رواية نشيد الفراشة




ملاحظة :رواية نشيد الفراشة غير مكتملة

للإعلامي والروائي الجزائري/ مراد بوكرزازة
كل الحكاية بدأَتْ حين استلمتُ هذا الصباح رسالةً تبدو شخصية إذ من عادتي أن أستقبل مثل هذه المكاتيب على عنوان البيت فلا تصلني هنا بالعيادة غير بعض الدعوات لملتقيات أو أيام دراسية طبية أو الفواتير الخاصة بالكهرباء والغاز. أمسكت بالظرف، حاولت أن أجد اسم المرسل أو عنوانه،لم أعثر على شيء، وضعتُه جانباً ثم نظرت للساعة،كانت تشير للثامنة إلا سبع دقائق.
بعد قليل ستدخل الممرضة محملة بقائمة المرضى وسيكون علي أن أفحصهم واحداً واحداً وأن أُنصت إليهم حتى وإن كنتُ أعرف الآن من باب التجربة أن جُل المرضى بحاجة لمن ينصت إليهم، بيْدَ أني كلما قمتُ بفحص أحدهم اكتشفتُ أنه لا يعاني من مرضٍ عضوي قدر معاناتِه من عُزلة أو عدم تفهم، وأنه لم يجد من يستمع إليه كما يجب.
فيكفي أن أطرح سؤالاً واحداً في الغالب
إني أراك تُرهق نفسك أكثر مما يجب
فيفيض المريض-غالباً- بكل مشاكله وهي في الغالب معضلاتٌ اجتماعية فرضها الفقرُ من جهة وغلاءُ المعيشة من جهة أخرى بدليل أنه يكفي الآن –وبعد هذه السنوات- أن أنظر لأحدهم لأعرف حقاً إن كان مريضاً أم أنه بحاجةٍ لطبيب نفساني يملك من الخبرة ما يفجِّر الكلام في حناجرهم.
عدتُ ثانيةً لأتفحص الظرف
فوجدتُ طابع بريد جزائرياً وختم بريد قسنطينة، فكرتُ للوهلة الأولى أن الرسالة من أخي الذي يعيش بفرنسا أو أختي التي تزوجَتْ ببريطانيا وفضلتْ السفر دون عودة لكني عدت وتذكرتُ أنهما لم يكتبا لي يوماً على عنوان عيادتي وإنما نكتفي بالهاتف ونادراً ما يفعلان ذلك معي على عنوان البيت.
وما زاد في حيرتي أن الخط الذي دوَّن اسمي ولقبي وعنوان عيادتي هو خطٌ متواضع جداً.
تُرى من كتب إليّ؟
لماذا عنوان العيادة؟
ولماذا هذا التوقيت بالذات؟
كنتُ سأفتح الظرف لأعثر على كل الإجابات الممكنة لكن الممرضة التي دخلَتْ ومعها اسم المريض الأول أجلَتْ الحكايةَ إلي حين.
صورٌ تذكارية
نسيتُ أن أقدم لكم نفسي
انا الدكتورة سماح بن ايدر طبيبة مختصة بأمراض القلب، اشتغلت بالمستشفى الجامعي لقسنطينة لسنواتٍ عدة...سنوات تعلمتُ فيها الشيء الكثير بيْد أني عملتُ طويلاً بمصلحة الاستعجالات وفيها رأيتُ الويل فقد كنت أصادف مرضى حقيقيين تماماً كما صادفتُ مرضى الوهم الذين يعانون إرهاقاً أو بعض المشاكل الأسرية؛ فيَدخلون المصلحة وهم يضعون أيديهم على قلوبهم في إشارةٍ واضحة لما يعانونه لكن الفحص ولدقائق معدودة يكشفُ زيف اعتقاده.
وقد كنت أنزعج- أو ربما أخشى – العملَ الليلي أكثر.
ففيه قد أجد نفسي أمام سكيرٍ عنيف أو منحرف تناول كميةً كبيرة من الحبوب المهلوسة وبالتالي يصعبُ الكشف عليه أو حتى الاقتراب منه. وفي الساعاتِ المتأخرة من الليل كنت أجلس بغرفتي في غيابِ الحالات الطارئة أختلي بكتابٍ علمي أو رواية.
تأخذ القراءةُ عند آخر الليل أو في ساعاتِ الصباح الأولى بُعداً أسطورياً بيْد أني لا أُعيد كتاباً لمكتبتي الصغيرة قبل أن أُنهيَه أو أفتح رواياتٍ جديدة.
لهذا لم أتخلص حتى اليوم من عادةِ القراءة.
أَقرأُ كل ليلةٍ خمسين صفحة على الأقل حتى أتمكن لاحقاً من النوم، كما كنتُ أكتب بعض المذكراتِ عن تلك الليالي.
لا ازعم أني كاتبةٌ محترفة أو جيدة؛ الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تدوين للحظاتٍ مكثفة وممتلئة عن آخرها، إذ كنتُ أذهب لاول بياضٍ بالجوع الأول أتخلصُ من ملامح رجل فارق الحياةَ أو امرأة تم تحويلها لقسم آخر على عجل ولا أعرف إن ظلَّتْ على قيد الحياة أو أنها فارقَتْها بمجرد تخطي عتبة أمراض القلب.
في مكتبي اليوم عشرات الكتب ...عناوين لرواياتٍ قرأتُها يوماً ينهم وأخرى تنتظر على قائمة قادمة.
نسيتُ-مرة اخرى- أن أُقدِّم لكم نفسي أكثر ..
أنا البنت الصغرى لعائلةٍ تتكون من ابنتين وأخٍ أكبر.
تزوج أبي أمي وهي لم تتجاوز الرابعة عشر من عمرها بباديةٍ بالشرق الجزائري-كما روَتْ لي- لاحقاً لم يكن رحيماً بها؛ كان يدخلُ البيتَ بوجهٍ متجهِّم في الغالب، إن لم يضرب أمي بسبِّ أو دونه عنَّفَنا –أختي وأنا وأخي الأكبر. لهذا لا أحملُ معه الكثير من الذكريات فقد كان رجلاً غريباً بالنسبة لي في الوقت الذي كان يفترض أن يكون الكائن الأول في حياتي؛ فلا عجب الآن أن أضع بمكتبي صورةً مكبرة لأمي لأختي ولأخي، أعودُ إليها كلما هدأَتْ العيادةُ أو كلما اختليتُ بنفسي.
أقرأُ ملامح كل واحدٍ على حدى وأقول في سري
ربما كان الوضعُ سيكون أحسن لو أن.....
عيادتي تقع بقلب قسنطينة وفي شارع رئيسيٍ كبير يعرفه جيداً أهل المدينة إذ يكفي أن أطل من نافذة غرفة الفحص لأصطدم بحركية الشوارع والسيارات التي تجيء وتذهب لكل الدنيا .
أجد أحياناً متعة لا تضاهى وأنا أختلي بالشارع إياه حين تخف حركة السير ...أقف طويلاً بالقرب من الستار أطل أحياناً وأغفو في أحايين أخرى وغالباً ما أراقب المشهد كله ثم أنتهي للمطبخ الصغير أحضر قهوة - ثقيلة - وأجلب كرسياً وأغوص في تفاصيل المدينة.
تتغير الملامح بالشارع مع تغير المواسم وإن كنت أفضل الشتاء أكثر.
يأخذ محمد بلوزداد شكل الخرافة كلما تهاطل الثلج به.
دونما مقدمات أجدني – بمثل تلك الأيام – أحمل كتاباً بعد مغادرة المرضى والممرضة للعيادة أقلب صفحاته وأنسى تعب النهار كله إذ أتفاجأ أحياناً بحلول الليل وأنا أتعاطف مع كل الكائنات الورقية التي أصادفها بين كل سطر وألم .
أعمل بهذه العيادة منذ تسع سنوات تقريباً..
أحب جدرانها جداً
أحب حجراتها الأربع
تماماً كما أحب مكتبتها وكل التفاصيل الصغيرة التي راعيتُ شخصياً ترتيبها للحد الذي صرت أشعر - مع الوقت - أن للمكان حميمية خالصة بدليل أنني كلما غبت بعطلة نهاية الأسبوع ..اشتقتُ له جداً.
هنا - بهذه العيادة - عرفت المدينة كلها تقريباً.
هنا بدأت مسيرتي المهنية
هنا التقيت ببعض النماذج البشرية التي ما توقعت يوماً لقاءها
وهنا اختليت بنفسي في صلاة عميقة
وهنا أحاول الآن أن أدوِّن مذكراتي الشخصية وأزعم بعدها أني تركت أثراً يدل عليّ.
أختلي بشجن لا أعرف كيف أفسره في آخر هذا المساء وأجدني في مواجهة الرسالة التي وصلتني هذا الصباح ..أعود ثانية لظرفها أقرؤه بتمعن كبير وفي لحظة أفتحها على عجل علِّي أعرف من كتب إليَّ وماذا يود أن يقوله لي.
أصطدم بالتاريخ 21 سبتمبر2012
انظر للأجندة أجدها تشير ل14 اكتوبر 2013
هل يمكن لرسالة أن تأخذ أكثر من سنة للوصول؟
ألتهمُ حروفها بسرعة رغم صعوبة الخط وأتوقف عند جملتها الاولى
(من يدفن كل مرة خيبة جديدة ويدعي أن لا شيء حدث لماذا لا يحاول أن يدفن جثته دفعة واحدة ويتخلص من كل الذي يحدث له).
أرعبتني الحروف الأولى
توقفتُ عند الجملة الثانية
( تهب الريح أحياناً من نافذة لا نتوقعها .. تعبر جمر الروح تنفخ في جذوتها فتشتعل الحرائق من كل الدنيا وتلتهمنا النيران).
أمد يدي لقنينة الماء التي تربض على مكتبي أسكب كأساً عامرة، أبتلع نصفها دفعة واحدة ثم أعود للجملة الأولى فالثانية.
أغرق بعدها في بقية السطور
وعند كل جملة كان لغم ما ينفجر بشكل لا أستوعبه
أعود لكأس الماء ثانية كأني عبرت الصحراء كلها.
أبحث في ختامها عن توقيع ما أو اسم يدل على صاحبها فلا أعثر له على أثر
أنغمس ثانية في السطور وأكتشف مع كل جملة حريقاً إضافياً.
أضعها جانباً ..أرقب حروفها كمن يشاهد انقلاباً مفاجئاً بالجو ..أحاول أن أحتمي من أمطارها الغزيرة فلا أجد ملاذاً أختبىء به.
أغادر قاعة الفحص ..أطل من النافذة على الشارع..أجده خالياً إلا من دهشتي تلك اللحظة..أشعر برجفة تسكن أوصالي أعود ثانية لقاعة الفحص وأقرب المكتب بحذر شديد وبالأصابع المرتجفة أحمل الرسالة ثانية.
لا أقرؤها بالترتيب
أقرأ جملها التي بدت لي كأنها حكمة عمر تسكن بالحروف لعلها تتجلى وأتوقف عند سطرها الخامس
( ثمة بشر يموتون بلحظة ما..تحدث نهايتهم في صمت غير متوقع..لكنهم يواصلون وفاءهم لعاداتهم اليومية اعتقاداً منهم أن الحياة مازالت متواصلة).
أكف عن القراءة
أسند رأسي لجهة الكرسي العليا وظهري الرسالة.
أترى من كتبها؟
من دججها بهذا الشكل؟
لماذا أرسلها لعنواني بالعيادة مع أنه ليس من عادتي أن أتلقى الأمور الشخصية على عنوان العيادة.
تزحدم الأسئلة في حلقي فأقف في المسافة الفاصلة بين الرسالة وحيرتي
أحمل حقيبة يدي وأغادر.
ليلاً
كنت أختلي بالرسالة كأني اختلي بقطعة من روحي..انظر مطولا لظرفها لطريقة كتابته
ثم أتأكد ثانية أن المقصودة بها هي حقا أنا.
أفتحها بحذر مرة اخرى
اقرأ جملها دفعة واحدة كمن يتغابى أمام حكمها التي تطل رصاصات لا يمكن أن تتفادى الهدف ..اكتشف أني حفظتها تقريباً عن ظهر جرح..
الذي يدفن كل مرة خيبة جديدة
تسقط الجملة القاسية على روحي بردا يدفعني لأن أتدثر أكثر من صقيع اللحظة
تهب الريح من نافذة لا نتوقعها
تقف الجملة الثانية أمامي بشرا من خيبة وشجن.. الملم كل الشظايا التي تناثرت بمكان ما ومن جمر قديم أفر لسريري استلقي عليه ..أنشغل بالسقف كأني اراه للمرة الأولى وفي الداخل رغبة جامحة لأن أعود ثانية للحروف...الحروف التي وصلتني وفتحت نوافذي على شتاء ما توقعته.
هل نغادر حقاً المحطات؟
ام نكتشف بعد عمر أننا لا نغادر المحطة قدر مغادرتنا لموتنا الذي حدث بها في غفلة من الوقت والناس..
أقوم من سريري ..أجلس لمكتبي
أعود مرة أخرى لتاريخ كتابتها
12 سبتمبر 2012
ترى ماذا حدث بذلك التاريخ؟
أم أن كاتبها يقصد ما حدث قبله؟
لماذا وصلتني بتاريخ 14 اكتوبر 2013
لماذا نامت سنة كاملة بصندوق بريد ثم في لحظة قررت أن تستفيق؟ ..أن تطلق رصاصها دفعة واحدة
أقف الآن في مفترق الذكريات
أدعي أن لا شيء حدث على الإطلاق وأن رجلا ثقيل الدم قرر بلحظة أن يعكر صفو الداخل بكذبة سخيفة لكن جملها العميقة تفتح الشبابيك أمام ريح عاتية فأهرب لأول بلادة أصادفها لعلي لا أتقاطع معي أمام مرآة تصرخ في وجهي بكل الحقيقة .
تتهاطل الأسئلة مجددا
إن كان صاحبها يحمل كل هذه الحكمة فلماذا كتبها بخط متواضع جداً؟
هل يمكن أن يكون بهذا المستوى البسيط ويوقع هذه الجمل المذهلة.
أهرب من لحظاتي تلك للمكتبة أحمل كتابا من باب الصدفة أفتحه وألتهم سطوره لكني في ثانية أجدني حبيسة تلك الرسالة.
لماذا تكذب السجون بأسمائها؟
ونحن بالغالب أسرى اللحظة التي اعتقدنا واهمين أننا غادرناها دون محاكمة ودون شهود.
أدخل عيادتي هذا الصباح يرافقني أرق ليلة كاملة بت أتقلب فيه على جمر الأسئلة، بيد اني أستيقظت أكثر من مرة مذعورة بالكوابيس التي ظلت تلاحقني .
كلما استيقظت وأسرعت للثلاجة افتحها عليّ أعثر على شيء أشربه..اسكب كثيراً من الماء بجوفي علَ الحرائق التي اشتعلت تنطفىء- قليلاً أو كثيراً- ثم أعود للنوم ثانية غير مدركة للتفاصيل.
لكني عند الفجر 
كنت اقوم مفزوعة من كابوس آخر..اصطدمتُ بالآذان يملآ أرجاء الحي الذي اسكنه..كنت سادخل الحمام واغتسل ثم أقف في حضرة الله مؤمنة تتمادى بالدعاء والابتهال لكني لم أفعل .علاقتي بالله أشرحها لاحقاً وفي سياقها بالظبط -بمنامي- أو كابوسي الأخير- كنت أرى أبي يقف غير بعيد عني ..فجأة يطل من آخر الزقاق رجل شرير ..ينظر إليَّ بخبث ويتقدم مسرعاً بإتجاهي..حاولت مرارا أن استغيت بأبي لكنه لم يسمعني ..وحدها يد الغريب الشرير كتمت أنفاسي واستفقت بعدها.
بعد الكابوس اياه
خفت من النوم ثانية
غادرت سريري وكنت أدخل المطبخ لأحضر قهوة الصباح وفي اللحظة التي كان الابريق يغلي فوق النار كنت أبكي طفلة ضيعت درب العودة لبيتها بمساء شتائي عاصف.
ظلت تلازمني حالة البكاء تلك حتى اتضحت معالم النهار بيد ان الضوء الذي انبعث بالدنيا قلص مخاوفي وبعث بعض السكينة في روحي.
