تحليلُ نموذجٍ من شعر "تجديد الرّؤيا" لبدر شاكر السّياب

متنُ القصيدةِ: رحل النّهار
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهّج دون نار
و جلست تنتظرين عودة سندباد من السّفار
و البحر يصرخ من ورائك بالعواصف و الرعود
هو لن يعود
أو ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار
في قلعة سوداء في جزر من الدم و المحار
هو لن يعود
رحل النهار
فلترحلي هو لن يعود
الأفق غابات من السحب الثقيلة و الرعود
الموت من أثمارهنّ و بعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهنّ وبعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهار
رحل النهار
رحل النهار
و كأنّ معصمك اليسار
و كأنّ ساعدك اليسار وراء ساعته فنار
في شاطئ للموت يحلم بالسفين على انتظار
رحل النهار
هيهات أن يقف الزمان تمر حتى باللحود
خطى الزمان و بالحجار
رحل النهار و لن يعود
الأفق غابات من السحب الثقيلة و الرعود
الموت من أثمارهنّ و بعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهنّ و بعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهنّ و بعض أرمدة النهال
رحل النهار
رحل النهار
خصلات شعرك لم يصنها سندباد من الدمار
شربت أجاج الماء حتى شاب أشقرها و غار
و رسائل الحب الكثار
مبتلة بالماء منطمس بها ألق الوعود
و جلست تنتظرين هائمة الخواطر في دوار
سيعود لا غرق السفين من المحيط إلى القرار
سيعود لا حجزته صارخة العواصف في إسار
يا سندباد أما تعود ؟
كاد الشباب يزول تنطفئ الزنابق في الخدود
فمتى تعود
رحل النهار
و البحر متسع و خاو لا غناء سوى الهدير
وما يبين سوى شراع رنحته العاصفات و ما يطير
إلا فؤادك فوق سطح الماء يخفق في انتظار
رحل النهار
فلترحلي رحل النهار
تحليلُ القصيدةِ:
لم يقف تطوُّر الشِّعر العربيِّ عند ما قام به شعراء تكسير البنية بل واصل حركيَّته الدّؤوب ليُثمرَ ما سُمِّي بشعر الرُّؤيا، الذي أعاد تشكيل الواقع عبر الرَّمز والأسطورة، وقام بتفجير اللغة وتثْويرها لتعبّر عن واقع جديد، وعمل شعراؤه على التَّطلُّعِ إلى عالمٍ ممكنٍ واستشراف المستقبل المَحلوم به. وما يميِّز شعر الرُّؤيا عن غيرهِ – حسبَ منظّريه- أنَّه يعبِّر عن واقع غير مألوفٍ بلغة غير مألوفة تقومُ على الهدْمِ والانتِهاكِ والغموضِ، وقد برَعَ شعراء كثر في هذه المدرسة الشِّعرية نذكر منهم : عبد الوهّاب البيَّاتي، وأدونيس ، ويوسف الخال، وأمل دُنقل، وبدر شاكر السياب الذي يعد من روَّاد قصيدة الرُّؤيا، يعبر شعره عن تجربة إنسانيَّة ترمز إلى الحياة البشرية، مرَّت حياته الفنيَّة بأربع مراحلَ هي: المرحلة الرُّومانسيَّة، والمرحلة الواقعيَّة، والمرحلة القوميَّة، والمرحلة الوجوديَّة، خلَّف خلالها جملة من الدواوين أشْهرُها " أنْشُودة المطر ". فما الرؤيا التي يقدّمها الشَّاعر ؟ وما الأساطير التي وظَّفها ؟ وإلى أيِّ حدٍّ مثَّل الشَّاعر قصيدة الرؤيا ؟
انطلاقا من العنوان (رحل النّهار) الذي جاء اسمية ودلالته المفيدة للنهاية والرّحيل، واعتمادا على شكل القصيدة الطّباعي القائم على نظام السطر الشعرية المتفاوتة، واتكاء على بعض المشيرات النصيّ الدّالة" جلست تنتظرين عودة سندباد، الأفق غابات من السحب، فلترحلي، هو لن يعود، أسرته آلهة البحار..." نفترض أن القصيدة قيد الدراسة تنضوي تحت خطاب تجديد الرّؤيا، ويعبّر من خلالها الشاعر عن رؤياه النهائية للوجود والحياة وينقل تجربته المريرة مع المرض العضال. فما الأساليب الفنية الموظّفة وما الرهان الذي راهن عليه؟
يعبّر الشاعر في قصيدته عن معاناته المريرة مع المرض، ويقينه التام بدنو الرحيل، وبدأها بجملة سردية صادمة تؤكد دنو أجله واقتراب غروب شمس حياته، موجّها خطابه إلى زوجته التي تتنظر شفاءه طالبا منها وراجيا إياها عدم الانتظار، لأنه لا شيء في الأفق المسْوَدّ المدلهمّ يوحي بعودة الأمل في الشفاء، لذلك فهو يحضُّها على الرحيل لأنه صار متيقنا من رحيله الذي لا عودة بعده، ويستعير للتعبير عن تجربته هاته قصّة السندباد وتَسفاره الدّائم، وأسطورة أوليس الذي طال غيابه زمنا طويلا وزوجته بنيلوب تنتظره، لكن الاختلاف هو أن السندباد وأوليس يعودان، فيما السياب لا يعود.
