قيل" لا يمكن أن يكون الإنسان موضوعا حقيقيا للعلم "حلل و ناقش


/-المقدمة  إن النتائج المحققة إثر إخضاع المادة الجامدة و الحية لخطوات المنهج التجريبي كانت حافزا من أجل محاولة الكشف عن حقيقة الظاهرة الإنسانية. لكن طبيعة الموضوع فرضت جملة من العوائق و هذا ما أدى بالكثير من الدارسين إلى الاقتناع بأنه لا يمكن أن يكون الإنسان موضوعا للعلم . إلا أننا نجد البعض يسلمون بإمكانية تجاوز تلك العوائق التي تفرضها الظاهرة الإنسانية. لذا فهل من صواب بين الطرحين ؟ و هل يعد كل من  التاريخ ، علم النفس وعلم الاجتماع علما أم  يستحيل ذلك ؟ بل هل يمكن أن يكون الإنسان موضوعا للعلم أم  يتعذر ذلك ؟





II/-التوسيع :
 القضية : ( رغم أن الإنسان هو من وضع العلم إلا أنه لا يمكن أن يكون موضوعا له )
شرح و تحليل : إن طبيعة الظاهرة الإنسانية فرضت جملة من العوائق على مستوى الدراسات التجريبية هذا ما رسخ اعتقادا بأنه من غير الممكن أن يكون الإنسان موضوعا للعلم .
 البرهنة: –  عوائق تطبيق المنهج التجريبي على مستوى الظاهرة التاريخية :
إن التاريخ لا يعيد نفسه : إذا كان من الممكن تحقيق الحتمية على مستوى الظاهرة الفيزيائية فإن ذلك مستحيل على مستوى دراسة الحادثة التاريخية ، قد تتوفر نفس الأسباب و نفس الظروف لكن لا  يتكرر حدوث الظاهرة التاريخية . الحادثة التاريخية جرت في زمن مضى و انقضى بينما العلم يتعامل مع ما هو ماثل أمامنا ، أي التاريخ لا يلاحظ ومن ذلك تتعذر على الدارس تطبيق بقية خطوات المنهج التجريبي . الظاهرة التاريخية و صفية ( غير قابلة للتقدير الكمي ) بينما العلم يتعامل مع الظواهر القابلة للقياس .الموضوعية هي أهم خاصية من خصائص العلم لكن لا يمكن أن تتوفر عند المؤرخ لأنه مرغم على التعامل مع الماضي كما يريد  (الذاتية).
لذا أشار شوبنهاور  " التاريخ ليس علما لأنه لا يتعلق إلا بالظواهر الخاصة و الحوادث الفريدة " كما أشار فولتير انه كان من الضروري أن يكتب الفلاسفة التاريخ لأنه فن و ليس علما .
 2–  عوائق تطبيق المنهج التجريبي على مستوى الظاهرة الاجتماعية  :
إن الظاهرة الاجتماعية تنفرد بتداخل ما هو نفسي ، ما هو تاريخي و ما هو اجتماعي ، إذ يجد الدارس لها نفسه مرغما على فك التداخل أولا ثم الدراسة ، لكن يستحيل ذلك و هذا يعني إستحالة الدراسة . في هذا السياق قال جون ستوارت مل( إن الظواهر المعقدة والنتائج التي ترجع إلى علل وأسباب متداخلة ومركبة لا تصلح أن تكون موضوعا حقيقيا للاستقراء العلمي المبني على الملاحظة والتجربة ). المجتمع يتكون من أفراد و كل فرد يمتلك مبادئ خاصة و هذا يمنع من تطبيق المنهج الاستقرائي الذي يفرض الانتقال من الجزء إلى الكل ( التعميم )



قد نوفر نفس الأسباب و الظروف  التي أدت إلى حدوث ظاهرة اجتماعية لكن قد نتحصل على نتائج مخالفة تماما للتوقع ( الظاهرة الاجتماعية لا تخضع للحتمية )
3 –  عوائق تطبيق المنهج التجريبي على مستوى الظاهرة النفسية :
الحادثة النفسية معنوية بينما العلم يتعامل مع المادة هذا ما يجعلها غير قابلة للملاحظة و بذلك يتعذر تطبيق بقية خطوات المنهج التجريبي. الحادثة النفسية تتميز بالديمومة و عدم الثبات بينما المتغير لا يمكن أن ينحصر في مكان حتى يكون قابلا بالتجريب. إن اللغة هي الوسيلة المعتمدة أثناء دراسة الحياة النفسية لكن قد تكون مصدر خداع لأن المستنطق لا يصرح بكل الأفكار .
قال ريبو " النفس لا تعرف نفسها "و الحياة النفسية تنقسم إلى جانب شعوري و أخر لا شعوري . إذا كان الفرد يجهل بعض الأفعال الصادرة عنه فإنه من المستحيل أن يفهمها المجرب.
الظاهرة النفسية ليست مستقلة بذاتها بل  قد ترتبط مع الجانب الفيزيولوجي. هذا ما يثبت طرح جون بول سارتر القائل " الانسان هو ذلك الكائن المجهول ، يكون معلوما يوم يكون معدوما "
استنتاج جزئي:إذن  لا يمكن أن يكون الإنسان موضوعا حقيقيا للعلم .

نقد:لا ننكر الخصائص المعقدة التي تتميز بها الظواهر الإنسانية لكن لا يمكن  الجزم باستحالة إخضاعها لخطوات المنهج التجريبي . لا يمكن إنكار قيمة التاريخ علم النفس وعلم الاجتماع.


