و عندئذ يصبح الدين العتيق بمثابة الصورة المثالية للمتخيل الاجتماعي , اكثر مما هو حقيقة تاريخية مستعادة.
الأسلام لم مايجب كل ما قبله كما يتوهم الكثيرون فما قبله عاد و انبعث بكل قوة. فالعادات و البنيات القبلية مع استراتيجيات العداء و التحالف التي تنطوي عليها, استطاعت ان تستمر في البقاء, على الرغم من الجهود التي بذلتها الدولة الاسلامية لازالتها و تجسيد وحدة الامة تاريخيا, و جمع شملها على ارضية روحية. و لا تزال العصبيات القبلية و العشائرية و العائلية حتى يومنا هذا, تتحكم الى حد كبير بتركيبة النخبة الحاكمة في البلدان العربية و طريقة ممارستها الحكم. و لا تبدو المؤسسات السياسية الحديثة, التي اقيمت مؤخرا ضمن الواقع الراهن, الا بمثابة واجهة شكلية للحفاظ على المظاهر الحقيقية و واقع الامور: اي حجب الآليات الحقيقية لاقتناص السلطة السياسية و الاقتصادية و ممارستها و ابتمتع بامتيازاتها. فوراء قشرة الحداثة السطحية تقبع كل قبلية المجتمع و عصبياته.

و عندما نريد ان نطبق نموذج المدينة تصبح هناك مشكلة أخرى, تتمثل هذه المشكلة في النقطة التالية: ان التوصل الى تجربة المدينة و معرفتها على حقيقتها يبقى مشروطا بكتب التاريخ الاسلامية الكلاسيكية ذات النقص و الفجوات و الثغرات الكبيرة.

بعدها انتقل الفكر الإسلامي من رؤية الخلافة الى تطبيق الشريعة دون النظر الى الخليفة.
اما في الفكر المعاصر فاصبح دور المزاودة المحاكاتية على نموذج المدينة الاعلى الذي تقوم به الحركات الاسلامية المتنافسة حاليا على السلطة. لقد قدم لنا القرن التاسع عشر امثلة عديدة على هذه الظاهرة و تلك الحركات التي تعتمد اساسا على تجييش المتخيل الديني. فكل واحدة تزاود على الاخرى في انها الاكثر وفاء و اخلاصا لمبادئ التجربة التاسيسية او النموذج الاعلى, او الاسلام الصحيح.

لقد استبطن الشعب هذه السلطة الطاغية و خنع لها الى درجة انها اصبحت شيئا بدهيا او تحصيل حاصل. اصبحت شيئا يستعصي على الاصلاح . و هذه هي المحصلة الاكثر دواما و ثباتا لقرون عديدة متتالية من العسف و الاضطهاد. فعندما يتعود الشعب على الاستبداد لفترة طويلة جدا ينسى طعم الحرية بل و يستنكره.

نلاحظ حتى اليوم ان قلة من القفين العرب و المسلمين يجرؤون على نقد السياسة الاجتماعية و الاقتصادية للنظام السياسي القائم بشكل مفتوح و صريح. فهم ينتظرون ان يفعل الزمن فعله كما فعل اسلافهم في القرن التاسع عشر. انهم ينتظرون و يتوخون حصول الانفجارات الاجتماعية في لحظة ما لكي تودي بالطغاة و الظالمين و المستغلين لقوت الشعوب, و لكنهم يعلمون بالحدس ان طغاة آخرين سوف يخلفونهم...و هكذا يطول الانتظار, و يستمر الظلم و يصبح تعطيل الحريات و كأنه قانون الدهر.
لم يستطع المثقفون ان ينقدوا العقلية الطائفية بالمعنى الجذري و الفلسفي لكلمة نقد, فالنقد لا يزال ضعيفا او انه غير موجود.

