الحتمية واللاحتمية

مقدّمة
احتار العقل البشريّ، منذ تفتّحه على الوجود، بهذا العالم ونظامه، وحاول كشف أسرار هذا الكون، ومعرفة آلية هذا النظام، بكلّ ما أوتي من إرادة وقدرة على الملاحظة والتفكير والاستدراك. وتوسّل في سبيل ذلك الأسطورة، ثمّ الأديان، ثمّ الفلسفة، حتّى انتهى إلى العلوم.
وقد لاحظ خلال هذه المسيرة أنّ للظواهر أسبابها، فاعترف بوجود السببيّة، التي تقول بأنّ لكلّ حادث سببًا. ومع بروز العلم الوضعي حلّ مبدأ الحتمية محلّ مبدأ السببيّة. ولكن إلى جانب هذه الحتميّة التي قيّدت حياة الإنسان، برزت فكرة لاحتميّة تحرّره من هذه الفكرة.
فما الحتميّة؟ وما اللاحتمية؟
1- الحتميّة:
يتّفق علماء المعرفة، على أنّ الحتمية هي مجموع الشروط الضروريّة لحدوث ظاهرة معيّنة.
أمّا القناعات التي تدعم فكرة الحتميّة فهي:
1- الطبيعة واحدة.
2- يمكن معرفة الطبيعة وتحويل هذه المعرفة إلى نتائج.
3- تخضع الطبيعة لنظام ثابت وتعمل وفق قوانين ثابتة وأهمها قانون السببية.
4- ما يصدق في حالة معيّنة، وبشروط محدّدة، يصدق في كلّ الحالات، إذا توافرت الشروط نفسها.
وهكذا نجد أنّ هناك علاقات ثابتة وضرورية في الطبيعة توجب أن تكون كلّ ظاهرة مشروطة بما يتقدّمها من ظواهر أخرى. يرى كلود برنار "أنّ مبدأ الحتمية ضروري لعلم البيولوجيا كما هو ضروري لعلمي الفيزياء والكيمياء". ويرى أيضًا أنّ النقد التجريبي يضع كلّ شيء موضع الشكّ إلاّ الحتميّة العلميّة؛ نفهم من خلال ما تقدّم أنّ الأخذ بمبدأ الحتميّة هو نقطة الانطلاق لكلّ العلوم. فإذا انعدمت الأسباب والضرورة، أصبح قيام العلم مستحيلاً . ويؤكّد لابلاس أنّ جميع الحوادث، حتى تلك التي تبدو، لصغرها مستعصية على القوانين العامة، هي نتيجة ضرورية لهذه القوانين، غير أنّ جهلنا للروابط التي تشدّها للنظام الكوني العام، جعلنا نرجعها إلى الصدفة.
2- الحتميّة والجبرية:
الفرق بين الحتمية والجبرية هو الفرق بين العلم والماورائيات. فالجبرية ترى أنّ ما يحكم الكون والوجود هو ضرورة متعالية، مرتبطة بمبدأ خارج الوجود يسودها كما يشاء. أمّا في نظر الحتميين فإنّ هذه الضرورة كامنة في الأشياء، وهي في الطبيعة، وليس خارج الطبيعة.
الحتميّة في العلوم:
مع الاكتشافات الحديثة وصعود العلوم الوضعيّة، برزت الحتميّة كنظريّة صادقة تنطبق على هذا الواقع العلمي. فإذا بالظواهر العلمية التي كانت متفرّقة، غير مفهومة، وأقرب إلى الألغاز، تتحوّل إلى قوانين تستخدم في حقول العمل . وهكذا ظهرت قوانين الفيزياء والكهرباء، وحركات الكواكب وتطوّر أنواع البشرية. استنادا إلى النجاح الذي تحقق في تطبيق المنهج التجريبي على علوم الطبيعة، اقترح أوغست كونت علم الاجتماع الوضعي الذي تقوده حتميّة اجتماعية، وينتهي إلى نتائج وتوقعات مستقبلية. وطبق فرويد في نظرية اللاوعي والتحليل النفسي المبدأ الحتمي على آليات اللاوعي. كما طبّق ماركس مبدأ الحتمية على الحقل التاريخي والاقتصادي والاجتماعي. واقترح توقعات علمية تحرّك التاريخ.