نقيض الأطروحة :  ( ما دام الإنسان هو من وضع العلم فيمكن أن يكون موضوعا له)
شرح وتحليل : من الممكن أن يكون الإنسان  موضوعا للعلم . أي يمكن دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية. يمكن أن يرقى التاريخ ،علم النفس و علم الاجتماع إلى مرتبة العلم .
البرهنة : تجاوز العوائق التي تفرضها الحادثة التاريخية : حاول بن خلدون تطبيق  خطوات المنهج التجريبي على مستوى الحادثة التاريخية و اعتمد من اجل ذلك: 1- جمع المصادر  وهي نوعان: مصادر لا إرادية ، و مصادر إٍرادية ( البحث عن الموضوعية ) 2- تحليل الوثيقة التاريخية: التأكد من مدى مطابق المصادر للواقع أي إخضاعها للنقد الخارجي (الشكل ) و النقد الباطني ( المضمون ) أي محاولة  تطبيق الملاحظة العلمية عن طريق قياس الماضي بالحاضر والشاهد بالغائب . ( منهج المقارنة )  3- محاولة  التركيب:  فيصنف الأحداث التاريخية ويرتبها حسب الإطار الزمني و المكاني، مراعيا ربط الظاهرة بأسبابها من اجل إصدار الحكم . من خلال هذا المنهج اخضع بن خلدون الحادثة التاريخية لفكرة الحتمية و اثبت أن التاريخ يعيد نفسه . 
يمكن تحقيق الموضوعية في التاريخ بالكيفية التي تخدم الظاهرة – قال بول ريكور " نحن ننتظر من المؤرخ نوعا من الذاتية . لكن الذاتية التي تتفق مع الموضوعية التي تلائم التاريخ "
 تجاوز العوائق التي تفرضها الحادثة الاجتماعية : أكد إيميل دوركايم أنه يمكن التعامل مع الظاهرة الإجتماعية  وفق موضوعية خاصة .( قواعد المنهج في علم الاجتماع ) أي ينبغي التعامل معها على أنها أشياء . ينبغي أن يتعامل عالم الاجتماع مع الظاهرة كما هي في الواقع )
ينبغي تحديد الظاهرة التي يمكن التعامل معها . ثم ملاحظتها مستقلة عن مظاهرها عن طريق الانتقال من البسيط إلى المركب .  أكد أوغست كونت ( مؤسس علم الاجتماع ) أن الطفل يولد صفحة بيضاء و يكتب عليه المجتمع ما يشاء و من ذلك يمكن دراسة المجتمع من خلال دراسة عينات ثم يتم اعتماد التعميم ( المنهج الاستقرائي).
تجاوز العوائق التي تفرضها الحادثة النفسية : حاولت المدرسة السلوكية دراسة الحياة النفسية دراسة موضوعية , حيث أشار واطسون انه يمكن ملاحظة النفس انطلاقا من الآثار التي تتجلى في السلوك ( استجابات آلية ) فيكفي تحديد شدة المثير من أجل معرفة طريقة الاستجابة . قال واطسون " أعطوني خمسة أطفال  اصنع منهم ما أريد ، الطبيب المجرم الفيلسوف ... " و أكد أن الانفعال يعود إلى ثلاث مثيرات ( الغضب ناتج عن ضيق الأفق ) ( الحب ناتج عن المداعبة ) ( الخوف ناتج عن أصوات خارجية )  اعتمدت هذه المدرسة على تجارب العالم الروسي بافلوف ( المنعكس الشرطي )  و قد تم اعتماد جملة من القوانين العلمية في علم النفس ( النسيان =  لوغاريتم الزمن ) ( الإحساس = لوغاريتم الحجم ) هذا يعني أن المدرسة السلوكية طرحت إمكانية التنبؤ على مستوى الحادثة النفسية ( الحتمية ) .
 النقد : لكن النتائج المتوصل إليها في علم النفس والتاريخ و علم الاجتماع ليست دقيقة،فرغم المجهودات التي بذلها علماء النفس إلا أن القوانين المتوصل إليها ليست دقيقة كما أن الحادثة النفسية ليست مجرد علاقة آلية تجمع بين المنبه والاستجابة على حد تعبير واطسن ، التاريخ لا يعيد نفسه و حتى إن كان ذلك فإنه ليس بنفس الكيفية ، كما أن المجتمع لا يضم أشياء كما اعتقد ايميل دوركايم بل  يضم أفرادا و لهم خصوصيات .



التركيب : لا يمكن اعتبار الظاهرة الإنسانية ظاهرة مجهولة غير قابلة للدراسة العلمية ، كما أنها ليست مجرد ظاهرة فيزيائية تخضع لخطوات المنهج التجريبي خضوعا تاما . بل هي تحمل خصوصياتها تمكن العلماء من الكشف عن بعضها و بقي الجزء الآخر مجهول إلى حين .


الخاتمة : يمكن دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية تجريبية والواقع العلمي المعاصر خير شاهد على ذلك في مجال علم النفس والتاريخ والاجتماع، لكن حتى نتوخى الموضوعية ينبغي القول انه تبقى العلوم الإنسانية نسبية على مستوى النتائج إذا ما قورنت بالعلوم الفيزيائية والبيولوجية .

 تحميل مقالة برابط مباشر :




       لمزيد من مقالات اضغط هنا  اي استفسار ضعه في تعليق  الله ينجحك ولا تنسونا من دعائكم لنا

ليست هناك تعليقات