دائما ما ينتفض المخيال الديني لكل المناضلين الاسلاميين الحالين بكل حدة و التهاب لكي يقول: لقد اجاب القرآن بوضوح على كل هذه المسائل...انها محلولة و لاتحتاج الى طرح. كلهم يسيرون على الطريق المستقيم نفسه و لا يتسرب الشك الى قلبهم. هنا نجد الشعارات الايديولوجية تحل محل الفكر الاخلاقي و السياسي المسؤول. اين هو الفكر النقدي القلق المتسائل الذي يخشى الله و الحقيقة؟
كيف نفسر اذن حصول تلك القطيعة الجذرية على الاقل على المستوى القانوني بين الكنيسة و الدولة في الغرب؟ ثم كيف نفسر حصول العكس في الناحية الاسلامية حيث نجد تشابكا و ترابطا اكثر فاكثر بينهما؟ هل من العدل و الصح ان نقول بأن المسيحية كانت قد اعتمدت الفصل منذ البداية لأن يسوع المسيح قد اوصى (بان ماقيصر لقيصر و مالله لله) هذا في حين ان تجربة المدينة النبوية قد فرضت منذ البداية ايضا اتجاها معاكسا؟ هذا هو السؤال, بمعنى هل هناك شيء خاص في الاسلام , اي شيء ازلي يمنع العلمنة. في حين انه غائب في المسيحية.

فأي صعود للديانة المسيحية اتى معه صعود للظلام. ان الدرس الذي نستخلصه من كل هذه التطورات التي حصلت في الغرب, هو ان الافكار تعيش و تنتج آثارا ثورية عندما تلبي احتياجات طبقات اجتماعية قوية بما فيه الكفاية. و متماثلة و منسجمة الى الحد الذي يتيح لها امكانية فرض احترام الحقوق الجديدة. و هذا مالم يحصل حتى الان في المجتمعات العربية و الاسلامية.

ان الاسلام يتعلمن على اوسع نطاق من قبل ممارسة هؤلاء الذين يعتقدون انهم يعيدونه الى الساحة من جديد, بكل صفائه الاولي وفعاليته التي حلمت بها اجيال المسلمين دائما و أجلت دائما. مايحصل الان من احداث سياسية هائلة باسم الاسلام هو اكبر عملية علمنة تحصل في التاريخ.

نرى ان الكتابات التبجيلية تحظى بنجاح واسع لدى جمهور المسلمين و العرب. فهم يكرمون الغربيين الذين يعتنقون الاسلامو يحتفلون بهم, كما لو ان الدين لا يزال بحاجة لبراهين جديدة من هذا النوع لترسيخ عظمته و حقيقته؟!..و لكن اكثر الناس لا يعلمون, كما يقول القرآن عن حق و صدق.




الفصل الثالث: الرؤى الاخلاقية و الحس العملي العفوي و المباشر

ان الفكر الكلاسيكي في الاسلام اكثر جدية بكثير من الفكر المعاصر, فنرى الحضور الطاغي و المهيمن للرؤيا الاخلاقية في الثقافة الاسلامية الكلاسيكية.
هناك نمطين من انماط الخطابات الأخلاقية, و كل منهما يتفرع الى تيارين اثنين:

- الخطاب المعياري السردي:
أ- التيار الديني:
هذا النوع من الخطاب يؤدي الى تقديس كل مايخص الاعمال و الاخلاق الدنيوية البحتة. ففي المجتمعات التي يسود فيها الاسلام نلاحظ حتى الان الممارسات الاكثر دنيوية و مادية يُخلع عليها رداء التقديس و الحرام.
و هدفها المعلن صراحة ضمان الخلاص الابدي في الدار الآخرة لكل مؤمن. و اما الاستقرار الاجتماعي في هذه الدنيا فهو ليس الا هدفا مؤقتا و عابرا و ان يكن مفيدا. و على اي حال فان بلوغه حاصل بمجرد ان يتمثل الناس الباعث الاساسي و الغاية القصوى من الوجود بحسب التعاليم و النصوص.
و ينبغي ان ندرس مجريات هذه العملية , و كيف تغلب الخط الصوفي, خط الطرق و التكايا في الاسلام, بدءا من القرن السادس الهجري بالذات على غيره من الاتجاهات. و هذه الدراسة مهمة جدا لكي نتوصل الى معرفة المنشأ النفسي و الثقافي للمتخيل الاجتماعي الاسلامي الذي اصبح قوة تجييش تاريخية كبرى فيما بعد. فقد اصبح من السهل استنفار هذا المتخيل في القرنين التاسع عشر و العشرين عن طريق الاشخاص الذين اتخذوا لقب المهدي و عن طريق الوعاظ الدينيين و القادة السياسيين لمقاومة الغزو الاجنبي.