2- من الحتميّة إلى اللاحتميّة:
تعدّ الفيزياء التقليدية مبدأ الحتمية حقيقة مطلقة خاصة في المجال الماكروسكوبي (هو العلم المختص بدراسة الأجسام الكبيرة والبعيدة مثل حركة الأجرام السماوية). لكنّ الانتقال الفيزيائي إلى المجال الميكروسكوبي = (عالم الذرات والإلكترونيات) مع بداية القرن العشرين، أفضى إلى الشك في مبدأ الحتمية . ويبدو أن مبدأ اللاحتمية قد وجد سندًا له في الفيزياء الحديثة لدى بعض العلماء من مثل “هيزنبرغ” الذي رأى أن قوانين الميكانيك الكلاسيكية المطبّقة على العالم الأكبر (عالم المركبات) لا تنطبق على العالم الأصغر (عالم اللامتناهيات في الصغر). وهذا ما أكّده “هايزنبرغ” عندما استحال عليه التحقق على وجه الدقة من وضع الجسيم وسرعته في آن واحد. وفي هذا مخالفة تامة لما كانت تفترضه الفيزياء التقليدية. وكان راسل قد أشار إلى عدم وجود مبرّرات كافية لاعتبار الحالات التي لم نعرفها بعد، أو تلك التي ستحدث في المستقبل مشابهة حتمًا لحالات وقعت في الماضي. وجعل ذلك من باب الاحتمال، معتبرًا أنّه ليس من الحتمية في شيء. وتزايدت هذه الشكوك وتسللّت إلى حقول كثيرة، مؤكدة أنّ للحظّ وللصدفة والمخيّلة دورًا في معظم الاكتشافات العلمية. وهذا بيتر مدوّر اللبنانيّ الحائز على جائزة نوبل للطبّ، يقول: "المنهج العلمي هو مزيج من الجدل الدائم بين الحقيقة والخيال، بين ما هو واقعي وما هو محتمل" .
5- ما هي اللاحتميّة؟
لا بد من أن نلاحظ أوّلاً أنّ اللاحتمية هي صيغة سلبية بتركيبها اللّفظيّ، ومن ثمّ لا يمكن تحديدها إلاّ من خلال صيغة النفي، أعني لا يمكن فهمها، ولا معنى لها، إلاّ باعتبارها نقيضًا للحتمية. فاللاحتمية، وعلى النقيض من ذلك، لا ترى ما يوجب افتراض أنّ الأحداث في الكون، وليس كلّها على الأقلّ، خاضعة بالضرورة لسببيّة صارمة، أو للتكرار. لذلك كان من الأصوب أن نشير إلى ما ترفضه اللاحتميّة:
1- ترفض اللاحتمية التسليم العلمي القائل بأنّ ما لم يُعثر على أسبابه كاملة، فهو ليس علميًا.
2- ترفض تعريف المعرفة العلمية بأنّها معرفة الأسباب.
3- ترفض اعتبار الكون آلة ضخمة تحكمها سلسلة من الأسباب الدقيقة المحدّدة سلفًا.
4- ترفض المنهج الاستقرائي القائل: إنّ مجرّد العثور على عدد كافٍ من المعطيات والأجزاء كافٍ لإقامة القوانين العلمية العامةـ التي تسمح برسم صورة المستقبل والتنبؤ باتجاهاته.
6- مناقشة عامة: (خاتمة)
لا جدال في أنّ العلم الدقيق لا يُبنى على مقومات عشوائية أو موضوعية. فلا بدّ من أسس ومبادئ لها طابع الشمول، وإلاّ بات قيام العلم أمرًا متعذّرًا. وإذا كانت الطبيعة خلوًا من كلّ قانون، وفي وسع هذه الطاولة أن تكون بعد لحظة غرفة أو شجرة، فلا معنى ولا وجود لمعرفة ولا لفعل وهوية ثابتين. فيجب ألاّ ننفي السببيّة، وليس في وسعنا ذلك، وإلاّ وقعنا في العبثيّة والتشكيك العشوائي.
لكنّنا نتوجّه بنقدنا نحو المبالغة في تطبيق مبدأ الحتميّة على كلّ شيء، وخصوصًا خارج حقل العلوم الطبيعيّة. فالظواهر الإنسانيّة لا يمكن أن تتحوّل إلى مجرّد أرقام ومعادلات صارمة. كما نشير إلى المبالغة في جعل الارتباط السببي، المنطبق على حالة محدّدة، صالحًا لكلّ حالة. وفي كلّ زمان ومكان. أليس ذلك وقوعًا في الجبريّة؟ وهكذا نجد أنّ التمسّك بالحتمية يحوّلها إلى جبرية عقائدية تنفي وجود الحريّة والخلق؛كما أنّ التمادي بالاعتراف باللاحتمية يحيل المعرفة، إذا بقيت هناك معرفة، على مشهد عشوائي لا يعرف نظامًا، أو أساسًا يستند إليه، ليس في العلم فقط بل في العمل أيضًا.
نستنتج ألاّ وجود للعالم إلاّ من خلال إدراك الإنسان له. فهو لم يعد موجودًا ماديًا بحتًا بل موجودًا عقليًا، يبنيه الذهن انطلاقًا من مسلّمات عقليّة في الرياضيات، أو فرضيات يقترحها العقل أيضًا في المنهج التجريبي. وإذا كان العقل قادرًا على وضع أنظمة متنوّعة، نستطيع القول بعدم وجود نظام واحد في العالم، بل أنظمة متعدّدة تبعًا للأطر العقليّة التي نصبّه بها. فالماء يأخذ شكل الإناء الذي يُصبّ فيه.

ليست هناك تعليقات