←عبر الشاعر عن تجربته الذاتية مع المرض بطريقة فيها جدّة وتميّز، سواء من حيث رؤياه للموت والنهاية أو طريقة توظيف الأسطورة للتعبير عن معاناته.
كان الشاعر دقيقا في اختيار المعجم الذي يعبر عن تجربته مع المرض، حيث وظف حقلين دلاليين هما على التوالي: الحقل الدال على معاناة الشاعر، وينضوي تحته" رحل، لن يعود، أسرته آلهة البحار، عودة سندباد، انطفأت ذبالته، الدم والمحار.."، والحقل الدال على الطبيعة " رحل النهار، البحر يصرخ، العواصف والرعود، غابات من السحب الثقيلة والرعود، البحر متسع، العاصفات"، والملاحظ أن حقل المعاناة كان له قصب السبق، لأن رحى القصيدة تدور حول نقل التجربة النفسية مع المرض، والعلاقة بين الحقلين قائمة على السّببية؛ فمعاناة الشاعر الدّاخلية هي التي جعلتهر لا يرى في الطبيعة إلا عالمها الأسود الباعث على التشاؤم.
←وظف صاحب النص لغة تتسم بقدر من الجزالة ونوع من الفخامة، وهي سمة ميّزت السيّاب عن شعراء الحداثة، كما اتسمت بعمق الدلالات الإيحائية والبعد الرّمزي.
وإيقاعيا بنى الشاعر قصيدته متكئا على نظام الأسطر الشعرية المتفاوتة، الخاضعة في طولها وقصرها للدَّفقة الشعورية والنسق الفكري والشّعوري، ناظما إياها على تفعيلة الكامل"متفاعلن" التي منحته متسعا ومساحة للتعبير عن معاناته ورؤياه، أما القافية فجاءت من الناحية الصوتية الداخلية موحدة(هارْ: _00)، متراوحة(تتراوح بين الراء والدّال)، فيما الروي تنوع بين الراء والدال الساكنين العاكسين للمعاناة الداخلية، والانقباض الذي يمنع الشاعر من الانطلاق والتعبير الطليق الحر.
وبالنسبة للإيقاع الدّاخلي وظف الشاعر التوازي في قوله: 
الموت\ من\ أثمارهنّ
الموتُ \ من \ أمطارهنّ
الخوف\ من\ ألوانهنّ
وهو توازٍ نحويّ، عموديّ، صرفيّ، عروضيّ، تامّ أنقذ القصيدة من جو الرتابة والحزن، ودبَّ في أوصالها حماسةً وحركية بديعةَ.
وبالنسبة للتكرار، فقد جاء غنيّا يتسم بالتنوع؛ سواء منه تكرار الصوامت( الراء، اللام، الدّال) أو الصوائت(السكون، واو المد، ألف المدّ) وهي أصوات تعكس حالة الشاعر النفسية، دون أن ننسى تكرار اللازمة (فلترحلي هو لن يعود) وهي ذاتُ دلالة في هذا المقام، حيث تفيد اليقين التّام بدنوّ ساعة الرحيل، وإلى جانب اللازمة كرّر الشاعر مقطعا بأكمله (الموت من أثمارهن...) ، مبرزا من خلاله ما يعتمل بداخله من خوف وفقدان للأمل في شروق شمس الأمل، وهكذا أعطى التكرار ومعه التوازي للقصيدة تنوّعا إيقاعيا قائما على تعدد الأصوات وحيوية النّغم.
