الاستقصاء بالوضع دافع عن صدق الأطروحة القائلة بأن انطباق الفكر مع الواقع يقتضي استبعاد الأحكام المسبقة


ملاحظة: اعتماد طريقة الاستقصاء بالوضع للإجابة عن هذا الموضوع، لأن صيغته تبحث عن كيفية إثبات صدق الأطروحة القائلة بأن انطباق الفكر مع الواقع يقتضي استبعاد الأحكام المسبقة، وتحطيم رأي خصومها الذين أكدوا أن الفكر في انطباقه مع الواقع يعتمد أحكاما قبلية غير مؤكدة بالتجريب.
 I - المقدمة:(طرح المشكلة)
إن الحديث عن الأحكام المسبقة هو حديث عن تلك الآراء والتصورات التي يكونها الذهن بصورة أولية قبلية عن الأشياء، هي أفكار سابقة عن التجربة وظفها المجرب قصد استنطاق الظواهر الطبيعية. لكن حتى وإن بدا نوع من التقارب بين الدارسين حول ضبط مفهومها، فإن اختلافهم قد سجل تحديد أثرها على البحث العلمي، خاصة وأنه قد شاع الزعم عند بعضهم أنها ضرورية كمنطلق للبحث التجريبي. بينما الصواب فيكمن في أنها مقيدة بتأثير الثقافات والمعتقدات، هذا ما يجعلها أحكاما ذاتية إيديولوجية غير موضوعية، يكمن الصواب في أن العلم الحقيقي يفرض التعامل مع الظواهر كما هي في الواقع والتخلي عن الأحكام التي تغرق الدارس في  متاهات الخيال. لذا  فكيف يمكن التأكيد على صدق هذا الطرح؟ وما هي الأدلة والبراهين التي تثبت أن انطباق الفكر مع الواقع يقتضي الاستبعاد التام للأحكام المسبقة؟ وما هي الأخطاء المنطقية والمعرفية التي وقع فيها المخالفون لهذا الاعتقاد؟

