يقول ديكارت :"الإدراك حكم عقلي". حلل وناقش




الموضوع : يقول ديكارت :"الإدراك حكم عقلي". حلل وناقش                   
الموضوع : قيل " الشيء يدرك و لا يحس به " ما رأيك ؟


المقدمة:(طرح المشكلة)
إن محاولة فهم الإنسان لحقيقة العالم الخارجي الذي وجد جزءا منه اقتضت اعتماده كل الكفاءات التي تعبر عن انفراده و التي نجد منها الإدراك الذي عرفه (أندري لالاند في معجمه الفلسفي ) انه الفعل الذي ينظم به الفرد إحساساته الحاضرة مباشرة ويفسرها مبعدا عنها الطابع الانفعالي . لكن المشكل ليس في ضبط المفاهيم بل في عدم اتفاق الدارسين حول حقيقة وطبيعة الإدراك ، حيث أكد البعض منهم انه معطى حسي متوقف على التجارب الحسية . لكن ألا يمكن لأحاسيسنا أن تخطئ؟ سؤال دفع العقلانيين إلى بناء العملية الإدراكية على العقل و التأكيد انه لا يمكن أن تكون المفاهيم الموجودة في الذهن مأخوذة عن الحواس لانها تصور العالم على غير حقيقته. لذا هل من صواب بين النقيضين ؟ وهل يصدق الطرح القائل أنه لا وجود لشيء في الذهن ما لم يوجد في الحس ؟ أم الحقيقة تكمن في أن الإدراك حكم يصدره العقل ؟


التوسيع:(محاولة حل المشكلة)
أ- الأطروحة ( الإدراك حكم عقلي )
تؤكد المدرسة العقلية على حقيقة مفادها أن إدراك العالم الخارجي يستند أساسا على العقل، انطلاقا من أن الإنسان هو الوحيد المدرك و الوحيد المنفرد بملكة العقل . و  الحواس تخطئ ويتدخل الذهن  لتصحيح هذه الأخطاء وإعطاء الصورة الحقيقية للشيء.





البرهنة:
1-أكد ( المفكر الفرنسي روني ديكارت في مشروع الكوجيتو ) أن -  الإدراك حكم عقلي و هو يجعلنا ندرك الشيء كما هو لا كما يرى - و لما كان الإدراك مجموعة من الأحكام العقلية ، فإن أخطاء الحواس يجب أن تخضع لتأويل العقل، فكثيرا ما تقدم لنا الحواس الأشياء على غير حقيقتها ، مثلا انكسار العصا المغموسة في الماء ليس حادثة فعلية حقيقية في عقولنا ، ولولا التأويل العقلي لاختلطت علينا الأشياء الطبيعية بالأشياء الاصطناعية المزيفة كالفواكه والشعر والأسنان، نفس الأمر  في بعض المظاهر الطبيعية كالرعد والبرق، إذ نعتقد استنادا على الحواس أن حادثة البرق يليها صوت الرعد لكن الأصل أنهما يحدثان في أن واحد، فقط أن سرعة الضوء تسبق  سرعة الصوت. يقول ديكارت :" وجدت الحواس تخدعني ومن يخدعني مرة لا أثق فيه أبدا" – ومن ذلك أشار  أن الطفل منذ الولادة يولد مؤهلا لكي يكون عاقلا لامتلاكه مبادئ العقل الفطرية (التعقل بالقوة ) , فمرحلة اللاتمايز حسبه هي مرحلة حسية حركية لعدم اكتمال النمو العقلي . 
2 - ليس الإدراك مجموعة من الإحساسات ، بل إنه نشاط عقلي تساهم فيه عمليات التذكر والتخيل والذكاء، إذ يدعونا ألان إلى تأمل عملية إدراكنا للمكعب، حيث نصدر هذا الحكم (أنه مكعب) على الرغم من أننا لا نرى سوى ثلاثة سطوح وستة أضلاع ، في حين أن للمكعب اثنا عشر ضلعا وستة سطوح. يقول ألان :"الشيء يدرك ولا يحس به". لقد جعل( ألان ) الإدراك معرفة لأنه ناتج عن حكم عقلي بينما الإحساسات الخالصة لا تحمل أية دلالة  و في ذلك يقول "  هذا الأفق البعيد لا أراه بعيدا بل احكم عليه بالبعد  " .
3 – أكد ( المفكر الألماني ليبنتز) انه لا يمكن أن تكون الأفكار الموجودة في الروح مأخوذة من الحواس , و إلا وجب أن تكون الروح مادة , و الروح ليست مادة .و هو ما أشار إليه كذلك ( ايمانويل كانط في كتابه مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة ) أي أن إدراك المكان و الزمان يتم  بصفة قبلية .فالإنسان يحمل فكرة مسبقة عن الواقع .
4 – يمكن إرجاع النظرية النقدية المتعالية الكانطية إلى محور الالتقاء مع العقلانية اليونانية . حيث أشار سقراط و أفلاطون أن الإحساس وحده لا يحقق معرفة مجردة .لان الشيء هو في حاجة إلى التجريد العقلي و إلا انحصر في دائرة التجربة الحسية , و قيمة الإحساس تكتمل في تنبيه العقل لان المعرفة  وجدت أولا في عالم المثل على حد تعبير أفلاطون يمتلكها الإنسان عن طريق الاسترجاع . فالمعرفة تذكر و التذكر لا  يتم إلا بالعقل كخاصية تعبر عن انفراده .
استنتاج جزئي: إذن إدراك العالم الخارجي ليس وليد الإحساسات ، بل هو حكم يصدره العقل .
نقد:
 لا ريب أن للعقل دور هام في عملية الإدراك لكن إهمال الإحساس والحواس فيه مبالغة إن لم نقل تطرفا فكريا ، فالمعطيات الحسية شرط هام في توليد المعرفة ، فكل إدراك يحمل في ثناياه بذور حسية.انطلاقا من أن الحواس هي أولى النوافذ المطلة على العالم الخارجي و التي يمر عبرها النور إلى تلك الغرفة المظلمة التي نسميها عقلا . و قد أكد (مالبرانش ) انه ليست الحواس من تخدعنا إنما إرادتنا بأحكامنا السريعة .
ب-نقيض الأطروحة:( الإدراك معطى حسي )
تؤكد المدرسة الحسية أن  معرفة العالم الخارجي تستند أساسا على الإحساس، بحكم أن الحواس هي أول نافذة يطل منها الإنسان على هذا العالم قصد فهمه.فلا و جود لشيء في الذهن ما لم يوجد في الحس و العقل في حاجة إلى ما تجود به التجربة و الخبرة من معارف .  
البرهنة:
1-الرواقيون قديما انزلوا العقل من القمة التي وضعوه فيها العقليون . حيث قال ( زينون الايلي ) أن العقل وعاء فارغ تملؤه جملة الإحساسات المنقولة عن العالم الخارجي  .فالمعرفة الحقة تنحصر في دائرة الحس والأشياء الحقيقية في الخارج هي التي تفرض نفسها علينا حتى يحصل اعتقادا جازما أنها حقيقية .و لا يمكن أن تكون الأفكار التي كوناها بأنفسنا واعتقدنا أنها فطرية هي مقياس المعرفة الحقة ,بل المقياس و المصدر الحقيقي هو الذي استقينا منه هذه الأفكار أي  التجربة الحسية هي معيار الصدق .