وأمام التلفزيون كنت احتسي قهوة الصباح ودون أن ادري غفوت ربما لنصف ساعة أو يزيد عن ذلك قليلاً،
وحتى حين كنت أرتدي ملابسي وأسوي كحلي أمام المرآة كنت اتساءل
ماهذا الذي يحدث معي؟
لماذا تعود الكوابيس ثانية لتدجج لياليّ الجديدة؟
أي شجن نمت البارحة عليه حتى أدخل هذا النفق الطويل؟
ثم غادرت البيت
ثمة مرضى اضافيين اليوم فهل أقبل برمجتهم؟
كانت الممرضة تسألني وكنت استسيغ فكرتها وأوافق على الفور.
يمكن للعمل أن ينقذني مني ومن ساعاتي المزدحمة بالأسئلة. 
كنت أجيبها
نعم
لكن مريضاً بعد آخر، كنت أتمنى أن تدخل عليّ مريضة في سن أمي فعوض أن أسمعها تحرضني لأروي لها ما يحدث معي منذ سنوات بعيدة، ومنذ كوابيس البارحة وكيف أقف الآن في الموانىء امرأة للمناديل كلها..للدموع كلها تنظر زورقا لا يجيء عله ينقدها من غرقها الأخير...

من مذكرات بعض المرضى
الحالة 302/12
أحببت زوجي للحد الذي لا تقوله اللغة، عانيت كثيرا ليوافق أهلي على زواجنا سريعاً، رزقنا بطفلة كانت كل حياتي لم انشغل بها كنت أذهب إليه بالمواعيد التي لا يتوقع مجيئي فيها لم أر يوماً فيما أقدمه أي انتقاصاً لقيمتي.
بالعكس كنت أمسح أحذيته كل صباح قبل ان يلبسها إيماناً مني أن العاشقة هي هذه.
مضى الوقت سريعا بيننا
لم أتصور ونحن نشعل شمعة زواجنا العاشرة أن الساعة كانت مسرعة لهذا الحد واني سأصير أم طفلته وإبنه الذي جاء لاحقاً -طفل وطفلة- هل هناك أجمل أو أفضل؟
منذ زواجنا وإحدى صديقاتي-متزوجة- تتردد على بيتي كنت اعيرها ملابسي مجوهراتي - وكل اسراري حتى الحميمة منها-
ذات يوم عثرت على قرطها بغرفة نومي لكنني لم اعتقد للحظة
كما اني لم اعتقد للحظة أخرى وأنا اقرأ رسالتها النصية القصيرة بهاتف زوجي-الذي ما فكرت يوما بمراقبته- انها قد ..، لكني حين غادرت يوماً لبيت أهلي كنت مجبرة على العودة لاني نسيت دواء إبني. فتحت الباب بهدوء-غير مقصود- وكنت أعثر عليها رفقة زوجي في لحظة عناق همجية.
لم أطلب الطلاق كما تفعل كل النساء
ولا خربت بيتها. 
عدت لبيتي جثة هامدة لأجل أبنائي
وكل مساء يدخل -الذي كان حبيبي- البيت فلا اجرؤ على النظر إليه 
كلما مضى الوقت يزداد ضغطي إرتفاعا وأشعر قلبي قد ينفجر بين لحظة وأخرى.

الحالة 311/23
كنت أعمل بالإمارات ضمن عقد طويل المدى وكلما قبضت أجري أسرع لأول بنك، أرسل جل راتبي لأخي الذي يكبرني، وكلما كبر رصيدي بالجزائر-.........- كنت أعد الساعات لأجل عودتي سريعاً لأرض الوطن وسنة بعد أخرى كانت الأحلام تكبر.
طلبت من أخي أن يشتري قطعة أرض وأن يبني -لي- بيتاً على ذوقه
وكانت مكالماته تتهاطل علي-ينقصني بعض الحديد وبعض الرمل- وكنت أستدين من زملائي قبل وصول الأجر.
وذات صيف، ملأتُ الحقائب بالألبسة والشوق وعدتُ.
عدت لأحتضن أخي-بعد وفاة أمي وأبي- دخلت البيت الجديد غير مصدق اني سأستقر نهائياً به وأطل من شرفته على حديقته واتذوق ثمار أشجاره الحديثة الغرس.
كنت ألح في طلب الوثائق من أخي، بعد أن امضيت له وكالة أخوله فيها كل الصلاحيات. لكنه كان يتماطل، حين نفذ صبري أنا والا أنت كيفكيف
كان يصدمني.
تذكرت حَر الإمارات. 
ما عانيته في ثلاث سنوات من الغربة والجمر.
كلما خلدت للنوم الآن أشعر أن قلبي الوحيد المستيقظ، إذ يخفق بسرعة أفقد معها وعيي وأتصبب عرقاً غزيراً.

عند آخر النهار كنتُ مرهقة جداً بعد يوم متعب...غادر المرضى تماماً كما غادرت الممرضة. أقف للحظاتٍ أمام النافذة المطلة على الشارع وأتساءل بيني وبين نفسي: ما عدد الذين يتألمون بهذا العالم الفسيح؟
بيد أني أملك هوساً مرضياً بالوجوه وتقاسيمها، وتأتي النظرة بالمقام الثاني.
كلما وجدتُني في زحام الدنيا أقف مطولاً أمام ملامح وجه أقرأ ملامحه بتأنٍوصبر وأُنصت للتجاعيد بدليل أن عيادتي تمتلأ بلوحاتٍ لوجوه أطفال وشيوخ كما ببيتي تماماً.
اليوم - مثلاً- أغلب الحالات التي عاينتُها كنت أركز أكثر على ملامحها ..كيف تبدو وبأي لغات حميمة تفيض.
حالة بعد أخرى كنت أقف عند ألمٍ إنساني كبير..ألم أشعُره بارتعاشة صوت، بارتباك أصابع بفرار من نظرتي، وببكاءٍ خافت أحيانا.
أغادر النافذةَ للمكتب، أجلس للكرسي الوثير وأنظر للتفاصيل.
تبيح الأماكن نفسها للمرء لحظة السكون.
أكتشِفُ أني لم أغسل الستائر منذ فترة وأنه وجب علي أن أغيرَ بعض الكراسي القديمة ثم أتصفح بعض المجلات القديمة.
أقرر في لحظةٍ أنه وجب علي أن أجلب عدداً من المجلات الجديدة فقد اكتشفتُ اليوم -أيضاً- أن غالبية المرضى كانوا يعانون حالة قلقٍ من فرط الانتظار كما أن بعضهم كان مجبراً على المغادرة لمرات عديدة ريثما يصل دورهم.
كنتُ سأدخل الحمام لكني انتبهت أني لم آكل غير قطعة جبنٍ صغيرة بين الواحدة زوالاً والثانية ...عدتُ للمطبخ أفتح الثلاجة وأُخرج علبة مصبرات، تذوقتُ قليلاً منها ثم عزفتُ بعدها عنها.
قررتُ لاحقاً أن أغادر 
ثم في لحظةٍ فاضت الحروف من روحي
هل نُشفى من جراحنا حين نتحدث عنها؟
أي ضريبةٍ ندفعها كلما كنا بمواجهة الكتابة.
أشعر اليوم -أكثر من أي يوم مضى- برغبة في الاختلاء بنفسي، أن أفتح خزائني الأكثر سرية وأن أقرب مرارة الحياة كما هي. بيد أن الكتابة هي حفرٌ للقبر المنسي بكل شجاعة اللحظة ومواجهة الجثة التي اعتقدنا أنها تآكلتْ مع الوقت، ثم المناورة في الاقتراب منها.
ليس أقسى على الكاتب من أن يُشرع نوافذه بعز الشتاء على البرد والريح ويحاول جاهداً أن يرسم لقارىء محتمل ربيعاً لا يعرف زهرَه أو حتى مروجه.
ربما ذهبتُ قريباً لبعض القبور المنسية وحفرتُها في غفلةٍ من الموت لعلي أُشفى ..
وهل أنا مريضة؟
جداً ..
تقول الجملةُ الأولى بمخطوطٍ أراه يشير لي بيده خلف غيمةٍ قاسية.
عند آخر النهار كنتُ مرهقة جداً بعد يوم متعب...غادر المرضى تماماً كما غادرت الممرضة. أقف للحظاتٍ أمام النافذة المطلة على الشارع وأتساءل بيني وبين نفسي: ما عدد الذين يتألمون بهذا العالم الفسيح؟
بيد أني أملك هوساً مرضياً بالوجوه وتقاسيمها، وتأتي النظرة بالمقام الثاني.
كلما وجدتُني في زحام الدنيا أقف مطولاً أمام ملامح وجه أقرأ ملامحه بتأنٍوصبر وأُنصت للتجاعيد بدليل أن عيادتي تمتلأ بلوحاتٍ لوجوه أطفال وشيوخ كما ببيتي تماماً.
اليوم –مثلاً- أغلب الحالات التي عاينتُها كنت أركز أكثر على ملامحها ..كيف تبدو وبأي لغات حميمة تفيض.
حالة بعد أخرى كنت أقف عند ألمٍ إنساني كبير..ألم أشعُره بارتعاشة صوت، بارتباك أصابع بفرار من نظرتي، وببكاءٍ خافت أحيانا.
أغادر النافذةَ للمكتب، أجلس للكرسي الوثير وأنظر للتفاصيل.
تبيح الأماكن نفسها للمرء لحظة السكون.
أكتشِفُ أني لم أغسل الستائر منذ فترة وأنه وجب علي أن أغيرَ بعض الكراسي القديمة ثم أتصفح بعض المجلات القديمة.
أقرر في لحظةٍ أنه وجب علي أن أجلب عدداً من المجلات الجديدة فقد اكتشفتُ اليوم-أيضاً- أن غالبية المرضى كانوا يعانون حالة قلقٍ من فرط الانتظار كما أن بعضهم كان مجبراً على المغادرة لمرات عديدة ريثما يصل دورهم.
كنتُ سأدخل الحمام لكني انتبهت أني لم آكل غير قطعة جبنٍ صغيرة بين الواحدة زوالاً والثانية ...عدتُ للمطبخ أفتح الثلاجة وأُخرج علبة مصبرات، تذوقتُ قليلاً منها ثم عزفتُ بعدها عنها.
قررتُ لاحقاً أن أغادر 
ثم في لحظةٍ فاضت الحروف من روحي
هل نُشفى من جراحنا حين نتحدث عنها؟
أي ضريبةٍ ندفعها كلما كنا بمواجهة الكتابة.
أشعر اليوم-أكثر من أي يوم مضى- برغبة في الاختلاء بنفسي أن أفتح خزائني الأكثر السرية وأن أقرب مرارة الحياة كما هي بيد أن الكتابة هي حفر للقبر المنسي بكل شجاعة اللحظة ومواجهة الجثة-التي اعتقدنا أنها تآكلت مع الوقت- ثم المناورة في الاقتراب منها.
ليس أقسى على الكاتب من أن يشرع نوافذه بعز الشتاء على البرد والريح ويحاول جاهداً أن يرسم لقارىء محتمل ربيعاً لا يعرف زهرَه أو حتى مروجه.
ربما ذهبت قريباً لبعض القبور المنسية وحفرتُها في غفلة من الموت لعلي أُشفى
وهل أنا مريضة؟
جداً.
تقول الجملة الأولى بمخطوط أراه يشير لي بيده خلف غيمة قاسية.
بعض القصاصات القديمة
القصاصة الأولى
كانت امرأة جميلة جداً، من فرط نظافتها كان الجيران يلقبونها بالحوتة إذ لا يمضي يوم أو يومين على أبعد تقدير إلا وتغتسل لساعات بالحمام ثم تغادره للسواك والكحل .لم تشْكُ يوماً من قهر أبي ولا ظُلمه ولا حتى من ادعاءاتجدتي لأبي.
كانت تستيقظ في الخامسة صباحاً تحضر كِسرتها بنوعيها الخميرة والرخسيس. لم ترفع صوتها في وجه أبي. كنت أراها تُخلص له...تغسل ملابسه وتكويها وتتمادى في صبرها لأجلي ولأجل إخوتي.
ذات يوم رأيتها تبكي بحرقة كبيرة. جاهدة حاولتُ أن أعرف لكنها امتنعت عن إفشاء سرها.
لاحقاً سمعتُها تتحدث لأختي عن زواج أبي-سراً- من امرأة أخرى.
شعرتُ أن أنثى ما ماتت بداخلي..كنت أود ...لكن
فترة بعد بكائها ذاك كانت أمي تغرق يوماً بعد آخر في صمتها وتفقد لغتها ..لم تعد المرأة التي تستيقظ في الخامسة صباحاً ولا تلك التي تغتسل كل يوم إلي أن صمتت تماماً ...أسألها فلا ترد وأبحث فيها عن بقايا امرأة كانت أمي فلا أعثر إلا على دمعة تنهمر بصمت في الغالب.
القصاصة الثانية
لا أذكر أني صليتُ يوماً لمدة شهر متواصل
حالاتُ الإيمان لدي متقطعة ..متقطعة جداً
في السابعة من عمري كانت أمي تحرص على كل مواقيت الصلاة وكنت أدعي أني قضيتها جميعها لكني كنت أذهب لبعضها دون وضوء.
في العاشرة من عمري كنت ألبس خماراً وأقصد المسجد..داومت على تلك العادة لثلاثة أسابيع فقط ..كنت أبحث عني في خطب الأئمة ومواعظهم، وجمعة بعد أخرى كنت أكتشف إماماً يتمادى في الصراخ والتذكير بأهوال القيامة؛ فنزعتُ خماري والتزمت البيت بنهاية الأسبوع.
لم أكن بحاجة لإمام، كنت بحاجة لطبيب نفساني.
أنا لست مؤمنة ولا ملحدة 
أنا أُشبه جرحي فقط
القصاصة الثالثة
دخل أبي البيت ذات ليلة ..في لحظة قرر أن يغلق عليه باب غرفته. 
نظرتُ بخبث لعلبة سجائره –التي بقيَت بها أربعة سجائر-في لحظة كنت أُحضر ولاعة من المطبخ وأرتجف وأنا أغلق الباب خلفي-أيضاً-
أخرجتُ السيجارة الأولى 
وجدتُها لا تختلف عن أبي كثيراً ..أشعلتُها، سحبتُ نفساً عميقاً منها ..انتابني سعال حاد سرعان ما خفُت. ونفساً بعد آخر كنت أشعر بدوخة مخدرة.
سريعاً أنهيتُ اللفافة الأولى
وسريعاً أشعلتُ الثانية فالثالثة
ثم كسرتُ الرابعة
غادرت الغرفة بعد أن فتحتُ النافذة ليتجدد الهواء وقصدت الحمام ..سحبتُمعجون الأسنان واغتسلتُ لمرات عدة.
أشعر الليلة برغبة عارمة في تصفح ألبوم الصور العائلي. اتشبث به ككنزة صوفية بعز الشتاء. أُسرع للخزانة، أفتحها ..ألتقِطُ أول ألبوم ..ثم أغادر باتجاه قاعة الاستقبال ..أخفض قليلاً صوت التلفزيون وكمن يقرب أرضاًملغمة عن آخرها أقلب الصفحة الأولى.
تطل أختي هدى رفقة زوجها بفستان الزفاف
أنظر مطولاً لتفاصيل اللقطة 
وأتذكر كيف كتبَتْ رسالتها الأولى لشاب سوري كان يقيم ببريطانيا وكيف توطدت علاقتُهما مع الوقت إلي أن زار قسنطينة وطلبها رسمياً للزواج من أخي ..حدث الأمر بسرعة مذهلة..عقدَت قرانها وتزوجتْ ثم غادرت.
تمضي الأعوام سريعة الآن
كانت تتصل بي كل ليلةٍ لتبكي شوقها لبيتنا، لقسنطينة، لسلالم عمارتنا ثم تدريجياً قلَّت اتصالاتُها.
يسعدني اليوم أن اعرف أنها ممتلئة بزواجها خاصة بعد أن رزقت بطفل أسمته "إياد".