←جدّد الشاعر في إيقاع قصيدته ثائرا على نظام البيت المنتهي بقافية مطّردة ورويّ موحدّ، لكنه ظلّ وفيا للتفعيلة وظاهرتي التوازي والتَّكرار.
ويزخر النص بالصور الشعرية التي أضفت عليه بهاءً ورونقا، وسبحت به في بحار الجمال الفنيّ، من ذلك توظيفه للانزياح في قوله:" رحل النهار" إذ أسند للنهار فعل الرحيل الذي يتطلب حركةً وانتقالا من مكان إلى مكان، مما خلق تنافرا وفجوة دلالية بين المسند(رحل) والمسند إليه(النهار)، ويعبّر هذا الانزياح عن قرب النهاية ودنو الأجل، ونلفي تشبيها في قوله" الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود"، فالمشبه هو "الأفق" والمشبه به هو "غابات من السّحب الثقيلة والرّعود"، بجامعِ السواد والظلمة الدّامسة، وهو تشبيه بليغٌ يفيد فقدان الأمل في شروق شمس الأمل، وهكذا عبّرت هذه الصور وغيرها عن معاناة الشاعر، وعكست ما يعيشه داخليا من خوف ويقين في نفس الوقت.كم أعطت للنص جمالية مرتقيةً به في سلّم الشعرية وآفاق الأدبية.
إضافة إلى هذه الصور المعروفة راهن الشاعر على توظيف بعض الأساطير من أجل التعبير عن رؤياه ومعاناته بطريقة فيها جدّة واختلاف، وهكذا وظّف أسطورة السندباد وأسطورة "أوليس وبنيلوب"، فعلى الرغم من أنّ السندباد وأوليس يسافران ، الأول للتجارة والثاني للحرب، فإنهما يعودان، أما الشاعر فسفره كان من أجل العلاج الذي لن يعود من منه، وعليه استطاع الشاعر ببراعته المعروفة تطويع الأسطورتين للتعبير عن تجربته، إذ غيّر في جزئية "العودة" واستطاع بنجاح أن يوظّف الأسطورة لخدمة موضوعه.
←جدّد شاعرنا على مستوى الصورة الشعرية من حيث تعبيرُها عن تجربته النّفسية، وكذا من حيث تعبيرُه بالأسطورة التي أحسن تطويعها لتكونَ فاعلةً في نقل تجربته الشعورية مع المرض.
وإذا عرّجنا ناحية الأسلوب، وجدنا هيمنة مطلقةً للأسلوب الخبريّ على أرجاء النص، حيث رجحت كفّته على الأسلوب الإنشائي، وذلك عائد إلى الغاية التي يقصد إليها الشاعر وهي التعبير عن معاناته مع المرض، لكننا لا نعدم بروزا للأسلوب الإنشائي بين الفينة والأخرى ، كما في قوله" فلترحلي" ، وهو أمر مفيد للالتماس والتوسّل ، ويأتي هذا الأمر دائما في نهاية كل مقطع مما يعني أنّ انفعال الشاعر يصل إلى مداه، كما نلفي نداء واستفهاما في قوله:" يا سندباد، أما تعود؟ وهما يفيدان معا طول الانتظار والأمل في العودة. وتغلب على القصيدة الجمل الاسمية وهو ما يبرّر السكون الذي ميّزها.
عبر الشاعر في قصيدته عن معاناته مع المرض، معبّرا عن رؤياه للنهاية، مستعيرا أسطورة السندباد وأوليس، قاصدا إلى نقل رحلته الطويلة مع المرض ورضاه بقدره المحتوم، وقد وظّف لغة شعرية طافحة بالدلالات الفنية، وصورا شعرية متنوعة جعلت القصيدة تتفيّأ في ظلال الجمال، وإيقاعا يطبعه التنوع، ونصل نهايةً إلى إثبات صحّة الفرضية وانتماء النص إلى خطاب تجديد الرؤيا، وختاما نقرّ بقدرة الشاعر البارعة على نقل تجربته والتعبير عنها، متّبعا طريقة جديدة غير مألوفة، قائمة أساسا على توظيف الأسطور.
مثلت القصيدة تيار تحديد الرؤيا، شكلا ومضمونا، فمن ناحية المضمون استقى الشاعر موضوعه من الواقع، ومن ناحية الشكل اعتمد شكلا ايقاعيا جديدا، واستعان بالرمز والاسطورة خيارا فنيا..

ليست هناك تعليقات