2 - يرى علماء النفس أن نفس الطفل لا تشتمل على أي نوع من المعارف المسبقة أو الفطرية، فهو يبدأ في تحصيلها بعديا شيئا فشيئا بواسطة خبرته الحسية. إذ يبدأ بتجربة اللذة والألم، إذ لديهما تأثير مباشر في تنمية شعوره باستقلال الجسم عن الأشياء الخارجية ، فالتغيرات التي يحدثها في جسمه تحدث له ألما، لكن التغيرات التي يحدثها في الأشياء الأخرى لا تحدث له نفس الإحساس ، لتليها تجربة الإحساس المضاعف التي تستند على حاسة اللمس إذ يحس الطفل بجسمه إحساسا مضاعفا عندما تلامس أطرافه بعضها، بينما يحس بالأشياء الأخرى التي يلامسها إحساسا واحد ، لينتقل بعد ذلك إلى تجربة الحضور والغياب، إذ يحس أن جسمه حاضرا معه دوما، بينما بقية أشياء العالم الخارجي قد تحضر وقد تغيب، فاللعبة قد تغيب ، الوالدين كذلك ، لكن جسمه حاضر معه دوما كما يحس الطفل بأن جسمه متميز عن الأشياء إذ يستطيع أن يمزق ، أن يكسر ، أن يحدث بجسمه تغيير في الأشياء الأخرى بينما جسمه يبقى سالما ، لذلك كثيرا ما يتلذذ الطفل بهذا الاكتشاف فيأخذ في تحطيم كل شيء ، كل هذه المعارف اكتسبها الطفل بفضل تجاربه الحسية .  وقد أكد الشيخ ابن سينا أن إدراك المعاني والتصورات في الذهن يتم بفضل الحواس ،  حيث يقول  (فاني إنما اعرف أن لي قلبا و دماغا -  بالإحساس و السماع والتجارب  )