في المرات القليلة النادرة التي أختلي بصوتها عبر الهاتف أو فايبر تسألني وبإلحاح عن كل التفاصيل ..عن جاراتنا..عن كبار العائلة ..عن صديقاتها ولم أستغرب يوماً حين طلبت مني أن ألتقط لها بعض صور المدرسة التي تتلمذتْ بها اثناء الإبتدائي وكنت ألبي رغبتها.
ترى إن اتصلتُ بها الليلة هل ستعرف-وهي الخبيرة- أن صوتي يبكي من فرط وحدته وعزلته؟
هل أخبرها أني اعتقدتُ واهمة أني شفيتُ –قليلاً أو كثيراً؟
عدتُ ثانية لألبوم الصور. اصطدمتُ بملامح رفيق أخي وهو يبتسم في
كاتبةٌ رديئة
حزني ربما وُلد بنفس توقيت الأرض أو قبل مخاضها بلحظات ويكون القمر قد أنشطر إلي اثنين في اللحظة التي جئتُ فيها هذا العالم.
لا أحد حدثني من العائلة عن ملابسات ميلادي وهل بكيتُ طويلاً بعد أناصطدمتُ بالضوء والهواء مباشرة؟ أم أني فعلت ذلك لدقائق ثم صمتتُ كما هي عادة المواليد الجدد.
أتساءل الآن وبعد كل هذا التعب بعد كل هذا الحزن ألم يمكن ممكناً أن أوغل في البكاء أنا الموعودة بألم بدمعة بشهقة مازالت ترافقني حتى الآن...
ألم يكن ممكناً أن أتمادى في الصراخ أنا الموعودة بسر أخبئه على مدار أربعين سنة؟ أنا الموعودة بآلاف المقابر التي سأقصدها مسلوخة الروح والكيان أنبش حفرة بالأظافر التي لم تعد قادرة على شيء كي أدفن أغنية مبتورة الموال أو حكاية لا يجب أن يعرفها أحد.
الآن وبعد الذي مضى على الجثة أجدني عجوزاً متمادية في الإرهاق والعزلة أكذب على الصباح وعلى كل الساعات المحتملة وأعزي عمر الغريقة-أنا- بنص أدخله من غيبوبة تشبه لحظة الموت أو وميض القيامة التي أراها تحيط بكل شيء.
في البال رواية تبتسم من آخر زقاق الروح وبالأصابع رجفة من كل البياضات التي ستقتات من دمي أو ما تبقى منه...

كاتبةٌ رديئة-2-
الليلة وهي تمطر بقسنطينة أكتشِف أنها تمطر بارض الداخل أيضاً وأني سأكون مجبرة على أن أقصد أول مكتبة أبتاع بعض الورق الذي يستعمل عادة لكتابة الرسائل وكأني أُعزي سواد الحبر بأن روحه قد تهرب مني لتقيم في علبة بريدٍ وتقع بين يدي قارئٍ افتراضي فضولي فيشمئز جداً من وقاحتي عند البدء ثم سرعان ما يجد نفسه ينساق لأرض البياض لأرض السواد فيتعاطف في منعرج مع نقطة، مع فاصلة، مع مساحة صمتٍ تُقال بين السطور فأعيدُ حساباته إلي نقطة الصفر يُعيد قراءتي مرات ومرات وعند المنتهى تعترف اللغة في حلقه/هذا الصوت قادم من ألم بعيد.
المطر يتساقط بشكلٍ غير عادي بالخارج والداخل أيضاً تسرع أصابعي لفنجان القهوة، اأرتشف رشفة كبيرة وفي لحظة ما تفيض الشلالات من مكانٍقصي، ملهوفة أمضي لمنابعها أسترق السمع للماء الدافق ومن المنطقة الغامرة يتناهى إليَّ صوت بشري أتعرف إليه بسهولة ...إنه صوتي
هذا الذي أقهرُ منذ ألف عام، هذا الذي أُكمم منذ بدء الكلام، أفكر بلحظة في الهرب في التراجع لكني أجدني مدفوعة لحميميته ودون وعي أتعرى، دون خجل أنغمس في الشلال نصير – الصوت البشري إياه وأنا – نبرةًواحدة نقتسم ملح الدوار الواحد ..ملح الوجع الواحد وملح الألم الواحد تنفجر التفاصيل.
نحتارُ –الصوت إياه وأنا- من أين تبدأ الحكاية أو المأساة، نندهش من هول الذي حدث لنا، ما مر على جثتنا، ما دفناه من خيبات ونكبات ..نُصاب في لحظة بما يشبه الخرس، لكننا في لحظة أخرى نفيض بالكلام نشعر أنناخلقنا لنقول، لنسمي الأشياء بمسمايتها.
حزني –أكرر مرة أخرى- ربما كان من عمر الأرض أو ربما يفوقها سناًوتعباً، وإلا كيف أفسر ظهري هذا الذي يجتهد في الانحناء؟
وما مر بروحي أشهد أنه لم يكن سهلاً أو بسيطاً بدليل أني أحمل الآن آثار خدوش عميقة وبقايا دموع أعرف أني موعودة بها في زمن سيجيء.
وخلف الصدى –صدى صوتي وبحتي- ثمة مليون حكاية، أقصد مليون قبر لأني من الطفولة البعيدة وأنا أتمادى في ....
وأني الآن أخرج عن صمتي، عن خجل اللغة عن المعاني المعطوبة، وأنزف بالشكل الذي يليق بمقام الذي حدث.

ليلاً
كنت أدخل بيتي وكمن يحتفي بضيف عزيز كنت أنزع ملابس الخارج وأرتدي بذلة رياضية –تلك عادتي بالبيت- ثم أحمل حقيبتي اليدوية ..أفتحها وأُخرج الرسالة ..أضعها جانباً قبل أن أقصد المطبخ ...وما أن فتحتُالثلاجة حتى تذكرتُ أني حضَّرتُ البارحة طبق سمك ..وضعتُه بالفرن ولحظات بعدها كنت التهمتُه، بَيْد أني شعرت بجوع فادح ثم احتسيتُبعدها عصير برتقال-أو ما تبقى من زجاجة البارحة – وعدت ثانية لغرفة الاستقبال.
شعرتُ برغبة في تقليص الإنارة إلي اأدنى حد ممكن ثم استويتُ بزواية ورحت أنظر للرسالة
تراها ستحمل توقيعاً هذه المرة؟
هل هي حديثة الكتابة ام أنها استغرقت وقتا طويلاً في الوصول إليَّ؟
من يكتب إليَّ في هذه الساعة الباكرة من الذاكرة المتقدة؟
ثم كنت أفتحها
أول ما لفت انتباهي هو تاريخها الحديث إذ كتبها صاحبُها-تها- منذ أسبوع تقريباً وعلى الرغم من الخط المتواضع جداً قفَزت الجملة الأولى
(نحن لا نختار ألف دربٍ لنمضي للأمام ..علينا أن نتلمس طريقاً واحداًإلينا..ربما هو طريق الغول لكننا مجبرين على المضي فيه لآخره)
وكما العادة تذهلني الجمل التي تلبس في الغالب ثوب حكمةٍ مختصرة
( الشتاء لا يضرب موعداً إذا ما جاء فإن ريحه لا تستشير أحداً ...قد نجد أنفسنا تحت المطر الغزير)
تقفز الجملة الثانية لروحي كالوخز المؤلم
ومع ذلك أتماسك- عكس الرسالة الأولى- وأواصل القراءة
( في الحياةِ قد نجد أنفسَنا بمفترق الطرق..لا يجب أن نجتهدَ في البحث عن الدرب السليم ..إنه فينا ..علينا أن نمضي بالظلمة إلي أخر نفق سنصل إذا ما قررنا ذلك)
أكتفي بهذه الجمل ..
أضعُ الرسالة جانباً وأرقبها بحذر قبل أن أسرع للتلفزيون أشعله ولا أستقر على محطة فضائية معينة.
في لحظة أشعر أن دقات قلبي تتسارع
أفتح باب الشرفة وأُطل على الدنيا
أستنشق نفساً عميقاً ثم أغرق ثانية في أسئلتي
تٌرى من يكتب لي بهذا الصدق الجارح؟
لماذا يحيلني جملة بعد أخرى إليّ؟
ولماذا يحرِّض خزائني السرية على الانفتاح؟
تُراني سأعثر على الدرب الذي يقود إليَّ لو أني وقفتُ بمفترق طرق وقررت بلحظة أن أتوغل لظلمة الدروب.
أكتشف وأنا أغادر الشرفة أني ما شفيت تماماً وأني بالكاد أُربي قشرةًرقيقة على جرحي القديم.
لهذا سأكون مجبرة على أن أذهب ثانيةً للورق أسكب ببياضه كل جملي المكتملة والمبتورة لعل.
حدث الأمر بسرعة ما توقعتها يوماً.
قبل ذلك الصباح كنت قد رأيت أمي-رحمها الله- بالمنام أكثر من ثلاث مرات متتالية فاشتعلتْ حرائق ما في صدري لأجل زيارة قبرها ورغم أني ترجيت أبي وأخي الذي يكبرني إلا أنهما رفضا؛ لهذا وجدتُني أنسحبُ وأنتحب في صمت.
كنت أرى أمي بشارعٍ طويل تشير لي بيدها فأركض مزهوةً إليها لكني كنت اقتربتُ منها، اختفت، وتعود لتطل من زاويةٍ أخرى وكنت أركض صوبها بلهفة الأرض وشوق الكون فتعود وتختفي ثانية ..صباحاً أقصُّ الحلم على هدى فتبكي معي وتطمئنني، ربما فكرتُ بها كثيراً وهي تمسح شعري بلطف حانٍ.
الي أن قررتُ ذات صباح شتوي ماطر أن أنسلَّ من البيت دون أن ينتبه أحد لغيابي باتجاه المقبرة –بالنظر لقرب المسافة- كنت أُسرع الخطى كأني على موعدٍ حقيقي معها بدليل أني حضرت كل الحكايات التي سأرويها لها وبالتفصيل الممل..تجاوزتُ عتبة الباب الخارجي للمقبرة بسلام إلي أن وقفتُعند قبر أمي. فاضت الدموع من تلقاء حزنها ..جلستُ قرب الشاهد وكنت أقرأ الفاتحة، وفي اللحظة التي كنت سأتفجر بحضرتها بكل الكلام ..شعرتها اليد الغليظة التي امتدت من الخلف كمَّمتْ فمي وسحبني الخمسيني الذي لمحتُ بعض ملامحه الي مكانٍ خال
كان بودي أن أصرخ بأعلى صوتي لكن المكان كان خالياً
في دقيقة أو ربما أكثر –بقليل – دفعني أرضاً نزع سروالي الداخلي وبهمجيةٍ كان يلقي بجثته الثقيلة فوقي
في ثانيةٍ حدث كل شيء
شعرتُ بشيء سميك يخترق مكاناً ما مِنِّي ثم سحب نفسه وركض بجنون
لم أقم من جلستي تلك بيْدَ أني شعرتُ أني فقدتُ الوعي لدقائق معدودة وحين كنت أقوم وجدتُ سائلاً أحمر فوق فخدي ..قمتُ، لبستُ سروالي الداخلي وغادرت.
بدا الطريق لبوابة المقبرة بعيداً ومخيفاً. أسرعتُ الخطى مع أن قدماي بالكاد كانتا تحملاني وعدتُ للبيت
لم أجد أحداً
دخلتُ الحمام لأغتسل
كان الألم فظيعاً
لكني كتمتُ صراخي، ومعه نكبتي وسرِّي.
أخفيتُ سروالي الداخلي بمكان لا يمكن لأحد أن يعثر عليه واستبدلتُه بآخر
لم أكن أفهم خطورة الذي حدث معي
لكني بحدسٍ ما كنت أجتهد في إخفاء سرِّي بيْد أن أبي الذي دخل مساء لم يكلمني تماماً
فقد تمنيتُ وأنا صغيرته أن يدعوني لصدره أن يناور لأن أقول له ألمي، لكنه كأن مشغولاً بتحضيرات استقباله لزوجته الثانية ببيتنا. وحتى هدى التي لاحظتْ لوني الفاقع لم أخبرها بشيء.
ليلاً
كنت أبكي بحرقة ذكرياتي –القليلة الجميلة- مع أمي
و لا أجرؤ على أن أسترد شريط الجحيم الذي عشتُه بالقرب من قبر أمي
إلي أن استفقتُ –صارخةً - في ساعةٍ متأخرة من الليل، وكنت أهذي....
قضيتُ فترة عصيبة بعد حادثة ذلك الصباح بيد أني لم أعد أغادر البيت مطلقاً إلا للمدرسة ..أتفادى الأماكن الخالية وكلما رأيتُ شبح رجل أو شاب أصاب بما يشبه الرعب ..تتجمع الدموع في عيني من تلقاء بكائها –أو شهقتها- وبالصف أجلس شاردةً لا أشارك كما هي العادة ..أنكمش عليَّ وأتمادى في التيه، ورغم محاولات المعلمة المتكررة لمعرفة أسباب سلوكي الجديد..إنطوائي وصمتي إلا أنني كنت أذهب لأقصى حدود العزلة، وكلما غادرتُ المدرسة أعود راكضة للبيت كأن غولاً يلاحقني..أدخل المنزل لاهثة فأسرع للمطبخ أشرب كثيراً من الماء ثم أغلق عليَّ باب الغرفة ..تلاحقني صور أمي ورحيلها الباكر الذي هدني من الداخل.
كنت قد عدتُ من المدرسة ذلك الصباح حين سمعت نحيباً عالياً من بيتنا..كان الجيران ينظرون إليَّ بألم في الوقت الذي سارعت عمتي-جهيدة- لاحتضاني ومنعتْني من الدخول لغرفة أمي ..في لحظات عرفتُ أنها ماتت وأنها لم تعد ..تأكدتُ من ذلك حين أخذت هدى بيدي وقالت بما يشبه الرجاء: "صرنا يتيمات"
تزاحمت الصورُ برأسي
في أيام أمي الأخيرة كانت تمتنع عن الأكل والشرب وكنت أتساءل بيني وبين نفسي هل يمكن للخيانة أن تُفضي بإمرأة لقدَر كهذا؟
كرهتُ زوجة أبي الثانية قبل أن أراها
كرهتُ أبي أكثر- وأكثر-
وذات ساعة معطوبة وجدتُني يتيمة- وبامتياز-
أجلس الآن بزاويةِ سريري، أنكمشُ من برد الشتاء- ومن برد الذي حدث معي- ومن اللحظة العارمة للهباء تسقط صورتان
صورة لطفلةٍ تصل التاسعة من عمرها بالكاد
وصورة لامرأة طاعنة في اليأس والبكاء المرير
هل يمكن أن نقفز من طفولة باكرة لشيخوخة بائسة وفي لحظات قليلة؟
هل يمكن أن نضيِّع سر الفرح للأبد؟ ونحن نمضي بالدروب التي ما اخترنا يوماً
لم أختر هذا الشتاء يوماً
بسنواتي التسع وجدتُني بقلب العاصفة
كان الثلج كثيفاً للحد الذي ما توقعت
وكانت الدروب عامرةً بالشوك، بالريبة والخوف
وكان علي أن أسير وحيدة –إلا من جرحي- بالطريق الطويل الطويل.
قصاصات
1/
ذات جمعة استيقظتُ في الخامسة صباحاً اغتسلت كأني أحمل أوساخ الأرض وعاهاتها ثم كنت أقف على سجادة وأصلي ..بين ركعةٍ وأخرى كنت أبكي..وأستجدي الله أن يطفىء هذا الحريقَ الذي يشتعل في صدري..أدعو تارةً بالمغفرة لأمي و أدعو تارة أخرى للخروج من النفقِ المظلم الذي دخلتُه-رغما عني.
كانت هدى تسألني وبإلحاحٍ عن صلواتي الباكية
لتدخل أمي الجنة
كنت أصطدمها
لأخرجَ من الجحيم
كنت أقول في نفسي
وعند منتصف النهار كنت أرتدي خماراً وأقصد المسجد لأداء صلاة الجمعة
كان الإمام الأول يتحدث عن الرحمةِ والمحبة ..شعرتُ أنه يتحدث إلي..أحببتُكلماتِه
لكن بمجرد أن دقت ساعةُ الواحدة حتى اعتلى إمامٌ آخر منبر المسجد وراح يتحدث بصوتٍ عال عن الزنا ..شعرت بانقباضٍ بالمعدة ولحظات بعدها كنت اتقيأُ وأسرع للخارج كي أغادر.