 II - التوسيع:(محاولة حل المشكلة)
                                 1–  عـرض مـنطق الأطـروحة:
تعد الأطروحة موقفا أسسه فرانسيس بيكون وأنصار النزعة التجريبية في العلم والذين توصلوا أن انطباق الفكر مع الواقع يقتضي استبعاد الأحكام المسبقة كونها خيالية ذاتية تغرق الدارس في متاهات الخيال، بينما العلم الحقيقي يبحث عن التعامل الواقعي الموضوعي مع الظواهر. أكدوا ضرورة الاستغناء عنها انطلاقا من أنها تعد من أهم أسباب عقم المنطق الصوري، وعدم ارتقائه إلى مرتبة العلم الحقيقي. هذا النقص دفع فرانسيس بيكون إلى الحذر من أثرها السلبي عند تأسيسه لمشروع الأورغنون الجديد، والذي وظف فيه النسق الاستقرائي قصد ضمان الانطباق التام بين الفكر و الواقع.
                                   2 -  إثبات الأطروحة بالحجة والبرهان:
انطباق الفكر مع الواقع يقتضي استبعاد الأحكام المسبقة، لأنها كانت سببا في عدم مسايرة المنطق الصوري للواقع المتغير، هذه الرؤية وجدت عند فرانسيس بيكون كونه أرجع عقم الأورغنون إلى سيطرة جملة من الأوهام على العقل الإغريقي عامة، وعقل أريسطو خاصة، وهذه الأوهام هي الكهف، الفن، السوق والقبيلة. أوهام ترغم الدارس على الاعتقاد بمكانة الخيال، ترغمه على الوقوع في الذاتية والعشوائية في البحث، ترغمه على تجاهل النقد والتجديد. لذا أبعد فرانسيس بيكون الأحكام القبلية في مشروع الأورغنون الجديد من أجل ضمان انطباق الفكر مع الواقع والتأسيس للعلم.
 المنهج التجريبي يبحث عن التعامل مع الظواهر كما هي في الواقع، وليس كما يتصور الذهن. وهذا ما استدعى اعتماد النسق الاستقرائي التجريبي والتخلي عن الآراء القبلية التي تعد مخالفة لخصائص الروح العلمية. هذه الرؤية وجدت عند غاستون باشلار، لأنه قال:"العلم الطبيعي المعاصر سواء في بحثه عن الاكتمال، أو من حيث المبدأ يعارض الرأي معارضة تامة".
انطباق الفكر مع الواقع يقتضي التخلي عن التخلي عن أي نوع من الأحكام القبلية، لأن جون ستيوارت مل توصل أنه حتى الفرضية مادامت نوع من الأحكام السابقة عن التجربة، فإنها تؤثر سلبا على البحث التجريبي، لذا أسس رفضا لها واستبدلها بقواعد الاستقراء فقال:" لا أتخيل فروضا". نفس الرؤية وجدت عند ماجندي، لأنه رفض الفرضية بحجة أنها تغرق الدارس في متاهات الخيال، فقال مخاطبا تلميذه كلود برنارد : " أترك عباءتك وخيالك عند باب المختبر".
                                   3-  نقد خصوم الأطروحة:
لكن في المقابل للأطروحة التي نحن بصدد الدفاع عنها، نجد موقفا معارضا قد أكد أنصاره أن انطباق الفكر مع الواقع يقتضي اعتماد أحكام قبلية سابقة عن التجربة، وهي مبادئ يستحيل أن يستقيم البحث التجريبي من دونها. هذه الرؤية وجدت عند شوبنهاور ، لأنه تحدث عن قيمة مبدأ السببية كمبدأ فرضه نظام الكون كوسيلة لفهم الظواهر، كذلك تحدث بن رشد عن قيمة الاطراد كمبدأ ضروري لضمان انطباق الفكر مع الواقع، إذ قال :" مهمة العقل ليست شيئا أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها، فمن رفع الأسباب رفع العقل". كذلك تحدث كلود برنارد عن قيمة مبدأ الحتمية  كمنطلق لتأسيس العلم، إذ أشار أن إنكار الحتمية يعد إنكارا للعلم،  وهو ما أكده أيضا هنري بوانكاري في قوله:" العلم حتمي وذلك بالبداهة ، إذ لولاها لما أمكن للعلم أن يكون".
  لكن وعلى الرغم من أهمية طرح هؤلاء، إلا أنه لا يمكن التصديق بما ذهبوا إليه، لأن العلم الحقيقي يفرض التعامل الواقعي مع الظواهر وإبعاد كل الأحكام التي من شأنها أن تغرق الدارس في متاهات الخيال أو توقعه في الذاتية المخالفة لخصائص الروح العلمية. حقا الكون يتميز بالتنظيم والظواهر ترتبط بأسباب، لكن من العبث أن تكون هذه الأسباب الثابتة مسايرة للواقع المتغير. بل قد تتوفر نفس الأسباب لكن لا تحدث نفس النتائج وهذا ما جعل أنصار الفيزياء المعاصرة يطبقون فكرة الاحتمال ويتجاهلون مبدأ الحتمية الذي اعتبره هنري بوانكاري من بديهيات العلم.كل هذا يعني أنه للقضية تفسيرا آخر ، تفسير يتماشى مع الأطروحة التي نحن بصدد الدفاع معها.
III - الخاتمة:(حل المشكلة)
ختام القول يمكن التأكيد أن فرانسيس بيكون أسس مشروع الأورغنون الجديد وطبق النسق التجريبي الاستقرائي من أجل التعامل تحقيق التعامل الموضوعي  مع الظواهر والتأسيس العلم الحقيقي. ولما كان العلم يقتضي التعامل مع الظواهر كما هي في الواقع، فإنه يقتضي أيضا التخلي عن كل الأحكام التي قد تغرقه في متاهات الخيال، أو تبعده عن الموضوعية العلمية. ومن ذلك نستنتج أن الأطروحة القائلة بأن انطباق الفكر مع الواقع يفرض الاستغناء التام عن الأحكام المسبقة. هي أطروحة صادقة وجديرة بالدفاع عنها، وكل أطروحة مخالفة لها فهي باطلة ولا يمكن الأخذ بها

ليست هناك تعليقات