هل يتوقف الإدراك على فعالية الذات ، أم على طبيعة الموضوع المدرك ؟ (نموذج الجدل )


  :Iالمقدمة ( طرح المشكلة ) :
يعد الإدراك موضوعا للدراسات السيكولوجية ،كونه ارتبط بالفهم أو تأويل العقل لجملة الإحساسات المنقولة عن العالم الخارجي . لكن إذا كان اتفاق الدارسين واردا حول ضبط المفهوم ، فإن اختلافهم قد سجل حول تحديد العوامل المؤدية لوجوده . إذ أكد البعض منهم على قيمة الشروط التي تتوفر عليها الذات، في حين أكد البعض الآخر على دور العوامل الموضوعية، انطلاقا من إيمانهم بأن الموضوع المدرك  إذا احتوى على شروط التنظيم، فإنه سوف يفرض وجوده على الذات المدركة. لذا فهل من صواب بين الطرحين؟  وهل يستند الإدراك على عوامل متعلقة بالذات، أم أن قوامه عوامل موضوعية تتعلق بالموضوع المدرك؟ وهل اختلاف الناس في ادراكاتهم راجع إلى تباين قدراتهم أم إلى التباين الموجود في  الحالات التي تكون عليها موضوعات العالم الخارجي ؟



II   : التوسيع( محاولة حل المشكلة )
  القضية:(يتوقف الإدراك على فعالية الذات )
شرح وتحليل : أكد أنصار النزعة الذاتية أن الإدراك يتوقف على شروط ذاتية واختلاف الناس في ادراكاتهم راجع للتباين على مستوى القدرات النفسية، الذهنية والحسية ..، الإدراك لا يتوقف على العوامل الموضوعية كون الإنسان يدرك ما يشاء وقت ما يشاء ، أي قد يكون الموضوع واضحا غير أنه لن يفهم لما تغيب الرغبة في فهمه.. 
البرهنة: يتوقف الإدراك على العوامل الذاتية، لأن أي خلل أو نقص على مستوى الأعضاء الحسية أو الجملة العصبية يؤثر سلبا على مستوى العملية الإدراكية ، فالأعمى ليس بإمكانه التمييز بين الألوان والأصم ليس بإمكانه تحديد الأصوات حتى وإن امتلكا ذكاء خارقا وهذا ما يثبت صدق طرح أريسطو القائل "من فقد حسا فقد علما" . لذا فإنه إذا كان الناس يختلفون على مستوى القدرات الذهنية و الحسية ، فإنه من الضروري أن يختلفوا في إدراكهم لحقيقة الموجودات وهو ما يثبت قول بروتاغوراس  القائل: " إن الأشياء بالنسبة إلي هي كما تبدو لي، و بالنسبة إليك كما تبدو لك ، و أنت إنسان و أنا إنسان" الادراك مرتبط بالشروط النفسية، لأنه كلما عظم الرضا عن فعل التعلم ،كلما كان زمنه  أقل، والإنسان يدرك ما يتماشى مع ميوله  ويتجاهل ما دون ذلك، فهو يجد نوعا من الارتياح و السرعة في إدراك بعض الأشياء، لكن لا يجد ذلك في أشياء أخرى ، لذا يقال إن  المعرفة وليدة الميل ويقول ريد  "الإدراك هو الإحساس المصحوب بالانتباه" الإدراك لا يرتبط بالعوامل الموضوعية، لأن الموضوع المدرك قد يكون واضحا دون أن يفهم ، إذا غابت الرغبة في فهمه أو خبرات الفرد تجاهه، لأننا لو نلاحظ خط التلميذ في أول يوم من التمدرس ثم بعد سنة ، فإننا نستوعب دور العادة في عملية الإدراك . كما انك لو سالت أنسانا عن المدة التي يستغرقها من القسم إلى المنزل، لأجابك بدون أي تفكير، لأنه فقط يستحضر خبراته ، لذا يقول باركلي :"إدراك المسافات هو  حكم يستند إلى التجربة"
. النقد: على الرغم من أهمية طرح هؤلاء إلا أنه لا يمكن التصديق بما ذهبوا إليه، لأنهم نظروا إلى الإنسان على أنه متواجد بعيدا عن العالم الخارجي، ولأن العوامل الذاتية قد تتوفر مجتمعة، لكن لا يتم الإدراك نظرا لوجود الغموض في الموضوع المدرك . و هذا يعني أنه للقضية تفسيرا آخر
نقيض القضية :(يتوقف الإدراك على طبيعة الموضوع المدرك )
  شرح وتحليل:أكد  أنصار المدرسة الجشطالتية أن الإدراك يتوقف على عوامل موضوعية خاصة وأن الموضوع المدرك إذا احتوى على الانسجام بينه كشكل وبين الأرضية، فإنه سوف يفرض وجوده على الذات . الإدراك لا يتوقف على شروط ذاتية مادامت المواضيع المعقدة لا تدرك حتى في حالة إصرار الرغبة.