ركضتُ بأقصى ما أستطيع حتى وصلت البيت مرعوبة
يبدو أن المؤمنةَ عادت قبل الأوان
قالت هدى ضاحكة
لكني أسرعت للحمامِ، ألقيتُ ما تبقى بمعدتي ..اغتسلتُ وعدت ثأنية إليها.
( ربي الذي في السماءِ البعيدة ..كان بودي أن ألتقيك خارج المسجد وخارج المنابر وأن أقول لك أن طفلتك الصغيرة تحتاجك جداً، تحتاجُك أكثر من أي وقت مضى لكن إمامك صوَّرك بشكلٍ مخيف لهذا لا تتعجب أن وجدتَني أعود ثأنية لزاوية سريري..أغطي كامل جسدي وأصلي لك على طريقتي الخاصة فهل تقبل طفلة تفترش غُصَّتها وتبتهل في حضرتك..)
2/
كيف ينام البشر نوماً عميقاً؟
تأتي في البدء دوريةٌ للدرك الوطني تهاجم بيتنا بهمجيةٍ كبيرة. يسألرئيسهم أبي عني-سماح- فيشير لهم بغرفتي، يدخلون فأصرخ ملء سنواتي-الصغيرات- أستفيق مذعورة.
آخذ وقتاً طويلاً لأغفو قليلاً
فأجدني في غابة كثيفة الأشجار ونمر أسود يلاحقني ..أشعر جوعَه الفادح لافتراسي ..أركض من شجرة لأخرى ثم أتعثر وأسقط، يقترب النمر الأسود مني ..أستفيق مرعوبة.
أغادر للمطبخ، أبكي بحرقة ..أنظر لتفاصيل المكان ثم أعود ثأنية لفراشي ..أتفادى الغطاء كي لا أنام ثأنية.
3/
النفق الذي أدخله وأتمادى بالانحدار فيه
لم تخترهُ الخطوة يوماً
لكني إذ اجتهد في الذهاب لأقصاه ربما خرجتُ يوماً للشمس
تُرأني أقدر....
أعيش ساعاتي بكثافة غير مسبوقة بيد أني أصطدم بين لحظة وأخرى بشعور لم أعرفه قبل اليوم
ما أضيَق العالم
ما أوسع مخاوفي.
اتصلتُ ليلاً بالممرضة لأخبرها بأني لن أكون بالعيادة عند الصباح وأن طبيباً آخر سيخلُفني خلال الأيام الثلاثة التي سأغيبها. واستطعت أن اتخلص من فضولها في كلمات موجزة حين كانت تسألني إن كنتُ مريضة أو أن طارئاً ما قد ألمَّ بي، وكنت أعِد حقيبةً صغيرة أضع بها ملابسي وبعض الروايات التي شرعتُ بقراءتها وكنت أغادر.
عنابة
كانت وجهتي
لي ذكرياتٌ مذهلة مع هذه المدينة بالذات
كلما ضاقت الدنيا أو تغير لون سماء الروح أجدني دون وعي أحزم بعض ما تبقى مني وأفرُّ إليها طفلة للمواعيد البهية، للساعات العارمة الصفاء؛ ففيها على الأقل لن أكون مجبرة على أن أرد السلام أو أقف طويلاً أرد على أسئلة تافهة في الغالب من بعض معارفي.
وفيها أيضاً أشعر أني تخلصتُ من سماح-تلك المدينة- وأمضي لأخرىخفيفة ومرحة.
في الطريق الرابط بين قسنطينة وعنابة كنت أستمتع بالحقول المترامية ..بالبيوت المتناثرة دون نسق معين..وأختلي بين محطة وأخرى بشجنٍ أحبه أو صورة لبعض الأطفال الذين يبيعون فواكههم الموسمية ثم سرعان ما أعود لحديث السائق-سيارة الأجرة- مع زبائنه وهو حديث لا يتجاوز حدود الغلاء الفاحش الذي نعيشه أو انهيار أسعار النفط هذه الأيام.
بعد نصف ساعة سأدخل عنابة كأني أدخل الحياة..
سأتخلص من كل عاداتي بقسنطينة وسأخرج للشوارع أجوبها كأني أبحث عني..سأختار –وكما العادة – غرفة تطل على البحر؛ لعلي أطل على الله ..أسهر حتى ساعة متأخرة من الليل وأنتقل من رواية لفضائيات فرنسية ولن أستيقظ باكراً ..سألتقي البحر عند العاشرة صباحاً –أنا التي نمت على هديره – وأسلِّمه الأسرار كله، وربما ركضتُ بالشاطىء الصغير طفلة يروقها أن تصير سيدة لكل الأمواج التي سترتطم بقدميها الحافيتين .
وعلى مدار ثلاثة أيام
لن أفي لعادة واحدة ..لساعة واحدة
لن أبرمج اليوم
سأدخله كأني أغتسل من تعب التاريخ وأمضي غير مهتمة بكل نظرة، وعند المنتهى أكتشفُني امرأة أخرى، إمرأة تولد مع قهوة الصباح
مع الريح الخفيفة التي ستغازل ستائر غرفتي
مع صوت مذيعة نشرات الأُخبار وهي تعلن عن المطر القادم
ومع سكون المكان.
وربما استطعت أن أدوِّن بعض رؤوس الأقلام لأستغلها لاحقاً بمذكراتي الشخصية.
هل لديكِ بعض الحقائب؟
كان يسألني السائق
حقيبةٌ صغيرة واحدة
كنت أجيبه ونحن ندخل محطة عنابة
دفعت أجرتَه
وكنت أغادر المحطة
أحببت جداً رائحة الهواء الممزوجة بملوحة البحر وكنت أسرع الخطى لاستأجر سيارةً أخرى ستقودني لأعالي المدينة.

أول ما دخلت الفندق كنت أسأل إن كانت الغرفة 408 محجوزة
خلف ابتسامةٍ مشرقة أخبرتني العاملة بقسم الاستقبال أنها شاغرة
ركضتُ للمصعد طفلة مزهوة أضغط على الطابق الرابع..حين دخلتُ الغرفة أسرعتُ لنافذتها أفتحها على البحر..كان هائجاً وكانت بعض أمواجه ترتطم على صخر قريب..استنشقتُ الهواء ملء القلب والرئة وكأني أحتضن اتساعه المهول ثم عدت لأفرغ حقيبتي الصغيرة وألقي بمحتوياتها بإهمال كبير فوق السرير وأدخل الحمام ..فتحتُ حنفية الماء الساخن وانغمستُ فيه سمكة تعود لمياهها الإقليمية الأولى ...وضعت سماعة الهاتف المحمول على بعض الأغاني الفرنسية التي حمَّلتُها مؤخراً وأغمضت عيني وأنا أنغمس أكثر بالماء الساخن الذي استلطفتُ لسعَهُ الحميم..كان صوت البحر يصلني هو الآخر هادراً وبهياً.
( لم تتأخر يوماً أمي - رحمها الله - في الاحتفال بأعياد ميلادي ..كانت تصطحبني معها للسوق..أنتقي بنفسي الدُمى التي أحب..لون شمعتي ..وهدية إضافية وليلة الاحتفال كانت فنانة جداً..كانت تزين غرفة الاستقبال بالبالونات المختلفة الألوان والقبعات السحرية وكانت -رفقة إخوتي- تغني لي بالعربية فقط وكنا نضحك جميعاً كلما حاولت أن تفعل ذلك بالفرنسية وأن تقلدنا بإنجليزيتنا المتلعثمة..وكنت أنام وأنا أحتضن دميتي وملابسي الجديدة...وأنام ملء الجفون.
استلطفتُ الحمام وازنافور يغني لابوام -البويهمية- كان صوته ينقلني لأكثر من حديقة ويضع أمام طفولاتي باقة زهر وياسمين.
( كلما كانت المعلمة تسلمني دفتر الامتحانات كنت أغادر الصف راكضةً لبيتنا ..كان يروقني أن أحتضن أمي بفرح الأرض وأنا أزف إليها نقاطي العشر وبكل المواد تقريباً. وطويلاً كانت تمسك الدفتر وتطلب مني أن أعيد مراراً وتكراراً علاماتي بكل المواد وما كتبَتْه المدرسة عن أخلاقي العالية وعن امتيازي بالدراسة..كانت تدجج جيوبي بالدراهم والحلوى وتغدق علي بشكل لا تحتمله سنواتي الثماني).
يطل صوت داليدا من خبل الوقت 
Je suis malade
فأعود لأحتمي بالماء إذ أفتح صنبوره الساخن ثانية قبل أن أتمدد في نهر من الألحان العذبة
(كانت أمي مشرقة
مشرقة جداً وكانت تذهب للحياة تقضمها بجوع فادح ..لم تشتك يوماً من قسوة أبي أو حتى من ألفاظه النابية في الغالب
لا أذكر أنها غادرت يوماً لبيت أهلها
كنت تنظر دوما لنصف الكأس الممتلئ 
الي أن وصلها الخبر اليقين بزواج أبي السري 
من حمامة وديعة تقف عند مشارف عشها ..كنت أراها تُوغل في حزنها العميق وحتى حين كانت أسئلتي الملغمة تفاجئها ..كان تفر للبكاء ...كانت أشياء عميقة تتكسَّر بداخلي ويوماً بعد آخر كنت أقوم لامرأة أخرى
لم تعد تبتسم كما كانت تفعل دائماً.
كانت تنتقل من غيمة حائرة إلي ما يشبه النواح الصاخب - لكن لوحدها -
وكنت أسقط من أرجوحة الطفولة عصفورة بلَّلها المطر المباغت والشتاء الذي ما توقعَتْ.
غادرتُ الحمام 
ثم كنت أطلب قهوة لغرفتي من العاملة بالاستقبال
وخلف نبرةٍ ضاحكة كانت ترد
لحظات ونحملها إليك
وقفتُ قليلاً أمام المرآة ثم سرعان ما عدت لأقرُب الشرفة
ازداد البحر هياجاً وكان صوته قوياً وعميقاً.
قصاصات
1/
لم أعبر الحياة بشكل عاديٍّ
على نكباتي - الكثيرات - عشتُ تجارب عديدة مغايرة
ذات سنةٍ بعيدة تساقط الثلج بشكل غير مسبوق بقسنطينة ..فتحتُ شباك النافذة فبهرني البساط الأبيض..أسرعت لخزانة أخي – الذي غادر للخارج – ارتديتُ بعض ملابسه -التي تكبرني- وغادرت صوب شوارع المدينة متنكرةً بثوب رجل..كنت طفلة سعيدة وأنا أسمع خشخشة الثلج تحت حذائي الشتوي -الرجالي الكبير-.
أسعدني أن لا أحد اكتشف أمري إذ كنت أعبر الكورنيش باتجاه المستشفى الجامعي ثم أنزل لمحطة القطار قبل أن أعبر جسر سيدي راشد.
بعد تجربتي تلك كنت أسرع - كلما تساقط الثلج - لخزانة أخي..أشم رائحته من جهة وأعيش فرحي الغامر من جهة أخرى وأنا أعبر الأزقة الضيقة- والشوارع الواسعة- في ساعة متأخرة من الليل قبل أن أعود لأنزوي أمام المدفئة بعد أن أنزعَ بعض الجوارب المثقوبة.
كنت أحمل كل بياضِه لغرفتي 
فهل يختلف بياضُه عن بياض الورق؟
وهل تختلف آثار أقلامنا عن آثار أقدامنا...على البياض الواحد؟
2/
كنت - رفقة العائلة - بعطلةٍ صيفية بشاطىء زيامة منصورية، وكنا نقيم بخيمة.
ذات ليلة كنت أستفيق من كابوس مرعب..كان الكل يغط بنوم عميق
غادرتُ الخيمة وجلستُ للبحر
عند البدء لم أكن أسمع غير وشوشة المد والجزر.
وساعة بعد أخرى كان الليل يتراجع وملامح النهار تتضح أكثر
بعد أن اختليت بشجنٍ ما - طويلاً - كنت أدخل الماء
كان الشاطىء خالياً تماماً. 
للمرة الأولى أشعر أن البحر يغسل شيئا متسخاً بروحي
للمرة الأولى أشعر أني أستطيع أن أحتضن شيئاً دون أن أخاف عواقبه
كنت أغطس وأغطس كأني أعود ثانية لرحم أمي جنيناً لا يخيفه الآتي من الأيام.
3/
في حياتي 
عدد لا يستهان به من الرجال
لكنهم رجال رافقوني حتى منتصف الطريق فقط ثم هربتُ منهم
أحلم كأي امرأة اليوم برحلة كاملة ..بقصة حبٍّ مكتملة ..بالذهاب إلي أقصى حدود الحلم، لكن إعاقتي -جرحي القديم - تقف عائقاً
فلا أستطيع أن أمشي الطريق كله
كما لا أستطيع أن أظل بمنطقة حياد قاتلة.
لذا؛ فأنا أعيش نصف حياة حين يتعلق الأمر بالفرح
لكني أعيشها كاملة غير منقوصة حين يتعلق الأمر بحزني الكبير
فهل تراني أشفى وأنا أكتب الآن؟
أم أن الكتابة دليل إدانة كاف لتُثبث لي المرايا أني امراة للإعاقات كلها....
بعد الحمام 
كنت أرتدي بذلة رياضية وأنزل لقسم الاستقبال لأطلب سيارة تقلني لوسط المدينة فقد اشتقت لارتياد بعض المطاعم التي تبيع السمك المشوي، لكن بمجرد أن وصل السائق وكنت أركب من الخلف كان برنامجي ينقلب رأساً على عقب، بيْد أني وجدتني مجبرة على التوقف عند شاطىء عين عشير في الوقت الذي ظل الشاب الثلاثيني –السائق- ينظر إليَّ بإستغراب .
جئتُ خصيصاً لأجل البحر
قلت له –لأجيب على نظرته الحائرة-
أَخفَى ارتباكا واضحاً
"أخذتُ أجرة اليوم كله وأنا هنا رهن الإشارة".
قال وهو يشعل لفافة تبغ
وكنت أقتربُ من الماء أكثر وأكثر
لم أُطِل البقاء هناك طويلاً، عدت ثانية لسيارة الأجرة ركبتُها يتبعني الثلاثيني وهو يطفىء سيجارته على عجل
"إلي أين الآن؟"
كان يسألني 
"توقفْ عند الشاطىء المقبل" 
قلت له 
"هل زرت المدينة قبل اليوم؟"
نعم مئات المرات وعنابة عزيزة جداً على قلبي
كان صوت ذيب العياشي ينساب دافئاً وحميماً من إذاعة محلية ..
توقفتُ عند كل الشواطىء الممكنة ومارستُ فيها كل جنوني قبل أن أنتهي عند الكور.
بعد الغذاء كنت أختلي بقهوة آخر المساء وأنخرط في الوجوه التي كانت تعبر من وإلي كل الدنيا.
شعرتُني خفيفة كفراشة
ومع اقتراب الليل كنت أتصل برمزي-سائق سيارة الأجرة وأعود لفندقي بضاحية المدينة.
استلطفتُ الكورنيش جداً ونحن نعبره بسرعة معقولة وكنت أرد على أسئلة رمزي باسمة.
خلفي تركتُ عنابة تغرق في نزقها المعتاد
خلفي تركتُ الأضواء التي كانت تنعكس على مياه بعض الشواطىء كأنما هو احتفال الماء بالضوء
دخلتُ الفندق 
وجدتُ به بعض الحركية مقارنة بلحظة وصولي صباحاً
استلمتُ مفتاحي وكنت أدخل غرفتي
تذكرت أني نسيتُ باب الشرفة مفتوحاً
اقتحمتُها وكنت أرقب عنابة التي تبدو من بعيد قطعة مهرَّبة من الجنة.
