"قيل النسيان آفة الذاكرة " حلل و ناقش


 الموضوع: هل يمكن القول بأن الفشل في استرجاع الذكريات يحول دون التكيف السليم ؟
                 
-المقدمة:(طرح المشكلة): تعرف الذاكرة حسب دراسات ( أندري لالاند ) أنها وظيفة تتمثل في استعادة الأحوال الشعورية السابقة في الحاضر وذلك حسب الحاجة , مع التعرف عليها من حيث هي كذلك . ويقابل الذاكرة مصطلح النسيان , أي عدم القدرة على التثبيت أو الإحتفاظ بالخبرات و الحوادث السابقة أو كما عرفه الجرجاني:"أنه الغفلة عن المعلومة " . لكن المشكل ليس في ضبط مفهوم النسيان  بل في حقيقته  و هو ما شكل محور نقاش الكثير من الدارسين  حيث عبر عنه البعض منهم أنه آفة الذاكرة في حين أكد البعض الآخر أنه من غير المعقول أن يحتفظ الإنسان بكل الذكريات و إلا بقي منحصرا في حلقة الماضي . لذا هل من صواب بين النقيضين و هل النسيان حالة مرضية أم طبيعية ؟ بل هل النسيان هو دعم أم تحطيم لوظيفة الذاكرة ؟



-التوسيع:(محاولة حل المشكلة:)

القضية:النسيان حالة مرضية

 شرح و تحليل:النسيان يؤثر على وظيفة الذاكرة تأثيرا سلبيا،وهو يتجسد في أمراض الذاكرة،إذ يرى بعض العلماء و الأطباء أن النسيان حالة مرضية تصيب الذاكرة نظرا لحوادث نفسية أو عضوية يتعرض لها الفرد،فتعيق تكيفه مع الواقع،ومن أهم التفسيرات المرضية للنسيان:



البرهنة:
1-  يرى عالم النفس الفرنسي الفزيولوجي : ( تيودور ريبو ) أن النسيان حالة مرضية يتم عن طريق الإصابات المادية التي قد تصاب بها خلايا القشرة الدماغية نتيجة إصابة مباشرة  يتعرض إليها الإنسان فيصاب بفقدان كلي أو جزئي لماضيه،-  و قد أيدت التجارب التي قام بها ( الطبيب الأمريكي بروكا ) صحة النظرية المادية  ل ريبو  حيث أثبت أن أمراض الذاكرة الحسية الحركية ترجع إلى إصابة في منطقة التلفيف الثالث من الجهة الشمالية في الدماغ و التي سميت فيما بعد بمنطقة  (بروكا ) .كما أشار ( الطبيب بنفيلد في جامعة موريال  ) أن التنشيط الكهربائي على مستوى الخلايا الدماغية  يمنح القدرة على الاسترجاع لجزء من الماضي . كما أكد (الدكتور دولاي ) أن فتاة في الثالثة و العشرين من عمرها أصابتها رصاصة في المنطقة الجدارية اليمنى فأصبحت لا تستطيع التعرف على الأشياء التي توضع في يدها اليسرى بعد تعصيب عينيها , لكن من مجرد وضع نفس الشيء في اليد اليمنى فإنها تتعرف عليه بسهولة , وهكذا تبدو الذكريات كما لو كانت موضوعة في منطقة معينة في الدماغ وحدوث أي خلل يعني زوال الذكرى. وهذا يعني أن الدماغ بمثابة الأسطوانة تنقش عليها الصور و الأصوات و يتم استرجاعها عند الحاجة . إذا تعرضت الأسطوانة إلى أي خدش فإن ذلك يؤدي إلى زوال المعلومة , كذلك تعرض الجملة العصبية لأية إصابات فإن ذلك يؤدي  إلى عدم القدرة على الاسترجاع . و الواقع يثبت أن أحد الطلبة بجامعة واشنطن فقد القدرة على الاسترجاع  بعد تعرضه لحادث خلف له نزيفا و خرابا على مستوى الخلايا الدماغية .
2 -  من الأمراض التي تصيب الذاكرة وتحول دون التكيف السليم نجد (الأمينيزيا أي فقدان الذاكرة) وهو عدم القدرة على استرجاع حقبة زمنية من حياة الفرد . ( الأفازيا ) وهي فقدان القدرة على تذكر بعض الألفاظ و الكلمات(عجز الدماغ عن إعطاء أوامر صحيحة للجسد أو  عدم استعمال اللغة استعمالا صحيحا). ونجد كذلك ( الهبرمانزيا  أي تضخم الذاكرة ) و هي الاسترجاع المفرط لكل الذكريات ( الشيوخ عند الحديث عن الثورة ). ( انحراف الذاكرة  أي الذاكرة الكاذبة ) وهي عدم القدرة على التمييز بين الصواب و الوهم .
3-  يؤكد هنري برغسون أن النسيان ذو طبيعة سلبية لأنه مقترن بتلك الصدمات النفسية العنيفة التي تهدد توازن الإنسان النفسي . و قد أكد سيغموند فرويد أن النسيان هو كبت الذكريات المؤلمة و هو حالة لاشعورية تعبر عن الهروب من الواقع الذي نعجز عن مواجهته . فالذاكرة تعني التنظيم أما النسيان فيعني وقوع الأنا فريسة للفوضى .
إستنتاج جزئي: إذن النسيان حالة مرضية. مادام التذكر يعني سلامة الجملة العصبية

نـقـد:  ليس كل نسيان مرضا لأنه قد يكون شرطا لحياة الذاكرة , و ليس كل نسيان كبتا أو تلفا على مستوى الخلايا بل قد يكون عفويا و ضروريا يتماشى مع طبيعة الإنسان الذي يحمل إسما مرادفا لكثرة النسيان . النسيان وجد فطرة في حياة الإنسان ولا يمكن أن يخلق الله شيئا عبثا بل كل شيء وجد لغاية تخدم الفرد و المجتمع.
  
نقيض القضية :النسيان حالة طبيعية.


 شرح و تحليل: يذهب أنصار هذا الطرح للتأكيد على مسلمة أساسية مضمونها أن النسيان حالة طبيعية و ظاهرة ملازمة لحياة الإنسان,  عامل للتوازن النفسي و الاجتماعي,  حيث يتم إبعاد الذكريات التي لا تتماشى مع اللحظة من أجل التكيف مع المواقف الجديدة.






البرهنة:
1-  يعتبر النسيان شرطا من شروط سلامة الذاكرة،هذه الأخيرة لا يمكنها أن تحتفظ بكل دقائق الأمور،ولولا النسيان لما تقدمنا خطوة واحدة في تحصيل  المعرفة، وفي هذا يقول روبرطوكي:"إن الذاكرة الأخاذة والحفاظة يمكنها أن تشكل عائقا للتطور العالي للفكر بسبب التراكم الذي تحدثه." نفس الطرح نجده عند دوغاس حيث أكد أن النسيان ليس نفيا أو نقيضا للذاكرة ... بل هو شرط من شروط سلامتها و وجودها .  هذا ما عبر عنه غوسدروف من خلال طرحه " النسيان شرط لاستمرار الوجود "
2 - للإنسان ماض يؤثر في حاضره،ومن منا لا يملك ذكريات مؤلمة وقاسية،ولولا نعمة النسيان لأصبحت حياتنا جحيما لا يطاق،يقول الدكتور عائض القرني في كتابه لا تحزن:" أن تذكر الماضي والتفاعل معه واستحضاره والحزن لمآسيه حمق وجنون،وقتل للإرادة،وتبديد للحياة الحاضرة، إن ملف الماضي عند العقلاء يطوى و لا يروى،يغلق عليه أبدا في زنزانة النسيان لأنه مضى وانتهى،لا الحزن يعيده و لا الهم يصلحه."
3 -  يقال"النسيان يمحي آثار الحقد ووطأة الآلام بين الحكام والملوك."و يحكى أن إحدى القبائل المنغولية تحرم على أفرادها ذكر أسماء الموتى و ذلك من أجل نسيان الأحقاد  . هذا ما يثبت أنه للنسيان قيمة من الناحية الإجتماعية . لأن النسيان يمنح الأعداء الفرصة أن يكونوا أصدقاء ويجعل من الآلام مجرد محطات كان من الضروري الوقوف عندها في يوم مضى . لولا النسيان لاختفت الصداقة وسيطر الحقد . لولا النسيان لبقي الإنسان سجينا في الماضي .
4 – أكد فريدريك نيتشه :أن الإنسان الذي لا يريد أن يرى سوى ما هو ماض مثله كمثل الذي يرغم على التخلي عن النوم . أو كمثل الحيوان الذي يجتر من دون نهاية .
و يضيف قائلا " أن النسيان هو تعبير عن الصحة الجيدة , فالشخصية الحقيقية تمسح الطاولة لتفسح المجال لوجبة جديدة . " و هو ما يتماشى مع طرح شامفور القائل " يجب أن نعيش حياتنا يوما بيوم و ننسى كثيرا " لأنه ينبغي على الإنسان أن يبقى في حدود يومه . 

استنتاج جزئي:إذن النسيان حالة طبيعية.
نـقـد: على الرغم من أهمية طرح هؤلاء لكن لا يمكن التصديق المطلق  بما ذهبوا إليه فالحقيقة أنهم عبروا فقط عن الجانب الإيجابي و تجاهلوا الجانب السلبي , فقد يكون النسيان سببا في عدم القدرة على التكيف و قد يكون هروبا من الواقع . بل قد يحاول الإنسان إسترجاع بعض الذكريات التي تتماشى مع الذوق لكن وجود إصابات على مستوى الجملة العصبية يحول دون ذلك . فهل هذا يعد طبيعيا أم حالة مرضية ؟ بل الفرد الذي ينسى حتى مواعيده ويتهمه المجتمع بالمتهاون هل يعيش حالة طبيعية أم مرضية ؟ بل هل نسيان بعض الأحقاد و الذكريات المؤلمة يؤثر دوما إيجابا على محاولة التكيف ؟ 
التركيب: من خلال ما تقدم يتبين لنا أنه لا يمكن أن يكون النسيان دوما آفة للذاكرة كما لا يمكن أن يكون دوما نموذجا من أجل التكيف بل يمكن القول بأن النسيان حالة ضرورية وطبيعية تفرضها الذاكرة التي لا يمكنها أن تحتفظ إلا بالمهم ، فالإنسان لا يلتفت إلى الماضي إلا بمقدار ما يساعده على تحقيق مشاريعه ، ولكن نجد نوعا آخر من النسيان الذي تتسبب فيه أمراض مختلفة قد تصيب الذاكرة،وذلك ما يسمى بالنسيان المرضي.

  الخاتمة:(حل المشكلة): ختام القول يمكن التأكيد أنه مادامت وظيفة  الذاكرة تتحقق في ظل التكامل بين السلامة الفيزيولوجية و السيكولوجية فالنسيان يمكن أن يكون حالة مرضية ناتجة عن وجود خلل على مستوى الجملة العصبية أو إضطرابات نفسية . هذا من جهة , و من جهة ثانية فإنه مادامت الذكريات تستمد وجودها من الأطر العامة للمجتمع فإن النسيان حالة طبيعية  و شرط من أجل التكيف السليم مع الغير . و هذا يعني أن النسيان هو في الأصل طبيعي و في بعض الحالات يعد حالة مرضية تؤثر سلبا على الفرد .  

تحميل مقالة برابط مباشر :
       لمزيد من مقالات اضغط هنا  اي استفسار ضعه في تعليق  الله ينجحك ولا تنسونا من دعائكم لنا




                                                                             

هناك تعليقان (2):