ب : البرهنة : الادراك يتوقف على العوامل الموضوعية، لأن كوهلر , بوهلر , فريتهايمر , كوفكا  و الذين يمثلون  المدرسة الجشطالتية  قد توصلوا أن الموضوع المدرك إذا توفر على شروطه الأساسية، فإنه سوف يفرض وجوده على الذات، و هذا ما ينفي دور الذاكرة و العوامل الذاتية في العملية الادراكية. ركز رواد المدرسة الشكلية على فكرة الانسجام بين الشكل و الأرضية، لأن هذا الانسجام هو الذي يحقق الإدراك السليم ، فالنقطة المضيئة في الظلام هي إدراك وليس مجرد إحساس، والشيء الأسود الموضوع على مساحة بيضاء يدرك بسهولة بينما يصعب إدراكه إذا وضع على مساحة سوداء ، و النجوم تدرك  في الليل ويستحيل إدراكها في النهار. لذا يقول  بول غيوم    "بقدر ما يختلف لون الشيء الذي ندركه عن الأشياء المحيطة به يكون إدراكه أوضح وأتم". الادراك يتوقف على عوامل موضوعية، لأن  الموضوع البارز يرغم الذات على إدراكه، والحكم يتم حسب ما نراه لا حسب ما نرغب في رؤيته. والواقع يثبت  أن أول شيء يلفت الانتباه في قرية صغيرة هو مئذنة المسجد حيث تمتلك بروزا في المكان يفرض نفسه على الذات . كما أن الأشياء المتشابهة تلفت انتباه الذات فتدرك قبل ما يحيط بها (  التوأم وسط جماعة من  الأطفال ) . كما أن  الموضوعات المتقاربة زمانا و مكانا يسهل إدراكها قبل غيرها من الموضوعات الأخرى . فتقارب مجموعة من النقط في شكل دائري يوحي أننا نرى دائرة , كما أن مجموعة من النقط على استقامة واحدة توحي بأنها خط مستقيم ، لكن حذف نقطة بعد كل نقطتين تجعلنا نشاهد نقطتين مثنى مثنى، و التغير هنا في الإدراك ناتج عن تغير حالات الموضوع ، و هذا ما يثبت قيمة العوامل الموضوعية . كما أن الذهن مبرمج أن الكون يتميز بالتنظيم ، لكن النقص الذي قد يبدو في بعض ظواهر الوجود يفرض عليه أن يعمل على سد الثغرات ، أي يقوم بغلق الفراغ الموجود في الطبيعة كأن نقول : الديمو ..... تفرض التصريح بلفظ  الديموقراطية بعد الإغلاق . وقد أكد ميرلوبونتي  على دور العوامل الموضوعية في قوله "الرؤية تعني وجود الألوان و اللون ليس صفة للذات بل هو صفة الشيء و الأشياء ليست إحساسات بل محسوسات ".
النقد : على الرغم من أهمية طرح هؤلاء إلا أنه لا يمكن التصديق بما ذهبوا إليه،  لأنه قد تتوفر كل العوامل الموضوعية في موضوع معين لكن لايدرك من طرف من يعاني خللا عضويا أو من لا يمتلك الارادة والرغبة في ذلك. كما أن أنصار المدرسة الجشطالتية حصروا العالم الخارجي فقط في الصور و تجاهلوا الحواس الأخرى . و هذا ما يثبت أنه للقضية تفسيرا آخر .
التركيب : و كتوفيق بين الطرحين يمكن التأكيد أن الادراك لا يتوقف على العوامل الذاتية فقط ، كما لا يتوقف على العوامل الموضوعية فقط ، بل يتم عن طريق التكامل بينهما إضافة إلى الظروف البيئية والاجتماعية . لأن العوامل النفسية تمنح الفرد القدرة على الإدراك و الموضوعية تمنحه مادة الإدراك أما الاجتماعية فتساعده على تصحيح ادراكاته الخاطئة.
 الخاتمة (حل المشكلة ) : ختام القول يمكن التأكيد أن الإدراك يتوقف على عوامل ذاتية ،لأن القدرات التي يمتلكها الفرد هي التي أهلته لفهم حقيقة العالم الخارجي ، لكن لا يمكن أيضا التخلي عن قيمة العوامل الموضوعية وحتى  الشروط البيئية والمكتسبات الاجتماعية . لأن الإنسان ليس بإمكانه التواجد منعزلا عن الغير و عن الانسجام الذي تحتويه عناصر الوجود . ليس بإمكانه أن يتجاهل الظروف الاجتماعية والمواضيع الواضحة المحيطة به.


الله ينجحكم ولا تنسونا من دعائكم لنا

هناك 5 تعليقات: