مقالة جدلية هل تخضع المادة الجامدة لقوانين ثابتة، أم تخضع لفكرة الاحتمال؟


 هل تخضع المادة الجامدة لقوانين ثابتة، أم تخضع لفكرة الاحتمال؟ 

I – المقدمة (طرح المشكلة)إن العلم في بحته عن الاكتمال، وفي سعيه إلى ضبط الظواهر ضبطا دقيقا، حاول اعتماد التجربة بالمعنى الأوسع، خاصة وأن التجربة أصبحت تعد منطلقا عند الكثير من الدارسين من أجل منح المعارف صفة العلمية، انطلاقا من إيمانهم أن الكون خاضع لنظام ثابت يتيح فرصة التنبؤ بالمعنى الدقيق، أي أن النتائج المقيدة بتجربة معينة تبقى حتما على حالها، في حالة تكرار نفس الشروط والظروف. لكن إذا كانت هذه الأبحاث قد حصرت الطبيعة في قانون ثابت فإن الدراسات المعاصرة حطمت هذا الاعتقاد وأصبحت تتعامل من منظور الاحتمال، فقد اقتنع الكثير من الدارسين أنه من المستحيل التنبؤ بالمعنى الدقيق على مستوى الظواهر المتناهية في الصغر. لذا هل يمكن اعتبار الحتمية أنها مبدأ مطلق يحكم الظواهر؟ أم أن العلم يخضع لفكرة   اللاّحتمية؟

 II-التوسيع(محاولة حل المشكلة)





1 - القضية: ( تخضع المادة الجامدة لقوانين ثابتة ).

شرح وتحليل: يرى علماء الفيزياء الحديثة، أن توفر مجموعة من الشروط ضمن مجموعة من الظروف يؤدي إلى حدوث نتائج معينة على مستوى الظواهر الجامدة. وتكرار نفس الشروط ضمن نفس الظروف، سوف يؤدي إلى نفس النتائج حتما، مما يتيح فرصة التنبؤ بحدوثها مستقبلا قبل وقوعها. أي  أن جميع ظواهر الكون خاضعة لمبدأ الحتمية

البرهنة: أكد لابلاس أن الظواهر الطبيعية خاضعة لنظام ثابت، لأنه لا شيء في الوجود يحدث عبثا، بل  كل ظاهرة لها شروط محددة، إذا تكررت هذه الشروط تحققت نفس النتائج حتما. وفي ذلك يقول:   "الكون هو آلة كبيرة يمكن التنبؤ فيه بكل ما سوف يحدث مستقبلا ". ويضيف: "ينبغي أن نعتبر الحالة الراهنة للكون أنها نتيجة لحالته السابقة، وسببا في حالته اللاحقة التي تأتي من بعد ذلك مباشرة...، ولو استطاع ذكاء ما، من أن يعلم في لحظة معينة جميع القوى التي تحرك الطبيعة... لأصبح المستقبل ماثلا أمامه".
 تخضع المادة الجامدة لقوانين ثابتة، لأنها تعد جزءا من الكون الذي يسير وفق نظام ثابت، وما يصدق على الكل، ينبغي أن يصدق على الجزء أيضا، وهو ما أكده غوبلو بقوله: "العالم متسق تجري حوادثه على نظام ثابت". أي نظام الكون مماثل للساعة في الدقة والآلية، فإذا تمكن الباحث من معرفة موقع الجسم، سرعته، طبيعة، وحركته فإنه صار قادرا على ضبطه ضبطا دقيقا. وهذا يعني أن كل الظواهر الطبيعية، سواء كانت تنتمي إلى العالم الأكبر، (الماكروفيزياء) أو كانت تنتمي إلى العالم الأصغر، (الميكروفيزياء) فإنها تخضع لمبدأ الحتمية. والواقع يثبت ذلك، لأنه لا مجال للشك في  النتيجة  المؤكدة أن الماء يتبخر عند الدرجة مئة، أو يتجمد عند الدرجة الصفر، لأن بداهة العقل وحتمية الواقع فرضت هذا الصدق.  المادة الجامدة تخضع لقوانين ثابتة، وحتمية صارمة، وهذا ما يجعل الفيزياء تستحق أن تسمى علما حقيقيا، لأن الحتمية من المبادئ البديهية التي لا يمكن للعلم أن يستغني عنها، كونها شرط لوجوده،   وهو ما أكده  هنري بوانكاري بقوله: "العلم حتمي وذلك بالبداهة، إذ لولاها لما أمكن للعلم أن يكون"، ويقول أيضا: "إن العالم الذي لا تسوده الحتمية هو موصد في وجه العلماء". نفس الطرح وجد عند كلود برنارد، حيث أكد أن تقبل أية ظاهرة خارج نطاق الحتمية يعد إنكارا للعلم.