ب- التيار الدنيوي:
تساهم الادبيات الاخلاقية و السياسية المعيارية في ترسيخ وعي الأمة و توطيده. فلذلك نفهم جيدا لماذا تستشهد هذه الكتب بالاحاديث النبوية دون اهتمام يذكر بمسألة صحتها او عدمها. و لماذا تستشهد بالقصائد الشعرية دون ان تذكر اسماء مؤلفيها, بل تكتفي بالقول "قال قائل"..فالشيء الذي يهم مثل هذا النوع من الكتب الاخلاقية و التلقينية هو تمثل القيم المشتركة من قبل كل اعضاء الامة و احساس كل قارئ, او كاتب بعاطفة الانتماء الى الامة نفسها التي تعتمد على المثال الاعلى نفسه من المعرفة و السلوك الاخلاقي.
ينبغي قلب الواقع ايضا لكي يساير انقلاب الفكر. فالأنسية العربية مرتبطة بازدهار العقل الفلسفي و سقوطها مرتبط بسقوطه.

- الخطاب المعياري التحليلي:
نلاحظ ان المدرسة الحنبلية سيطرت على الطبقات الشعبية لأنها تجنبت المناقشات الكلامية الدقيقة.
هناك سمة مشتركة اخرى لدى كلا الطرفين, او كلا الموقفين هي تبعيتهما للنصوص القديمة التي تعود الى ماض تأسيسي و افتتاحي. ففي حالة الفقهاء او رؤساء المذاهب هناك عودة مستمرة الى النصوص الدينية, و في حالة الفلاسفة هناك عودة مستمرة الى النصوص الفلسفية. لذلك لم يكونوا الفلاسفة اكثر منجاة من الفقهاء من الوقوع تحت تأثير اللعبة المجردة للأفكار الذهنية و نسيان الواقع. فكثيرا ما ينسيهم اهتمامهم بالتعليق على افكار ارسطو من مراقبة الواقع العربي – الاسلامي ذاته و دراسة مشاكله الفعلية.
عند دراسة الاخلاق و المجتمع, نرى ان الجمود سابق على الاستعمار و اقدم منه بكثير, و ربما لم يكن الاستعمار ذاته الا نتيجة من نتائجه. فعندها نرى انه من الواجب ان نقوم بنقد انثروبولوجي و فلسفي للدين و الرؤى التي يلهمها او يفرضها.

الفصل الرابع : الرؤى السياسية و التاريخ المحسوس

نلاحظ في الفكر الإسلامي مدى هوس المتخيل الاخلاقي و السياسي الاسلامي بمفاهيم الدولة, و الشريعة , و السياسة , و الملك , و العدل و ينبغي ان نضيف لها ايضا الخلافة و الامامة. فنرى الآن تحول دولة المدينة الى مثالا نموذجيا اعلى يتحكم بوعي كل المسلمين, لدرجة انه فقد تاريخيته, او طابعه التاريخي المحسوس لكي يتحول الى مثال تقديسي اكبر خارج التاريخ. و هذه هي مأساة الوعي القائم على المتخيل. اي الوعي الاسطوري. انه يرفض الاعتراف بالواقع و تعقيداته , فيفاجـأ بالتناقض الصارخ و الهائل بين المثال و الواقع.
من الضروري ان نؤسس علم اجتماع الأمل, نقصد به دراسة الآمال و التطلعات التي حلم بها المسلمون عبر الأجيال, و ملأت عليهم اقطار وعيهم دراسة سوسيولوجية متينة تشمل مختلف الفئات و الطبقات الاجتماعية. فبعض القادة استغلوا عاطفة الأمل و عرفوا كيف يحركوها.

ينبغي ان نعلم ان الحياة لا تنتظر و لا تعرف الانتظار. فمطاليبها و حاجياتها تتطلب الاشباع, و اذا لم تشبع فورا, او في الوقت المناسب فانه هذا الانتظار يتحول الى احباط. و الاحباط يقود المرء الى ان يرمي نفسه في احضان الوهم و الامل الطوباوي الذي يشكل العزاء الأخير في زمن لا عزاء فيه. نقول ذلك و نحن نفكر بتلك الشعوب العربية والاسلامية و بالملايين من شبيبتها الصاعدة التي تدق على ابوابنا اليوم بكل آمالها و رغباتها و تطلعاتها و لا احد يفتح الباب. كيف يمكن ان نلوم هذه الجماهير الواسعة من الشبيبة اذا ما قذفت بأنفسها في احضان الايديولوجيات الاسلامياتية التي تقدم لها الامل بالخلاص؟ كيف يمكن ان لا نفهم وضعها و هي تحترق انتظارا لكي تدخل العالم الحديث بكل رغباته و جاذبيته و استهلاكه؟ عندما تفقد هذه الشبيبة الأمل في كل شيء فأنها سترمي بنفسها في احضان الايديولوجيات التي حركت آباءها و اجدادها من قبل. و لكن المصيبة هو ان هذه الايديولوجيات لن تحل لها مشكلتها و انما ستزيدها استلابا و تفاقما.
الظواهر التي تحدث الآن ليست دليلا على عودة الدين او العامل الديني كما يوهمنا بذلك الخطاب الصحفي الغربي السريع و السطحي, و انما هي دليل على شيء آخر معاكس تماما. فما يحصل الآن في المجتمعات الاسلامية و العربية هو عبارة عن استخدام عنيف و متطرف للمفردات و الشعارات و المرجعية الدينية, من اجل تمويه و تغطية علمية العلمنة و الدنيوة الجذرية. التي هي الآن في طور الحصول في هذه المجتمعات. هكذا ينبغي ان نفهم ماحصل في السنوات الاخيرة, و من الخطأ ان نعتبره دلالة على عودة الاسلام. فالاسلام لم يكن غائبا عن هذه المجتمعات في اي يوم من الايام حتى يعود الآن.

في الواقع, ان الفكر الاسلامي لم يستطع من خلال خطيه الكبيرين الشيعي و السني, ان يموضع المناقشة حتى يومنا هذا على الصعيد الصحيح لايجاد حل او منفذ. بل ظلا يحاربان بعضهما بعضا بذات أسلحة و محاجات القرون الوسطى المكرورة المملة, التي لا تضيف شيئا و لا تزحزح الصخرة من مكانها. لقد فشلا في موضعة المناقشة على الصعيد التاريخي المحض اولا: اي على الصعيد الذي جرت فيه بالفعل. فكلا الطرفين يعلنان بكل حماس ديني و اعتقاد يقيني, الصحة التاريخية للنصوص المحتجة بها. في الوقت الذي نعلم فيه ان نقل هذه النصوص هو بالذات عرضة للجدال و الخلاف! بمعنى آخر فأن مايحتج به هو نفسه موضع خلاف و اخذ و رد. و اذا كانت هذه المناهج الحديثة للنقد التاريخي عاجزة عن تحقيق الاجماع حول صحة النصوص و نقلها بسبب ضياع الكثير من الشهادات و الوثائق عن تلك الفترة الحاسمة من تاريخ الاسلام, فأنه لم يبق امامنا الا اتباع طريق آخر. يتمثل هذا الطريق بالمقارنة و المقارعة بين الفلسفتين السياسيتين المتضمنتين في النظرية السنية و الاخرى الشيعية حول مسألة الخلافة و الأمامة. نقول هذا, دون ان يعني ذلك التخلي عن النقد التاريخي للنصوص و نقلها, على الرغم من النقص الكثير من الوثائق و الشهادات. و على الرغم من رفض المسلمين المؤسف للمناهج الحديثة لهذا النقد التاريخي الاكثر من ضروري. ان هذا العمل المزدوج من النقد التاريخي و التحليل الفلسفي المتحرر من كل اسبقية دوغمائية, او تيولوجية, يشكل احدى المهمات الكبرى المطروحة على الفكر العربي و الاسلامي اليوم بشكل اكثر من ملح.

231 صفحة
تم النشر بواسطة دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع ، (منشورات أولى 1988)
بقلـم محمد أركون ، هاشم صالح (ترجمة النتائج)
الحجم: 8.9 MB


اقرا كتاب الإسلام الأخلاق والسياسة لمحمد أركون PDF :



تحميل مباشر كتاب الإسلام الأخلاق والسياسة لمحمد أركون PDF :


او

ليست هناك تعليقات