ليلاً
كنت أستأذن أحد أعوان الأمن في النزول للشاطئ الصغير الملتصق بالفندق وإن كنت لا أخشى شيئاً
خلف ابتسامة
أمنُ زبائننا لا نقاش فيه
في لحظات كنت أنزل السلالم المفضِية للشاطىء مذعورة بعض الشيء لكن بمجرد أن لامستُ الرمل حتى شعرتُ بسكينة ما..تفحصتُ المكان بحذر ..ثمة بعض العرسان الذين يستمتعون بشهر العسل ..ثمة بعض الشباب الذين تحلَّقوا حول صديقهم الذي راح يرتجل بعض الأغاني الشائعة وثمة في الركن البعيد صيادٌ يرقب سنارتَه ويدخن سيجارته التي وضعها بالقرب منه.
تملكني الفضول في الاقتراب منه
مساء الخير
كنت أقطع خلوته
أهلاً
رد
خُيِّل إلي أنه قال ذلك
ثم عاد لسنارته، سحبها من الماء..أعاد ترتيب طعمها ثم ألقى بها ثانية في الماء
كنت أرقب كل حركاته لكنه كان غير معنيٍّ بوجودي
وهل اصطدتَ بعض السمك إليوم؟
كنت أتطفل ثانية
سحب نفساً عميقاً من سيجارته
لم أصطد غير واحدة كبيرة
قال بعد زمن –خِلْتُه طويلاً-
لكني لا أُلقي سنارتي للصيد فقط
أذعرتني جملته الثانية
اكتشفت أني بمحاذاة رجل خاص..رجل يعرف متي يجيب..متى يصمت ومتى يوقع فواصله، والتزمتُ الصمت ثانية.
كان صوت البحر هادراً وعميقاً
فجأة شعرتُ ببعض البرد لكني تسمَّرتُ بمكاني ولم أغادره
التزمتُ فقط بالصمت –الثرثار- الفاصل بيني وبين هذا الصياد
كان يجب أن تلبسي شيئاً ثقيلاً كي لا تمرضي
سمعتُه يقول دون أن يلتفت حتى إليّ
أشعر ببعض البرد حقاً لكني لم أتوقع ذلك البتة
في لحظة كان يعود لسنارتِه التي كانت تغمز
سحبها بسرعة كبيرة وفي ثوانٍ كان يفاخر بالسمكة الكبيرة التي اصطاد
وكنت أعتذر –بعد نشوته بصيده-
لم أعد أحتمل البرد أكثر
قلت
إن كنتِ غداً هنا تسعدني رفقتك
شكراً
قلتُ وأنا أحس عجزاً في المضي للأمام .
وبالغرفة التي دخلت كنت أُسرع للشرفة لعلي أراه من هناك.. تبينتُ شبحه بصعوبة كبيرة
شبح لرجل يرمي سنارته بالماء ويسحبها
رجل يتمادى في التدخين وفي الصبر
ثم عدت لغرفتي
استلقيت بسريري وكنت أحتضن وسادة وأسهو....
لم أنم باكراً البارحة
كنت أغادر سريري للشرفة وأرقب ذلك الصياد فقد خُيِّل إليَّ أنه غادر الشاطىء في ساعة متأخرة من الليل بيد أني لم أعثر على الشبح ولا على جمر سيجارته حين سحبتُ غطائي و ذهبت مسرعة لأتجسس عليه
حتى هذا الصباح وأنا أتناول فطوري تعمدتُ البقاء مطولاً هناك لعله يُطِل لكنه لم يأت لهذا كنت أعود لغرفتي ثانية وشعور بانكسار حميم يملأُ روحي.
طلبتُ رمزي واعتذر مني عن تأخير محتمل قد يحدث معه؛ لهذا كنت أجلس لقاعة الاستقبال أنظر لشاشةٍ عملاقة تعج بالصور لكني في قرارة نفسي كنت أرغب في أن ينزل للقاعة نفسها وأن نتقاطع ولو لثوان معدودات لكن...
دخل رمزي بهو الفندق وكان يبحث عني بين الوجوه أشرتُ له بيدي ..ابتسم بمحبة
أين سنذهب إليوم؟
كان يسألني وأنا اغلق باب السيارة خلفي
إلي سرايدي
قلت بصوت خافت
ربما يكون قد لاحظ فتوري مقارنة بالبارحة
وكانت السيارة تقطع المسافات تباعاً، وكنت أستدير من حين لآخر لأرقب الشاطىء إياه.
لم يمض وقت طويل حتى وجدنا أنفسنا بالمنعرج المفضي لأعالي سرايدي...كان الضباب يملأ المكان ولحظة بعد أخرى كأن كنا نسافر فوق السحاب
هل تعتقد أنها ستمطر؟
كنت أسأل
إنه ضباب الصباح فقط
كان رمزي يرد
دخلتُ مركباً سياحياً هناك وكنت أقصد شرفتي المحببة
منها كنت أطِل على امتداد البحر والجبل في عناق مذهل
( لم يمض شهرٌ على وفاة أمي ..كنت أعود من المدرسة ذات مساء ..حين فتحتُ الباب وجدت أبي بقاعة الاستقبال يجلس لامرأة ..دون مقدمات كان يقدم لي –الغريبة-
إنها أمك بعد اليوم
ووجدتني أقوم وأغادر باكية صوب غرفتي قبل أن أقول له
أمي ماتت
لكنه لحقني ونهرني –بعنف -
لا أريد سماع هذا الكلام ثانية
لكنني وأنا اغلق باب غرفتي تساقطت الصور تباعاً
صورة لأمي وهي تستعد لحضور حفل زفاف خالي ..كانت جميلة
صورة لها وهي ترتدي ملاءتها وتمرر الكحل على عينيها
صورة لها وهي توغل في صمتِها الكبير والدمع يرافقها
في لحظة كنت اتساءل
هل كان أبي حقاً بهذه القسوة
ربما لا
كان ككل رجل شرقي يكبت مشاعره..
لا اذكر أنه احتضنني يوماً ولا فعل الشيء نفسه مع اخوتي
على اجتهاد امي في زينتها لم أسمعْه يوما يتغزل بجمالها
في أقصى الحالات كان يكتفي بابتسامة سرعان ما يكبتها
غادرت الشرفة إياها وكنت أدخل المطعم ولحظات بعدها كان الناذل يقف أمام طاولتي
مدام كيف أخدمك
أريد طبق سمك
كنت أجيب
كنت أعتقد أن صعودي هذا المكان سيخلصني من رواسب كثيرة وأني سآكل بشراهة لكني بعد لقمة ثانية كنت أرمق السمكة الكبيرة بشفقة
هل يمكن لكائنٍ جاب كل هذه البحار أن ينتهي لوجبة باردة لا يجرؤ أحد على أن يقربها؟
وكنت أتصل برمزي بيد اأن مزاجي تعكر أكثر
وغادرت
غادرتُ لأعود ثانية لغرفتي – وربما لوحدتي –
لم يسألني رمزي بالطريق عن سر استيائي الواضح واكتفى بتشغيل موسيقى تركية حزينة، كنت أسمع لبعضها وأستمعُ لبعضي –المجروح- الآخر ...لكن بمجرد أن فتحتُ نافذة الغرفة حتى لفحني هواء البحر المالح البارد، وكنت أبتسم.
اليوم وفي ساعة متأخرة من الليل –واللهفة – سألتقي ذلك الصياد وأفك بعض شفرات صمته....
ليلاً
كنت أنزل مسرعة لمطعم الفندق ..طلبتُ حساء سمك عند البدء ثم شريحة لحم أكلتُها على عجل بيد أني شعرتُ بجوع فادح...أنا التي لم آكل شيئاً تقريبا عند الغداء.
ومن المطعم كنت أدخل جَذِلة لغرفتي وأقف أمام المرآة
اكتشفتُ أن ملامحي مسترخية –وأعصابي أيضاً- وكنت أضع بعض المساحيق الخفيفة وأرش عنقي وثيابي بعطر مستورد..وأنزل لقاعة الاستقبال ومنها لسلالم الشاطئ الصغير..لم أسأل هذه المرة العامل بأمن الفندق..فتحتُ الباب الحديدي الصغير وكنت أقصد زاوية البارحة..سريعاً وصلت للشاطئ ..وجدتُ بعض عرسان البارحة ..لكني لم أعثر على الصياد...
شعرت أن شيئاً عميقاً انكسر بروحي لكني لم أستسلم ..جلستُ بشكل قريب جداً من الأمواج التي كانت ترتطم بصخر كبير –نسبياً – وكنت أسهو
( أيُّ ارض هذه التي أدخل إليها مرغمة لحظة بعد أخرى وأنزلق فيها لقرارات سحيقة؟ ..أنا التي لم تتعاف بعد من جرحها القديم المتجدد.
ما معنى أن تبدو لي اليوم..اليوم بالذات سرايدي كأنها غيمة يابسة؟ وأني استعجل الساعات لتمضي لعل الليل يحط رحاله ويحمل بجوف عتمته صياداً التقيتُه البارحة وتعثرت بالقرب من حكمته..من صمته الثرثار الصاخب..وأن أعيد بيني وبين نفسي "لا أرمي السنارة للصيد فقط".
ما معنى أن أقف كل تلك المدة أمام المرآة، أُعيد ترتيب مساحيقي أنا التي أكتفي في الغالب بكحل خفيف
تُبللني قليلاً موجة كبيرة ارتطمَتْ بالصخر ولم أنتبه إليها
(لماذا دخلتُ هذه المدينة في ساعة باكرة من الخيبة والنحيب؟ وأنتقل من شاطىء لآخر لعلي أعثر عليَّ أو على بعضي
فهل نصطدم بفرحٍ ما في غمرة تمادينا في الهروب من شجن يكتم أنفاسنا؟ وما الذي يخطف امرأةً من سريرها في ساعةٍ باردة لرجل بالكاد تعرفه؟
أنا التي مازلت أخاف الرجل حتى الآن
أنا التي تحلم بأن تحتمي بصدره..برجولته أو عطره و لاتجرؤ على أن تمد له يدها
ألا يكفي أني مررتُ بشكل عارض على حادثة المقبرة وأني حتى الآن لا أملك الجرأة لترتيب الذي حدث في ثوان قليلة لكنه ظل ملازماً لي وربما رافقني حتى آخر العمر..)

نحن هنا
كان الصياد يقطع شرودي ..قفزتُ مذعورة
من أنت؟
ألهذا الحد ذاكرتك ضعيفة؟
وكنت أعتذر منه
سهوتُ قليلاً ولم أشعر بحضورك
أخرَجَ لوازم صيده ..وفي لحظات كان يضع الطعمَ بسنارته وقبل أن يلقيها بالماء كان يسألني
كيف كان يومك؟
ذهبتُ لسرايدي و لامستُ السحاب قليلاً ثم عدت
ضحك
ممتاز 
قال ثم أخرج سيجارة اشعلها 
البحر صديق مذهل 
أردف
وعميق كحكمةِ الصينيين
لم أقل شيئاً 
كنت أنكمش عليَّ وأستسلم لإحساس مخدر كان يغمرني
( في ساعةٍ متأخرة من البحر عادة ما يأتي صيادٌ من موجته العالية البعيدة ..يلقي سنارته في الماء –والعتمة – يوغل إليه للحد الذي يعطيك الانطباع أنه صار جزءاً من البحر..خلف سُمرته الحادة –بعض الشيء - يخفي حزناً عارماً ويلبس صمته معطفاً في شتاء الوقت ..
معه أشعر أني لست خائفة ولا مرتبكة 
معه أشعر بأمان لا أعرف كيف أفسره
يكفي أن أقف على بعد أمتار منه –من هامته- لأتحول لعصفورة شفافة وهشة
تراني سأقول له بعض الكلام الذي يزدحم بحلقي مذ تقاطعتُ معه
تراه ينصت إلي بالشكل الذي أتمناه....)

لا أذكر على وجه التحديد كم دامت جلستُنا
كان يرمي بسنارته بين لحظة وأخرى وكنت أرقب كل حركاته و رأيته يخرج من حياده –وعن صمته – ويشرح لي أنواع السمك التي يصطاد بهذا الموسم من السنة..لكنه سرعان ما يهرب لسيجارته ..يسحب نفساً عميقاً وأحياناً يجدها منطفئة فتسرع يده لجيبه لتخرج لفافة أخرى.
منذ متى وأنتِ هنا؟
كان يسألني
( هل كان يقصد متى تغادرين؟ وهل يمنحنا الوقت ساعة نقترب فيها أكثر من بعضنا البعض؟)
بحذر 
منذ يومين
وقد أغادر غداً
كنت أردف
( لأختبر صبره أو أرى بالوضوح اللازم حضوري لديه)
ألا تعتقدين أنك على عجل قليلاً؟
في لحظة فاضت الينابيع من الجهات كلها لكني كنت أضبط نفسي أكثر
أمامي عيادة ومسؤوليات تنتظر بقسنطينة
ضحك
(كما لو أن الدنيا كانت تضحك لي )
تأخير العودة ليوم أو يومين لن يضرك كثيراً
وكنت أضحك أنا الأخرى
( هذا الرجل الذي يُطل من ساعة بهية بليل بونة يمد لي يده ويحرضني على أن أثق به وأتورط فيه)
نسيت أن أقدم لك نفسي 
سماح طبيبة مختصة بأمراض الشرايين والقلب 
نزع سيجارته من فمه وبثقة قال
أسماؤنا مجرد تفاصيل ووظائفنا أيضاً
( ومرة أخرى كنت أغرق في حضوره الطاغي وفي سُمرته المحببة وعمقه الذي لا أدركه)
لنقل أن اسمي إبراهيم وأني أقصد هذا الفندق كلما فقدتُ القدرة على التنفس أو كلما دعأني البحر إليه 
لا أذكر أن البحر هتف يوماً وتأخرت
أترك مكتب الدراسات الذي أشتغل به وأجيء تاركاً خلفي كل الدنيا
في منعرج ما
كنت أتمادى
وعائلتك 
بعد أن غير طُعم سنارته وألقاه بالماء 
وبعد صمت خُيل إليَّ أنه التاريخ
لنقل أني وحيد الآن
ولم يضف شيئاً (هو الذي اجتهد في إخفاء شعور حاد بالألم)
وكنت ألطِّف الاجواء
كلما شعرتُ بتعب من العيادة والمرضى –وقسنطينة – أحمل حقيبتي وأغادر، أطفىء هاتفي النقال ..أمتنع عن قراءة الجرائد وأُخلص في الآنصات لصوت البحر
وهل جربت الصيد يوماً؟
كان يسألني
لا ..لم تخطر ببالي فكرة كهذه
كنت أرد
ووجدتُني أعيد جملته السابقة
نحن لا نصطاد السمك دائماً وإنما نتعلم الصبر والنسيان
كان يضحك
( الأرض التي أقف عليها ..أنا لا أعرفها بالقدر الكافي..لكني مندهشة من ربيه باذخ يطل من سنارة صيد
يصطاد الناس السمك بمختلف أحجامه
وتمسك سنارتي حديقة ورد وقوس قزح)
وكنت أختبره ثأنية
هل أُزعج خلوتك؟
وخلف ابتسامة واثقة
بالعكس أستلطف جداً حضورك
(من غيمة بعيدة حط على كفي سرب فراشات بألوان مدهشة)
شعرتُ أني أفقد اتزأني –لغتي –
يجب أن أغادر
لكنه كمن يتمسك بفرح قد لا يتكرر
أخرُج غداً لجولة للبحر في العاشرة صباحاً أن كان...
لم أتردد لحظة واحدة..قاطعتُه 
موافقة 
ضحك من جديد
( ضحكته كتاب قديم من الأغنيات العالية اللحن)
وكنت أغادر
حظاً سعيداً
قلت
ليلتك سعيدة
رد بفرح 
حين دخلت غرفتي كنت امرأةً تولد من جديد
يولد الناس من رحم الأمهات
و أولد أنا من ضحكة رجل بسمرة خاصة – جداً -
ارتميتُ على السرير كطفلةٍ جذلة ..وكنت أنظر للسقف
( هذه الطفلة التي هربت من قسنطينة في غفلة من الوقت والتفاصيل القاسية لا تعرف كيف خرجت من النفق لصباح فيه شمس مشرقة وفيه فراشة تحتفي بالندى المتأخر والورد الذي تفتح لأجلها..إنها إذ تختلي الآن بفرحها الغامر لا تعرف ما تفعل )
في لحظة قمت للشرفة افتحها لارى أن كان هناك فلمحته يعيد الطعم لسنارته ويرميها بالماء
( هذا الرجل الذي يتوغل بليل هذا الشاطىء ويلقي سنارته ليعيد ترتيب طعمها ولا يرتجي سمكا خلف ذلك و يتمادى في الصمت ..اي بحار صاخبة يركبها ..واي الجزر وصل اليها باسفاره التي لا تنتهي..)
ثم كنت اعيد شريط لقائنا في تفاصيله الصغيرة المربكة
ماذا يقصد حين قال لي أني وحيد الآن
لماذا دعاني لخرجة بالبحر غداً بالعاشرة صباحاً؟
هل حدث معه ما يحدث معي مذ تقاطعنا أول أمس وأنا أقطع عليه خلوته؟
وكنت أحلم
فتحت الخزانة لأنتقي لباساً يليق بخرجة الغد وكنت أقف بالدقائق أمام المرأة ..أغير شيئاً باللحظة الأخيرة
وفي خبل ساعتي المكثفة 
كنت أجلس لحافة السرير وأكتشف أني سجينة ماضٍ قاس
لماذا رفضتُ كل الرجال الذين تقدموا لي؟
لماذا كانت تنتهي كل قصص الحب التي عشتُها قبل الآن عند منتصف الشوق ومنتصف الخيبة؟ 
ولماذا كنت أعود اليَّ؟..إلي سجني القديم وأغلق الأبواب خلفي بإحكام وأتفرج على الحياة التي تمضي بالرصيف المحاذي؟ وتمنح البنات بعضاً من الفرح أو كله وتبخل علي 
هربتُ من أسئلتي التي كانت تتوالد بشكل مخيف وفتحتُ الثلاجة الصغيرة الموجودة بركن الغرفة ..أخرجتُ تفاحة صفراء كبيرة ..أعدتُ غسلها أكثر من مرةٍ وكنت أقضمها 
حين استدرتُ رأيتُ ملامح وجهي بالمرآة المقابلة
تسمرتُ بمكاني
بدأتْ بعض التجاعيد الصغيرة تلتف حول عيني وأعلى جبيني
أكاد أصل الأربعين بعد شهور قليلة
كيف مضى العمر سريعاً؟
لماذا أطلتُ الإقامة بسجني؟ ولماذا خرجتْ كل الكائنات للضوء والشمس في الوقت الذي كنت أنكمش فيه يوماً بعد آخر على حزني وأفر إليَّ أكثر كلما غازلتْ الشمس ستائري؟
دخلتُ فراشي وسحبت الغطاء فوقي بعد أن أشعلتُ ضوءاً خافتاً بزاوية الغرفة وكنت أحاول أن أنام
( غداً عند العاشرة سأُبحر صوب الزرقة الفاتحة – وصوب سمرته –
وغداً ربما استطعتُ أن أفتح بعض غرفه السرية وعرفته أكثر
اما أنا ف........
استيقظتُ هذا الصباح باكراً على غير العادة فقد كانت عقارب الساعة تشير للسادسة وعشرين دقيقة وشعرت برغبةٍ فادحة في أخذ حمام في انتظار وصول السابعة صباحاً لأنزل للإفطار..لم أتردد لحظة واحدة ..فتحتُ حنفية الماء الساخن عن آخرها وكان ذلك كفيلاً بأن يشكل موجة ضباب بالمكان وفي ثوانٍ كنت أنغمس بالماء بعد أن فتحتُ حنفية –الماء –البارد.
لم أطِل البقاء طويلاً بيد أني غادرتُ حوض الماء وكنت أمسح زجاج المرآة لأراني بهذا الصباح الجديد.
سرحتُ شعري ثم كنت أضع بعض المساحيق الخفيفة وأرتدي ملابسي وأغادر لمطعم الفندق لتناول الإفطار
حملتُ أكثر من حبة مرطبات وكأس عصير وكنت أجلس للطاولة المطلة على البحر
( هذا الصباح لا يشبه تماماً كل الصباحات التي مضت من عمري
أستفيق فيه لرائحة البن.. لرائحة البحر
أشعر أني أتصالح معي ..مع أشياء الدنيا البسيطة والحميمة
وأكتشفني امرأة للأغنيات كلها)
وكنت أحتفي بالقهوة ..بمذاقها المغاير وأتأهب لشرب العصير لكني في اللحظة التي كنت أحمل كأس العصير لأرتشف رشفة أولى ..كان إبراهيم يقف عند طاولتي
ألا يزعجك أن أقتسم معك هذا العصير
ابتعلت ما بفمي على عجل وبِتلعثم واضح كنت أوافق
طبعاً ذلك يسعدني
وجلس بالجهة المقابلة لي
كانت المرة الأولى التي أراه فيها نهاراً ..فقد بدا لي أجمل مما تصورت 
لم أكن أعتقد أنكِ تقومين باكراً
قال
كنت سأقول له أني بالكاد نمتُ من فرط فرحي وأني وجدتُني أستيقظ باكراً لأحتفي به وبالحياة
تلك عادتي 
قلت وأنا أهرب من نظرته الواثقة
ثم صمت الكلام بيننا فجأة
( هذا الرجل الذي يسبق الشمس لستائري ويطل من فنجان قهوتي لا أعرف كيف أُسمِّيه 
و لا أعرف –أيضاً- كيف أسمِّي الذي يحدث لي معه
تضيع اللغة مني إذ أرى ثقته بنفسه ..إذ أصطدم بحزنه الكبير وسمرته
فلماذا تصير المفردات يابسة بحلقي كلما كنتُ بمواجهته؟ ولماذا أمضي إليه مستسلمة غير راغبة بأية مقاومة؟
ما رأيكِ لو غادرنا والآن باتجاه البحر عوض العاشرة
كان يباغتني
لكنني لم أحمل معي حقيبة يدي ولا بعض الأمور التي أحملها
أنتظركِ وليس أكثر من خمس دقائق
أحببتُ لهجته الآمرة وكنت أُسرع باتجاه المصعد 
دخلتُ الغرفة مذعورة غير مصدقة أن الأمور تمت بهذه السرعة الكبيرة..وقفت ثانية أمام المرآة ..سوَّيت شعري..رششت فستاني بكثير من العطر ونزلت وحين انفتح باب المصعد كان يقف بمحاذاته
هل تجاوزتُ الوقت المسموح به؟
وخلف ابتسامة-يا ويلي-
مازال بحوزتكِ دقيقة فقط
إذن أنا تلميذة مطيعة
كنت أستفزه
جداً
قال
وكنا ننزل السلالم المفضية للشاطىء
نزع أحد الحبال التي ربط إليها القارب الصغير...مد لي يده لأصعد
شعرتُ بارتباك وأنا أفعل ذلك وصعدت
شغل المحرك فانطلق القارب بسرعة كبيرة
كنت أجلس لحافة القارب..لم أتساءل لحظة إلى أين؟ ..كنت أرقب الرغوة البيضاء التي يخلِّفها محرك القارب خلفه وأتمادى في الفرح.
ابتعدنا في لحظاتٍ عن الشاطىء وبدأ حجم الفندق والبنايات المجاورة له يتقلص وكنت مأخوذة باتساع البحر وزُرقته الفادحة...كان إبراهيم يسوق المركب ويختلس النظر إليّ من حين لآخر وكان ذلك كفيلا ًبأن يحملني فوق السحاب.
في لحظة
وحين اختفت اليابسة تماماً كان يطفىء محرك القارب وينظر إليّ بحنوّ
لك أن تستمعي الآن.
قال
ثم فر لسيجارته يشعلها ويسحب نفساً عميقاً منها
لا أنكر أني شعرت برعب كبير حين توقف فجأة وأن قلبي راح يخفق بسرعة عالية لكن شيئاً ما بروحي جعلني أسترجع سكينتي – وسريعاً-
هل جربتِ الماء يوماً من الجهات كلها؟
كان يسألني
لا هذه المرةُ الأولى
ضحك ملء أعماقه
لا أقصد هذا الوضع بالضبط وإنما ما يحدث معنا بالحياة
وكنت أرتبك –من فرط غبائي-
المشكلة أني في قلب الماء منذ زمن
كنت أُلقي جملتي دفعة واحدة
ووجدته يغمرني كالموج العالي
لا أسمعك بشكل جيد فأنت بعيدة جداً..اقتربي
وحين كنت أقوم لأجلس- مرعوبة- أمامه كان يبادر ويجلس قربي
فقدتُ زوجتي منذ سنة تقريباً بعد صراع مع مرض السرطان .. برحيلها فقدتُ طعم الأشياء و رأيتُ الأشكال تتنكر لأشكالها الأولى ..
قال دون أن ينظر إليّ
مع أني أقوم الآن من حداد لم أشرع به بعد ..أحاول أن أبني روحي ومن الداخل
أسرع لسيجارته التي انطفأت ليشعلها ثانية
كلما ضاقت الدنيا أهرب للبحر ..أرمي سنارتي وأنتظر
يملك البحر قدرة عجيبة على الإنصات إلينا..يكفي أن اراه أو أن أجلس لأمواجه الصاخبة ساعة لأصير خفيفاً
كنت سأقول له
أني قريباً أدرك سنتي الأربعين لكني مازلتُ حتى الآن سجينة سنتي التاسعة
وأن ما حدث معي... اعتقدت واهمة أني دفنته ببئر عميقة وأن الحياة استمرت
لكني لم أتفوه بحرفٍ واحد
وكنت أعزيه
أنا آسفة..آسفة جداً ولأجلك...
( هذا الرجل الذي يجلس على بعد لمسة واحدة
أو ربما على بعد قبلة
لا يعرف من أي المنافي أدخل ساعته العاتية
بودي أن أحتضنه الآن
وأن أقول له أني وأني وأني لكني لا أجرؤ..ثمة شرخ بروحي يمنعني أن أَقربه)
ماذا لو تشغل المحرك ثأانية
كنت أقترح عليه
وكان يبتسم –كفرح أغنية بهية-
أمرُك مولاتي
كان يكفي لأن يناديني –مولاتي – لكي أطلب منه ثانية أن يطفىء المحرك وأن أغرق في نوبة بكاء حادة جداً
لم يستوعب الموقف ..كان يمسك يدي ويسألني بمحبةٍ عالية
هل ما رويتُه لك السبب؟
وكنت أجيبه بالنفي.
أخذتُ وقتاً طويلاً لأسترجع عافيتي وأن ينطلق المركب لمحطات كثيرة
أخرج حقيبة صغيرة فتحها أمامي وفيها بعض السمك المشوي
إنها غنيمتي من صيد البارحة
قال.
مضى اليوم سريعاً
وكنا نعود مع أول المساء...
عند باب الفندق لم أعثر على سماح القديمة
كنت أكتشف أخرى جديدة.
وبغرفتي التي دخلتُها عند السادسة
كنت أُعيد ترتيب الصور من جديد و لا أستوعب الذي حدث معي ..ودفعة واحدة
لم اتساءل إن كانت الدنيا تنصفني أخيراً
جلستُ لحافَّة السرير أنظر لتفاصيل الغرفة غير مصدقة أن هذا الفرح الغامر لي ..لي وحدي
وكنت أسترد حديثنا بكل محطاته
قال إبراهيم
ليس هناك فرق بين سجن الحياة وسجن الزنازن
الثاني فقط عادة ما يكون بأبواب مغلقة وبإحكام
كنت أتفادى أن أحدثه عني حتى لا أسقط لورطتي..كنت أهرب لقراءاتي.. للأفلام التي شاهدتها ..لبعض حالات المرضى التي أذكرها جيداً
وكان ينصت إليّ كمن يستمع لابتهالات روحانية عالية
قال
أنه سافر لبلاد غربية كثيرة وأنه ترك بكل زاويةِ مقهى أو حانة بعضاً منه
وكنت أدعم حديثه
على كثرة البلاد التي دخلت ..كانت باريس أجمل تجربة بحياتي
قبل أن يقودنا الحديث لعملنا وعن الجزئيات الصغيرة التي تصنع بهجةَ اليوم لدينا
لكن ونحن نعود ثانية للشاطىء كان يباغتني
لا أفهم كيف أن جميلة مثلك وبمركزك لم تتزوج حتى الآن
ارتبكتُ جداً بيد أنه شعر بخبلي
المكتوب
كنت أنطق الكلمة بصعوبة بالغة
حين أطل الفندق والبنايات القريبة منه..كنت أستجمع قواي وأنظر اليه
لا أعرف كيف أشكركَ على هذا اليوم الجميل
قلت
أنا من يشكركِ على المرافقة
قال خلف بريقٍ مربك لعينيه
ونزلنا.
ليلاً
كنا نجلس لطاولة عشاء واحدة –تماماً كما اتفقنا-
وكنت أكتشفُني بمواجهة اختبار جديد..
( هذا المنحدر الأبيض الذي يسرق مني ساعتي و يسرق مني خطوتي إذ أُحبه أتمنى بالداخل أن يمنحني بعض الوقت لأدرك الذي يحدث معي..في لحظة تغيرت الدنيا ..كل الدنيا ووجدتني أحلم بالصباح الذي دخلت فيه بونة امرأة للمناديل كلها ..فلماذ يطل الربيع في غير موسمه؟ ولماذا يغري روحي بكل هذا الفرح الذي لا أقدر عليه...؟)
حين وقف النادل ليستشرينا ماذا اخترنا ..كان إبراهيم ينظر إليّ لثوان قليلة ثم يقرر
أريد بعض البيض غير الطازج لي ولها شيء من الجبن الأحمر
وكمن يبحث عن وقعِ قراره واصل
ثم بعض السمك الأحمر لي ولها الأبيض
ابتسم النادل وغادر
( كنت سأسأله من أين له بكل هذه القدرة على التقرير وبكل هذه السرعة؟ ..لكني لم أفعل..في قرارة نفسي كنت أحب جداً سلطته ..كان شامخاً كجبل قديم وكنت هشة للحد الذي يدفعني للاحتماء به)
هل أعجبتكِ خرجة اليوم؟
كان يسألني
( هل كان يقصد أي ثورات أشعلها بروحي مذ شغل محرك مركبه...؟)
جداً نعم
قلت
قبل أن أسحب خصلة من شعري سقطت على عيني اليسرى
إنها المرة الاولى التي أصل فيها الماء من الجهات الأربع
وكمن عثر على كنزٍ كان يضحك
الماء من الجهات الأربع
وكنت أتدخل
خذ اللفظَ بمعناه الحقيقي وليس ببعده الفلسفي
لكنه باغتني
هل هو شكل من أشكال الهروب
ولم أرُد بيد أن النادل كان يضع طبقين للبيض والجبن
ورأيتُه دون مقدمات يقتطع بعض الجبن ويسلمه لي لآكله ...ارتبكتُ جداً لكني تناولت القطعة من يده وظل ينظر إليّ ثم بدلال الأطفال قال
لا أعرف الأكل وأنا بحاجة لمن يطعمني الأن..
وبيدٍ مرتجفة كنت أحمل بعض البيض وأسلِّمه إياه، تلقفه بسرعة
وكنا نضحك
وحين وضع النادل صحني السمك..كان يعود لشغبه
ما رأيكِ لو استبدلنا بعض السمك الأحمر بالأبيض على أن تدفعي ثمن العشاء
وكنت أوافق
شرط أن تتعلم الأكل لوحدك
قلتُ مازحة
سأحاول
قال.
لا أعرف كم دامت جلستُنا
الذي أذكره أنه حدثني طويلاً عن بيتهم العائلي القديم بضاحية قالمة وروى لي تفاصيل طفولته (كيف كان يسرق البيض للدجاجة وكيف يخفي صغير خروفٍ عن أمه) وكنت أستمع إليه طفلة تشاركه كل شقاوته .
وفي لحظة كان يسألني
هل تنزلين الشاطىء ليلاً
( هل حانت ساعةُ الرحيل؟
هل سأجرؤ على ترك هذه الجنة الصغيرة والعودة ثانية لقسنطينة؟ ..لتفاصيل اليومي الممل المبتذل ..لبرد البيت ولوحدة الليالي التي سيزورني فيها الأرق ضيفاً ثقيلاً..؟)
أخشى أن لا أقدر على ذلك لأني أغادر غداً وفي الصباح الباكر
تسمَّر بمكانه
وأنا
قال
ثم استدرك
أقصد لن تضرَّكِ نصف ساعة
كنت أعتذر ( غير مصدقة أني أستطيع فعل ذلك)
سنلتقي غداً عند الإفطار قبل أن أغادر
( الرجل الذي يقف على مرمى دمعةٍ وشهقة باكرة مني ..يود أن يأخذ يدي الآن..أن يقتحم ساعاتي أكثر..أن يورطني فيه لكني لا أجرؤ على أن أقْربه – أكثر –
كان يمكن أن أذهب معه للشاطىء ..أن أُجرب ما معنى أن تختلي يدي بيد رجلٍ في ليل عنابة وقرب البحر لكنها أنفاسي التي تكاد تتوقف تمنعني من ذلك)
حين ناولنا النادل صحن الفاكهة
ظلت حبةُ الموز تتكىء بالقرب من حبةِ البرتقال ولم نجرؤ على حملها –الفاكهة-
خيم الصمت بيننا
( في ليل بونة وفي شاطىء ما
كانت شمعةٌ وحيدة تتقد لأجل رجل وامرأة
في لحظة هبت ريح خفيفة أطفأَتها –تماماً كما أطفأتْ الكلام بينهما –
توغلا في الصمتِ وقالت موجة ما تأخر عنهما)
حين كنا نغادر المطعم ..كنت أطلب من النادل أن يسجل الوجبتين باسم غرفتي -408- لكن إبراهيم تدخل بحزم
مستحيل ...سجلها باسم غرفتي 206
وكنت أغادره باتجاه المصعد..لحق بي
ربع ساعة فقط
قال بحزنٍ- باد –
وكنت أعتذر
( دخلتُ المصعد وفي ثوانٍ كانت روحي تغادرني للمرة الأخيرة
كنت سأقول لإبراهيم أني لا أفهم حضوره وبدمي بكل هذه الكثافة... وأني كنت أخشى إن أنا نزلت للشاطىء قد أرتمي بأحضانه وأبكي كما لو أني لم أفعل ذلك قبل هذا التاريخ وأني بفراري ذاك كنت أهرب مني أكثر وأني قبل أي وقت مضى أتمسك به ولا أعرف كيف أقول له هذه الأشياء....)

شعرتُ أني ربما كنت قاسيةً على إبراهيم جداً لكني كنت أقف وكما العادة عند منتصف الطريق..لا أعرف أي الدروب أسلك..وفجأة كان صوته الجهوري ينطلق من حكايةٍ ما –حين كنا نتعشى-
طفولتي كانت صعبة للغاية
كنتُ مجبراً على إلىقظة عند الخامسة صباحاً –أيام الدراسة- لأن المدرسة بعيدة جداً عن بيتنا
كنت أقطع المسافة مشيا على الأقدام ونادراً ما تقف سيارة ما أو شاحنة لتنقلني إلى هناك وعند آخر المساء أعود منهكاً لكني تحت ضوء شمعة أراجع دروسي وسريعاً أنام.
أكثر من مرة كانت أمي تُفاجأ بنومي على المائدة الصغيرة التي أضع بها بعض كتبي وكراريسي
أهرب منه ..من صوته فأصطدم مجدداً به
كانت أيام العطل هي الأسعد بحياتي ..أَمضي لبعض الجبال المجاورة لبيتنا..أصطادُ عدداً كبيراً من العصافير وعند آخر المساء أجلس بالحوش..لم أكن أنام باكراً ..للليل صوت أحبه وأتبعه أحياناً حتى الفجر..كان أبي يسمِّيني طير الليل وكانت أمي تمازحني 
رقدَتْ البومة أم مازالت؟
أذهبُ للخزانة، أفتحُها..يسبقني إلىها صوتُ إبراهيم
في أيام الشباب الأولى كنت أغادر قالمة باتجاه عنابة..أدخلُها فاتحاً بالنزق والجنون ثم أكتشفُ عند الفجر أن الفندق الذي استأجرتُ به غرفة قد أغلق أبوابه فأفترش قطعةً من الكرتون وأنام بمحطة الحافلات وحين أعود لبيتنا أغرق في نومٍ عميق ولساعات طويلة
هل أشعر بالندم؟
ربما تسإلىنني الليلة
لا وجود للندم بساعاتي
مذ دخلتُ الحياة وأنا أُحاربها بنفس سلاحها ..العبث والقفز من الجسر العإلى باتجاه الشلالات العميقة..وكلما سقطتُ للماء أغتسل قليلاً ثم أعود لعبثي مجدداً.
أحمل اأغراضي ..أضعُها بالحقيبة الصغيرة لكن صوت إبراهيم يطل مرة آخرى صافياً صادقاً بريّاً
درستُ خمس سنوات كاملة بجامعة قسنطينة
لم يكن الربيع صديقي ولا حتى الشتاء – أيضاً – 
كنت أكافح على طريقتي الخاصة وأفي لنزقي القديم..كلما ضربتني الحياة رددتُ لها الصفعة مجدداً..ومع الوقت تغيرتْ نظرتي إلىها..كنتُ أراها نكتةً تداعبني فأعاملها بالطريقة ذاتها ..إلى أن تخرجتُ..عمِلْتُ لسنواتٍ بالقطاع العمومي لكني استقلتُ ذات يوم وفتحتُ مكتبي الخاص ..كانت البداية صعبة لكني بنيت نفسي بنفسي إلى أن نجحت.
أغلقتُ حقيبتي كأني أغلق الباب أمام فرحٍ غامر، وكنت أسرع للشرفة لأرقبه إن كان هناك بالشاطىء لكني لم أعثر عليه..في لحظة كنت أخرج بعض الأوراق وأكتب له
العزيز إبراهيم
وجدتُ أن كلمة العزيز مبالغ فيها ..حذفتها
إبراهيم الغالى
أحببتُ كلمة الغالى
ورحتُ أسترسل في التفاصيل 
حين تقرأُ رسالتي هذه أكون ربما قد غادرتُ عنابة 
عند البدء دعني أقول لك إن حضورَك أربك خطوتي وأنني حتى الآن لا أفهم ما يحدث معي
دخلتُ هذه المدينة لأني أحب هذا الفندق- الذي أزوره ربما للمرة الخامسة أو السادسة-..دخلتُها بحثاً عني أو فراراً مني ولم أتصور للحظة أني سأنتهي معك حيث الماء من الجهات الأربع ..كل لحظة اقتسمتُها معك..كانت عمرً إضافياً من البهجة الباذخة والفرح العالى لكني غادرت ..
فضلتُ ألا أصطدم ثانية بك، ليس هروباً منك وإنما مني أكثر
رقمي الهاتفي أتركه لك لتتصل بي-إن وجدت ضرورة لذلك- لكن بعد أيام
دعني أستوعب أولاً هذا الذي يحدث معي ولحظتها سنقرر
سماح.....
صباحاً
كنت أغادر غرفتي –بعد أن فتحتْ شرفتَها على اتساع البحر- وأحمل حقيبتي الصغيرة..لم أقصد المصعد كما العادة..كنتُ أنزل السلالم مذعورة- كلصةٍ مبتدئة- وأقف عند الطايبق الثاني..اقتربتُ من غرفة إبراهيم...تسارعتْ دقاتُ قلبي وأنا أقربها ..قرأتُ رقمها أكثر من مرة- 206- وكنت أضع الرسالة تحت الباب وأنزل مسرعة-كأني أحمل فضيحة الأرض- سلمتُ المفاتيح للعامل بالاستقبال وكنت اأركب سيارة رمزي .
حين غادرنا الحظيرة الصغيرة..كنت أستدير لاأرى الاأمكنة –ربما للمرة الاخيرة-
هل راقتكِ زيارتك
كان رمزي يسألني 
وخلف دمعةٍ كنت أكتُمها
نعم 
أجبت
لكن هذه المرة غير كل المرات
نظر إلىَّ بزجاج مرآته الصغيرة
نتمنى أن نراك ثانية
بلطفٍ كان يقول
(هذه التي تسافر الآن وفي ساعةٍ باكرة من الوقت- والشوق العارم- تغادر عنابة كما لو أنها تغادر الدنيا
بمكان ما تركَتْ قطعةً من روحها
وخطوةً مبتورة بشاطىءٍ بهيٍّ
وبعضَ رمادها الذي أودعتْهُ برسالة مقتضبة)
عبرنا الكورنيش الجميل ..ولم أكن أنظر للشواطىء التي ركضتُ فيها يوماً بالخبل الأول..حاولتُ التخلص من لحظتي المكثفة لكني لم أمكن من ذلك.
( المرأة التي نزلت اليوم صباحاً لطابقه..لغرفته ورمتْ تحت بابه رسالتَها- روحها- تراها قالت له بكل مساحات البياض أنها تحتاجه جداً وأنها تستحيل لمراهقةٍ تكتب رسائل الحب الأولى ..وأنها تعود لعشرين سنة للخلف كأنما تكتشف الحبَّ للمرة الأولى..كأنما تختبر نفسها بالامتحان الأولي ..هي التي عبرتْ دروبها بالشتاء الكبير عارية إلا من صبرها وقدرتها على التجاوز.)
حين توغلنا لوسط المدينة كنت أنظر بعصبية لساعة يدي ..كانت تقارب السابعة صباحاً
أتمنى ألا يكون الطريق مزدحماً
كنتُ أقطع حبل صمتٍ ساد بيني وبين رمزي
اليوم هو الأربعاء..لا أعتقد ذلك
ثم عدت ثانية إلى..
تُراه سيعاتبني حين يعلم أني غادرت
هل سيقول عني أني جبانة؟
كيف سيلتقط رسالتي وبأي عين سيقرؤها 
هل تسافرين بالسيارة أم الحافلة؟ 
كان رمزي يسألني
بالسيارة طبعاً
كنت أجيبه وأنا بالكاد أتخلص من شرودي
لحظات وتوقف رمزي عند بوابة المحطة
سلمتُه أجرتَه وأضفتُ مبلغاً آخر قبضه بعد جهدٍ وغادر
( هذه المرأة التي تقف الآن في قلب محطة المسافرين لا ترى كل الناس ولا ترى السيارات التي يهتف أصحابها بالمدن التي يقصدونها
تقف في مفترق الطرق 
لا تعرف كيف تركب سيارةً تقودها لقسنطينة
بعد قليل تغادر بونة
لكنها تعجز عن مغادرة إعاقتها ...)
حين انطلقت سيارة الأجرة-بعد أن امتلأت بالزبائن – كنت أشعر براحةٍ نسبية وبوخز في الضمير أيضاً ..غادرنا المحطة..كان الجو غائماً وعلى أُهبة المطر ..وكنت أتساءل: تُراه استيقظ الآن؟ ..هو الذي يسهر دائماً لساعةٍ متآخرة من الليل..هل انتبه إلى رسالتي أم أنه غادر الغرفة لقاعة الاستقبال علَّه يلتقيني قبل أن أغادر.؟
شغَّل السائق محطة إذاعية أجنبية..انسابت الموسيقى هادئةً عند البدء ثم سرعان ما أطلَّت الشلالات منها ..كنت أفتح جريدة يومية ..أغلقتها ..كنت أنصت للموسيقى وهي تذهب سريعةً لمكان ما من الروح وتصب فيه..انطلقَ بعدها حديث بين الزبائن عن الجو المتقلب هذه الأيام في الوقت الذي كان يختلي عشرينيُّ بصوتٍ نسائي عبر هاتفه ..كان صوتُه يشبه الهمس..أسرعتُ لحقيبتي أبحث عن هاتفي وأرى إن كان مشتعلاً..
لست أدري كم مضى من الوقت ونحن نعبر المروج التي بدأتْ تكتسي بحُلة خضراء حين رن هاتفي فجأة أسرعتُ إليه كأن لغماً ما انفجر بيدي..تسارعت دقات قلبي..تمعنتُ بالرقم ..كان من العيادة وكانت الممرضة هي من تتصل..أخفيتُ ارتباكاً كبيراً وأجبتُها
آلو
أهلاً دكتورة 
آلو سُميَّة –الممرضة –
هل تعودين اليوم أم أنك تؤجلين ذلك 
لا ..أنا الآن بالطريق ..سأكون غداً بالعيادة
وهل تأتين باكراً
نعم سأكون هناك في التاسعة صباحاً على أبعد تقدير
رحلةٌ ممتعة
شكراً لكِ نلتقي في الغد
حين أغلقتُ سماعة الهاتف ..كنت أنظر إليه أولاً ثم لبقية الزبائن –الذين يجلسون قربي وأتفحصهم إن كانوا لاحظوا ارتباكي أم لا ..عدتُ ثانية للجريدة أفتحها وأهرب إليها..لحظتها كانت بعض زخات المطر قد بدأت بالتساقط..أحببتُ المشهد جداً بيد أني كنت أرقب زجاج السيارة والمطر ينقُره بحميمية خالصة.
( هذه المرأة التي غادرتْ بونة ..دخلتْها ذات صباح ضائعة ..كان أقصى ما ترتجيه أن تختلي بنفسها في ساعةٍ محايدة ..أن تنصت للبحر وهو يعيش طقوسه وأن تروي له –ولموجه العالى- ما معنى أن تقصده امرأةٌ من شجن وأغنيات غير مكتملة لكن الريح هبَّت من نافذةٍ ما توقعتها..كان بودها ألا تتورط..ألا تجد نفسها في مهبِّ المراكب و المواعيد غير المتوقعة..لكنها تقف الآن على جبلٍ عال لا تعرف كيف وصلتْ إليه..)
عاد الهاتف ليرن مرة آخرى
أسرعتُ لشاشته أرقبها..لم يظهر الرقم ..رفعتُه
آلو
أطل صوتُ هدى –اأختي- من البلاد البعيدة
أين أنتِ أيتها المجنونة؟ أحاول الاتصال بك منذ ثلاثة أيام وهاتفك مغلق
أنا بطريقي لقسنطينة ..كنت بعنابة وبالفندق الذي تعرفين
وكانت تضحك-بخبث-
وهل هذا سببٌ كافٍ للانقطاع عن العالم؟
كنتُ بحاجة للراحة
قلت وأنا أجتهد في إخفاء ارتباكي
صوتك يقول أشياء كثيرة
أنا؟
نعم أنتِ
كنت سأقول لها أني وأني
لكني كنت أتهرب
أنا بسيارة أجرة لهذا لا أستطيع الحديث بحُرية
ولماذا لم تسافري بسيارتك؟
تعرفين أني لا أفعل ذلك في المسافات الطويلة 
ثم كنت أغير الموضوع
كيف زوجك وابنك؟
كلنا بخير
وكمن يهرب من محادثة ملغمة كنت أعتذر
حين أدخل البيت سأعيد الاتصال بكِ 
أنتظركِ ثمة تفاصيل كثيرة يجب أن أرويها لك
أعِدُكِ
سأكون بالانتظار
ومرة أخرى 
كنت أنظر حولي إن كان المسافرون قد لاحظوا ارتعاشة أصابعي وأنا أرد على الهاتف أو أهم شعروا بصوتي الذي خُيل إلى أنه كان يرتعد.
ثم عدتُ ثانية لأرقب المطر الذي ازداد غزارة ونحن ندخل قسنطينة..
قسنطينة التي بدت لي كغيمةٍ حائرة وهي تغتسل بعبث 
حين نزلتُ شعرت أني غبتُ لمدة طويلة بيد أني كنت أتفحص الأمكنة كأني أراها للمرة الأولى..استأجرتُ سيارةً أخرى لتقلني للبيت وكنت أتمنى ألا يرن الهاتف وأنا بالخارج..
كنتُ أتمنى أن يحدث ذلك ببيتي....

لا أذكر تحديداً كم استمرت المكالمة 
الذي أعرفه أني كنت أكتشفني فوق غيمة عإلىة
قال إبراهيم وهو يسرد التفاصيل بمحبة عإلىة
حين استيقظتُ صباحاً ..لفت انتباهي وجود الرسالة..لكني لم أتخيل للحظة أنها لك ..أسرعتُ إلىها ألتهم حروفها بشغف كبير وبقدر ما أسعدتني كل الكلمات التي لم تُقل ..كنت حزيناً لأني لم أرك ذاك الصباح ..كانت الجمل تتزاحم بحلقي وكنت مُصِراً على أن أقولها لك دفعة واحدة..
وكنت أتغابى 
كنت مرعوبة جداً من لقائنا ذاك لهذا وجدتني أهرب لأول ورقة أصادفها وأنثر كلماتي –المبتورة – فوقها ..شعرت بذنب فادح لاحقاً ..ربما كنت جبانة أكثر مما يجب
وخلف ابتسامة بهية كان صوت إبراهيم يطل من جديد
لم أتناول فطور الصباح ..اكتفيت بكوب عصير بالطاولة التي تعشينا بها البارحة ثم كنت أغادر للبحر..وأنا أركب الزورق لم أكن أملك وجهة معينة..كان البحر مجرد ماء مالح وكانت الجهات كلها متساوية ..كنت أوقف المحرك عند نقطة ما ثم أكتشف هبائي فأعود لتشغيله ثانية وأمضي دون وجهة ما إلى أن انتهيت ثانية للفندق مع أول المساء..كانت الأمكنة..كل الأمكنة تطالبني بك..الشاطىء الصغير..مطعم الفندق..قاعة استقباله..ثم انتهيتُ للغرفة أنظر لأرجائها كأني أبحث عن شيء ما.
وكنت أقفز من غيمة لغيمة أعلى
لا أريد أن أورطك لكن دعني أفيض أنا الأخرى
ما يحدث معي ومنذ أيام يخطفني إلى ساعة لا أعرف كيف التعامل معها ..يبدو لي أنه يجب علينا أن نتريث قليلاً 
وكان يقاطعني
أقتسم معك الشق الأول من الفكرة لكني لا أحب شقها الثاني
ومن عمق بعيد كنت عليه
ربما كنا بحاجة لبعض الوقت لندرك هذا الذي يحدث بسرعة كبيرة 
وكان يقاطعني ثانية 
الشمس لا تستشير الصباح حين تود أن تشرق
وكنت أضحك
بقدر ما أحب جملك بقدر ما أخشاها
وكان يطمئنني
لا تخافي..دعينا نجرب..
كان بودي أن أقول له أني غريقة –كثيراً أو تماماً- وأني أحتاجه أكثر من أي وقت مضى لكن الجمل كانت تفر من لساني وكنت أهرب لضحكة مصطنعة حيناً ولصمت حيناً آخر
استرجعتُ –بعدها –جمَله –جملةً بجملة –وكنت أحلق لسماء بعيدة
أفهم الآن نشوة العصافير كلما ذهبت للجو وبجوع
ثم نمت
صباحاً كنت أدخل العيادة قبل الثامنة
فقد استيقظت باكراً وكنت مقبلة على الحياة بشكل لا يوصف بيد أن القهوة بدت لي لذيذة أكثر مما يجب كما بدا لي المطر الصباحي حميماً زيادة عن اللزوم
حتى حين دخلت سمية مكتبي وكانت تناولني قائمة المرضى 
كانت تطرح علي سؤالاً ملغماً 
يبدو أن سفرك جعلك تتجددين
لكني قلت خلف نبرة جدية
أشتاق العيادة هذا كل ما في الأمر
لكنها قبل أن تغادر كانت تفاجئني 
وصلت هذه الرسالة البارحة صباحاً ثم غادرت
أمسكت الظرف غير مصدقة أنه الخط الذي تعودت عليه..تسارعت دقات قلبي لكني كنت أمسك بزمام الأمور هذه المرة..أخفيتها على عجل بحقيبة يدي وبدأت باستقبال المرضى...
قصاصات
1/
يمضي الوقت أحياناً 
لكن ندوبنا تظل واضحة وراسخة
كنت في العاشرة من عمري ربما حين قصدتُ- رفقة صباح صديقتي – مكتب والدها القريب من مدرستنا ..كان شرطياً..بمجرد أن دخلنا اعطى ابنته قطعة نقدية لتشتري –وسريعاً- بعض الحلوى في الوقت الذي بقيتُ فيه لوحدي معه –خاصة وأن ذلك تزامن مع نهاية العمل صباحاً – كان ينظر إلى ويبتسم ثم غادر مكانه واحتضنني..أحببتُ ذلك جداً لكني شعرتُ ببعض الرعب حين امتدت يده لخدي الأيسر وظلت تداعبه بشيء من القوة..
حين غادرتُ رفقة ابنته –لاحقاً- 
اخبرتني أن والدها شرطي وأن مهنته القبض على اللصوص والمجرمين 
لست أدري لماذا بقيت لأيام أفكر كيف أشرح له ما حدث لي وأنه الوحيد القادر على سجن المجرم إياه
تفاديت ذلك لاحقاً حين ذهبت لبيت صباح ثانية لنذهب معا للدروس الخصوصية ..فتح لي أبوها الباب بالابتسامة المشرقة ذاتها وكنت أدخل
إنها بغرفتها سأخبرها بوصولك
لكنه أطال العودة
لحظات كانت زوجته على الباب –هي التي نسيت أحد إغراضها- وتفاجأت بوجودي
جئت لأرافق صباح للدرس الخصوصي
لكن زوجها أطل وخلف تلعثمه قال
فضلت أن ترتاح قليلاً من تعب السلالم فقد أخبرتها أن صباح غادرت
وكنت أخرج رفقة زوجته مرعوبة مذعورة..
لم أخبرها بان زوجها كان يكذب .. وأنه ربما كان ينوي...
وفي الشارع الواسع كنت أركض كمن يهرب من غول قاس.
هل كان ما حدث معي ذات صباح خال بالمقبرة سبباً كافياً يجعلني أشك بكل الناس؟ أم تراه كان يقصد...؟
جرحي القديم وحده يملك الإجابة..
2/
كنت في الثالثة عشر من عمري حين شعرت ذات مساء بمغص في المعدة وآلام حادة أسفل البطن إلى أن دخلتُ المرحاض ورأيت بعض قطرات الدم..أُصبتُ بالذهول وكنت أتساءل 
هل تلاحقني لعنة المقبرة حتى الآن؟
لكن الدم ظل ينز مني ولأيام
إلى أن فاجأتني هدى ذات صباح
صرتِ امرأة
كانت تقول
وأنا أرمي بقطعة القماش – الملطخة بالدم - في سلة الفضلات
توقعي أن الأمر يحدث معك كل شهر 
كانت تضيف
لست أدري لماذا ذكرتُ أمي أيامها ولماذا تمنيتها أن تكون إلى جانبي
كانت الوحيدة التي تشعر ألمي 
وكانت الوحيدة التي تفهم يتمي – وقهري - دون كلمات.
3 /
ذات مساء دخل أبي مبتسماً على غير عادته البيت وكنا نتحلق حوله
لقد اشتريت سيارة وإلىوم
وكنا نغادر البيت للشارع –جميعنا- لنعاينها
كانت سيارته رونو 16
ركبت أمي لجانبه بينما قفزنا نحن للخلف..كنا نعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد جولة خفيفة بالشارع المحاذي لكن أبي ظل يجوب شوارع المدينة إلى درجة أني شعرت بالدوار
لكن فرح أمي لم يدم طويلاً بتلك السيارة إذ بعد فترة وجيزة - كانت بعض الجارات توشوش لها بأذنها بأن أبي يخونها مع نساء كثيراًت
لهذا كنت أكره تلك السيارة وأتفادى ركوبها رغم إصرار أبي
كنت أتمنى يومها أن أقف إلى جانب أمي، أن أنصت لصوت الأنثى المجروحة بها لكني لم أكن أعرف كيف أقول ذلك في جمل قصيرة
كنت أبكي كلما وجدتُني لوحدي – وتلك كانت طريقتي المثلى في التعاطف معها -
لم أصدق أن آخر مريض دخل للفحص وأني بعد قليل سأختلي بنفسي وأمارس بعض طقوسي اليومية لكن بمجرد أن جلسثُ لمكتبي وكنت أنصت إليه- شعرت أن شيئاً ما يحدث معه- رفعت ضغطه أكثر من مرة وكنت أندهش كيف حافظ على توازنه حتى الآن وحين كان ينام على السرير لألتقط نبضات قلبه كنت أصاب بالذعر أكثر
سألته 
متى حدث الأمر معك؟
قال بصوت واهن
منذ البارحة ليلاً
وكنت أعود ثانية لضغط قلبه وأتأكد أن الأمر خطير فعلاً قبل أن تؤكد رسومات نبضه ذلك
جلست للمكتب وكنت أكتب له رسالة توجيه عاجلة للمستشفى
سألني – بخوف –
ماذا هناك دكتورة؟
وكنت أمتص خوفه
يجب أن تدخل المستشفى وحالاً حفاظاً على حياتك
قبل أن أستدرك بنوبة مطمئنة
يجب أن ترتاح ولأيام
وكان يغادر – لتغادر بعده سمية –
وكنت أغلق باب العيادة بإحكام..فتحتُ حقيبتي اليدوية ..أخرجت الرسالة نظرت مطولاً إليها قبل أن أحملها معي للمطبخ ..وضعت إبريق القهوة على النار ثم في لحظة غيرت رأيي..أخرجت علبة الشاي ورحت أضع حبوبه بالماء الذي كأن يغلي..لحظات وكنت أسكب فنجان الشاي الكبير وأضيف له بعض أوراق النعناع ثم غادرت المطبخ وكنت أنزوي بالقرب من النافذة المطلة على الشارع الرئيسي الكبير ..لاحظتُ سريعاً الحركة التي بدأت تخف.
ارتشفتُ رشفة كبيرة وكنت أفتح الرسالة بعد أن تأكدت مرة أخرى من عدم وجود اسم مرسلها بالجهة الخلفية
اطلت الجملة الأولى
التي تقيم بنفقها ستصير مع الوقت سيدة للعتمة لماذا لا تحاول والشمس تغرق الدنيا بضوئها
أرعبتني الجملة الأولى
ركضت ببصري سريعاً لأسفل الرسالة علِّي أعثر على اسم مرسلها لكني لم أعثر له على أثر
وضعتها جانبا ًكمن يرقب لغماً بحذر
عدت ثانية لكأس الشاي آخذ منه أكثر من رشفة بيد أني شعرت بعطش فادح بعد قراءة الجملة الأولى ثم تشجعت
اطلت الجملة الثانية
جاب احد العلماء العالم بحثا عن نبتة تساهم في الشفاء من مرض لكنه عاد بعد ثلاثين سنة ليكتشف أن النبتة بحديقة بيته.
خفق قلبي بشدة 
لم احتمل الجملة الثانية وبكل كثافتها ..في لحظة كنت اركض للمرأة وأنظر إلى ملامحي
عاد صدى الجملة الثانية 
في حديقة بيته 
وكنت اتساءل 
كيف يعرفني المرسل لهذا الحد وبهذا الشكل المخيف ثم كنت اسقط لبقية التفاصيل ..التاريخ ..لون قلم الكتابة..نوعية الورق وأنبهر حين أعرف أن الرسالة لم تأخذ غير ثلاثة أيام لتصل...يعني يوم غادرت لعنابة...
مامعنى أن تأخذ الرسالة الاولى سنة كاملة لتصل في الوقت الذي تفي فيه الثانية والثالثة لنفس المواعيد
من يقف خلف هذه الحكاية
كأن السؤال ينجب سؤالا اخر
قبل أن اركز قليلاً مع الخط ونوعية الورق فقد وجدت أن الخط متواضع جداً- لكنه واضح جداً أيضاً-
وأن نوعية الورق لا تختلف عن الرسالتين السابقتين.
لم أرغب في أن أورط نفسي بالجملة الثالثة فقد كنت في لحظة أضع الظرف بحقيبتي يدي وأغادر..
كنت أسرع الخطى باتجاه الحظيرة التي أر كن بها سيارتي –في العادة- وأتأكد مرة اخرى أن هاتفي مشتعل هو الآخر فقد يتصل إبراهيم بين لحظة وأخرى تماماً كما وعدني باتصاله الأول
بعد أن أنهيت عشائي كنت أدخل قاعة الاستقبال وأشعل جهاز التلفزيون..انتقلت لمحطات عدة لكني اكتشفت أنها متشابهة مملة وباهتة..فتحت حقيبة يدي وأخرجت الظرف ثانية..نظرت إليه ثم كنت أرقب هاتفي 
قفزت الجملة الثالثة
القفز لا يفضي دائما للهاوية لكنه يقود لضفة أمان إذا رغبنا
ثم كنت أعود للجملتين-الأولى والثانية- بيد أني كنت أراهما تنفتحان على أبعاد جديدة..
في لحظة كنت أسترق النظر للجملة الرابعة
السجن قضبان وهمية إذا كانت أرض الروح حرة طليقة
لم أجرؤ على قراءة الجملة الخامسة – والاخيرة- كنت كمن يكتشف نفسه أمام مرآة سحرية تعكس الدواخل بالصفاء الجارح
( كان مهدي أخي مهووساً بالموسيقى الغربية بدليل أن غرفته كانت عامرة بصور الفنانين الأجانب وكان عازفاً بارعاً على آلة الجيتار..كثيراً ما يختلي بألحانه عند آخر المساء فكان يخيل إلى أنه كان يصلي بمحراب أغنياته..تقول أمي –رحمها الله-أنها يوم رزقت به ذبح أبي كبشاً كبيراً ودعا العائلة لوليمة مزدهرة قبل أن يفاجأها في اليوم السابع لميلاده ب-مقياس ذهب- أبهرها 
تواصل أمي –بالزهو نفسه –
كان يدللني
كأني طفلته الصغيرة 
ويوم قدوم هدى ومجيئي كان يكتفي بهدية بسيطة ويجتهد في أن يخفي 
امتعاضه لكن بمجرد أن يرى مهدي حتى تكنشف أساريره عن ضحكة عريضة بيد أنه كان يشتري له دون مناسبة ألعابه المفضلة في الوقت الذي كانت أمي تدخر من مصروف البيت لأجل إرضاء احتياجاتنا –هدى وأنا-)
أستجمع قواي وأعود –مرة أخرى – للرسالة
تطل جملتها الأخيرة
أنت لست بحاجة لشمعة قدر احتياجك للدرب الذي يفضي إليك..لم لا تجربين؟
وكنت أسرع لكوب الماء أسكبه دفعة واحدة بجوفي إذ داهمني عطش مفاجىء قبل أن أسقط ثانية لسيل من الأسئلة
كيف يعرفني بالقدر الجارح هذا الذي يكتب إلى؟
لماذا تغفو الحكمة خلف هذا الخط المتواضع جداً؟
ولماذا الوفاء للحبر الأسود بهذه الرسالة وبقية المراسيل التي وصلتني؟
(أرسل مهدي ملفاً ذات يوم لجامعة فرنسية ولم يتوقع أن يصله الرد سريعاً ..في أيام كان يحضِّر حقائبه لسفر طويل – رغم اعتراض أبي-ويغادر..يوم سافر بكيناه بحرقة كبيرة –هدى وأنا- وكان يكتب لنا كل أسبوع..كنا نقرأ رسائله إلى درجة حفظها وسريعاً نرد عليه
كما كنا نرسل له من حين لآخر بعض الحلويات التقليدية مع أصدقائه الذين يزورون المدينة بمناسبات كثيرة
وكان يزورنا كل صيف ..يمكث لمدة تصل الأسبوعين ثم يغادر –مجدداً-
ذات يوم كان يكتب لنا ويملأ رسائله بالصور وكنا نسرع إليها لنتفحصها 
كان رفقة امرأة بفستان الزفاف
علمنا حين قرأنا حروفه بلهفة أنه تزوج من برتغإلىة .
وبدأت زياراته تقل شيئاً فشيئاً إلى أن انقطعت تماماً
في المرات القليلة التي كان يزورنا فيها كان يقتحم ساعاتي
اأم يخفق القلب بعد ؟..ألم تعثري على نصفك الآخر؟
وكنت أتهرب 
حين يحدث الأمر ستكون أول من يعلم
كان مهدي كتوماً منذ طفولته..لم يتدخل يوماً بحياتنا ..ولا يعير اهتماماً كبيراً حين نختلف مع زوجة والدنا.
كان فيه كثير من حكمة أمي وصبرها.)
ثم فجأة رن الهاتف
أسرعتُ إليه لأرى شاشته 
كان رقم إبراهيم....

ليست هناك تعليقات