  

النقد: حقا يتميز الكون بالتنظيم والانسجام، لكن من المستحيل على الإنسان ذلك الكائن النسبي أن يحقق قوانين ثابتة، كما أن  الضبط الدقيق للظواهر يكون في حالة بلوغ الملاحظة قمة اليقين وهذا مستحيل، ضف إلى ذلك فإن تعامل فيزياء القرن العشرين مع الظواهر المتناهية في الصغر أدى إلى الاقتناع  بفكرة الاحتمال

2- نقيض القضية: (لا تخضع المادة الجامدة لقوانين ثابتة)

شرح وتحليل: توصل علماء الفيزياء في القرن العشرين إثر دراستهم للظواهر الميكروفيزيائية، أن المادة الجامدة لا تخضع لقوانين ثابتة، ولا يمكن التنبؤ على مستواها بالمعنى الدقيق. أي أن تكرار نفس الأسباب ضمن نفس الظروف، سوف يبقي احتمال حدوث نفس النتائج نسبيا.

البرهنة: لا يمكن إخضاع المادة الجامدة لقوانين ثابتة، لأن الدراسات التي حاولت التعامل مع الظواهر المتناهية في الصغر، توصلت أن الذرة لا تصدر طاقتها بصفة منتظمة، وهو ما يمنع من دراستها بدقة، وهو ما جعل ماكس بلانك يقول: "قبل كل شيء علينا أن نعترف أنه ليس من الضروري أن يخضع الكون إلى قوانين فيزيائية ثابتة، أو أن يخضع بداهة لها، وإذا حدث أن خضع لها في الماضي، فإنه ليس من البديهي أن يدوم الأمر على هذا الحال".






 كما توصل هيزنبرغ إلى استحالة قياس كمية، حجم وتحديد موقع الجسم داخل الذرة، لأنه كلما دق قياس الجسم غيرت هذه الدقة كمية وحركته، وكلما دق قياس حركته، التبس موقعه، وهذا ما يمنع  أن يقاس موقع الجسم وكمية وحركته معا قياسا دقيقا، مما يؤدي إلى استحالة التنبؤ الدقيق على مستوى الظواهر الميكروفيزيائية.
 المادة الجامدة لا تخضع لقوانين ثابتة، لأن الحديث عن الذرة فتح المجال للمجهول، كونها تحتوي عناصر لم يتمكن العلم من ملاحظتها بدقة، كما توصل جون دالتون أن الذرة تمتلك القابلية للانفجار، "ذرة الطاقة" لكن دون تحديد الزمن بدقة، وهذا ما جعل الفيزيائي الإنجليزي ايدجنتون يقول: "إن تقدم العلم جعل الدفاع على مبدأ الحتمية مستحيلا". وهو ما يثبت طرح جون كميني  القائل في كتابه العلم والفلسفة: "كثير مما نطلق عليه اسم القوانين العلمية، هو إما صحيح بشكل تقريبي، أو خطا في كثير من الأحيان".

النقد:  لكن رفض الحتمية والأخذ بفكرة الاحتمال يؤدي إلى الوقوع في الصدفة التي تعد مخالفة لحقيقة العلم. عدم القدرة على دراسة الذرة بدقة هي فقط مرحلة مؤقتة ناتجة عن عدم توفر الأجهزة، ومن ذلك فإنه لا يمكن الأخذ بحكم مرحلي، وتجاهل القوانين الصارمة التي حققها العلم. 

   3- التركيب: يمكن اعتماد الحتمية كمبدأ مطلق يحكم الظواهر الماكروفيزيائية، ويمكن الإيمان بفكرة الاحتمال والنسبية كمبدأ تفرضه الظواهر الميكروفيزيائية أثناء التعامل معها، لأننا إذا نظرنا إلى العالم الأكبر، فإننا نلمس الحتمية بوضوح،" أما إذا نظرنا إلى بحوث الذرة، فلن نجد إلا الاحتمال والنسبية، لأن بنيتها تتميز بالحركية وعدم الثبات.





III  -الخاتمة (حل المشكلة) ختام القول يمكن التأكيد أن المادة الجامدة تخضع في بعض جوانبها لقوانين ثابتة، أسستها الفيزياء الحديثة، لكن تعامل الفيزياء المعاصرة مع الظواهر الميكروفيزيائية، فرض الاقتناع بالاحتمال والنسبية، خاصة  وأن غياب الأجهزة والوسائل طرح صعوبة الملاحظة والتنبؤ على مستواها. 






        لمزيد من مقالات اضغط هنا  اي استفسار ضعه في تعليق  الله ينجحك ولا تنسونا من دعائكم لنا                                                          

ليست هناك تعليقات