3- أكد ( دافيد هيوم ) :انه  لا وجود لأفكار مجردة ، بل الموجود هو انطباعات حسية إذ يقول:"إن الألوان والأصوات والحرارة والبرودة كما تبدوا لحواسنا لا تختلف في طبيعة وجودها كما تكون عليه حركة الأجسام وصلابتها".و الدليل الوحيد أن الشيء موجود هو أننا نراه في الواقع .
4 – أشار( جون لوك ) أن الطفل يولد صفحة بيضاء وتلعب الحواس و التجارب دورا في امتلاكه المعرفة .  ومن ذلك فان الواقع يؤكد النقص المعرفي الذي يعانيه فاقد البصر أو السمع,  فليس بإمكان الأول أن يميز بين الألوان كما ليس بإمكان الثاني أن يفاضل بين الأصوات حتى ولو امتلكا ذكاء خارقا .وفي ذلك يقول( جون لوك )  "لو سالت إنسانا متى بدأ يعرف لأجابك متى بدأ يحس " . "ليس في العقل شيء جديد إلا و سبق وجوده في الحس أولا " .
استنتاج جزئي: إذن إدراك العالم الخارجي يستند على التجربة الحسية .
نقد: لا ننكر أن الحواس هي نافذة نطل من خلالها على العالم الخارجي ، لكن القول أن العقل لا يتصور صورة إلا إذا نقلتها له الحواس فيه مبالغة، إذ كيف نتصور تلك الحدود الكلية المجردة التي نجدها في العقل وليس لها مقابل في الواقع ( كمفهوم خلود الروح بعد فناء الجسد ) ولو كانت  الحواس أصل المعرفة لأمكن الحيوان أن يكون عالما نظرا لامتلاكه قدرات خارقة على مستوى الحس .بل لو احتفظنا فقط بالمعطيات الحسية لكانت اغلب معارفنا خاطئة .





-التركيب:
-        من خلال ما تقدم يتبين لنا انه لا يمكن النظر إلى الإدراك فقط من زاوية انه حكم يصدره العقل متجاهلا لمكانة التجربة الحسية . كما لا يمكن النظر من زاوية انه   معطى حسي يعد فيه العقل مجرد جهاز استقبال عرضي  بل الحقيقة انه تأويل عقلي لجملة الإحساسات المنقولة عن العالم الخارجي . كما يمكن أن تكون الذات بما فيها العقل و الحواس خاضعة للموضوع المدرك الذي يفرض وجوده بصفة مطلقة و هو ما أشار إليه رواد النظرية الجشطالتية او نظرية  الصورة في ألمانيا . فالإنسان من مجرد إحساسه بالشيء فانه يدركه مما ينفي دور الذاكرة في عملية الإدراك , فالموضوع المدرك يفرض نفسه على الذات المدركة انطلاقا من قوانين الانتظام في الشكل و الأرضية ,فالعالم ليس غامضا لدرجة انه يفهم فقط بالعقل ,بل النظام موجود في الموضوعات التي تنقلها الحواس فيكون كل إحساس إدراك , و إذا نظرنا إلى مجموعة من النقط فإننا ندرك بالتقارب أنها على استقامة واحدة , أما إذا قمنا بإزالة نقطة بعد كل نقطتين فإننا ندرك بالتشابه مجموعة من النقط مثنى مثنى , كذلك النقص الموجود في الطبيعة يجعل العقل قادرا على سد الثغرات , كما أن المواضيع البارزة في العالم الخارجي تجعل الفرد يدركها قبل غيرها (التوأم وسط الساحة –مئذنة المسجد في قرية صغيرة ) كما أن رؤية نقطة مضيئة صغيرة في الظلام إدراك و ليس فقط إحساس  لأننا نراها كشكل موضوعي خارجي له بعد معين و موجود على مسافة منا  حيث يقول (بول غيوم )-  بقدر ما يختلف لون الشيء الذي ندركه عن الأشياء المحيطة به يكون إدراكه أوضح و أتم -  فالشيء الأسود الموضوع على مساحة بيضاء  يدرك بسهولة بينما يصعب إدراكه لو وضع على مساحة سوداء.
 الخاتمة:(حل المشكلة)
ختام  القول يمكن التأكيد أن فهمنا لهذا العالم الذي نحيا في كنفه يتوقف على ذات مدركة وموضوع مدرك ، فإذا كانت الحواس نوافذ نطل من خلالها على هذا العالم ، فالعقل ضرورة ملحة لفهم ما عجزت عنه الحواس، كما قد يتدخل شعورنا أحيانا في عملية الإدراك فقد تبدو لنا الأشياء قمة في الجمال، لكن ما إن نمتلكها تتغير نظرتنا إليها وتبدوا لنا أنها لا شيء  ،  لذا فالإدراك نابع من الحواس ، العقل، الشعور والموضوع المدرك.أي هو تأويل عقلي لمعطيات حسية قد تفرض على الذات وتمنح الإنسان شعورا خاصا  يتيح فرصة التكيف مع العالم الخارجي الذي وجد جزءا منه.

تحميل مقالة برابط مباشر :
       لمزيد من مقالات اضغط هنا  اي استفسار ضعه في تعليق  الله ينجحك ولا تنسونا من دعائكم لنا


ليست هناك تعليقات