العولمة وتطورات العالم المعاصر
مجتمع المعرفة :
يعتبر مصطلح " مجتمع المعرفة " من المصطلحات الجديدة، التي ظهرت في غضون التحولات العلمية والفكرية والتكنولوجية والسياسية، التي بدأ يشهدها راهن الإنسانية انطلاقا من العشرية الأخيرة من القرن المنصرم، كمصطلحات العولمة والسوق الحرة والنظام العالمي الجديد والثورة الرقمية وحوار أو صدام الثقافات وغيرها، وعلى مستوى المفهوم يتخذ هذا المصطلح اتجاهين: أولهما عادي، يطلق على جماعة من الناس تجمع بينهم اهتمامات فكرية أو أدبية أو علمية أو سياسية موحدة، فيتكتلون في مجتمعات معرفية مصغرة، يجمعون فيها ما توصلوا إليه من معارف ومعلومات وإنجازات وغير ذلك. أما ثانيهما، فهو أوسع وأعمق، حيث يشكل محورا أساسيا لدى العديد من الأطروحات السياسية والدراسات المستقبلية المتخصصة.
ومن جهة أخرى، يشهد العالم مرحلة إعادة اعتبار للثقافة من زاوية استراتيجيات المستقبل، خاصة وأنّ التطورات الجارية تبشّر بمستقبل جديد على مستوى الإنجاز المادي والتقدم التكنولوجي، ومراكز البث الإلكتروني، وبرامج التنفيذ في مجالات الإدارة والعمل الوظيفي. فلقد أصبح مصطلح ثورة المعلومات ومجتمع المعرفة ومجتمع الحاسوب ومجتمع ما بعد الصناعة ومجتمع ما بعد الحداثة، ومجتمع اقتصاد المعرفة والمجتمع الرقمي وغيرها من المصطلحات، المميز الرئيسي لحقبة تاريخية هامة من تاريخ البشرية.
إنّ مجتمع المعرفة هو ذلك المجتمع الذي يحسن استعمال المعرفة في تسيير أموره وفي اتخاذ القرارات السليمة والرشيدة، وكذلك هو ذلك المجتمع الذي ينتج المعلومة لمعرفة خلفيات وأبعاد الأمور بمختلف أنواعها. وقد أفضت الثورة المعرفية إلى مجتمع المعرفة الذي أصبح يعتمد – أساسا – على المعارف كثروة أساسية، أي على خبرة الموارد البشرية وكفائتها ومعارفها ومهاراتها كأساس للتنمية الإنسانية الشاملة.
إنّ مجتمع المعرفة، بوضعه المعرفة في قلب المعادلات على اختلاف أنواعها " يشكل فرصة تاريخية نادرة ونقلة نوعية فريدة تجعل من المعرفة أساس السلطان والكسب والجاه "، كما أنّ مجتمع المعرفة " يضع الإنسان كفاعل أساسي، إذ هو معين الإبداع الفكري والمعرفي والمادي، كما أنه الغاية المرجوة من التنمية البشرية كعضو فاعل يؤثر ويتأثر ويبدع لنفسه ولغيره " من خلال شبكات التبادل والتخاطب والتفاعل. وهكذا يتبين أنّ المعادلة الاقتصادية الجديدة " لا تعتمد أساسا على وفرة الموارد الطبيعية ولا على وفرة الموارد المالية، بل على المعرفة والكفاءات والمهارات، أي على العلم والابتكار والتجديد ".
خصائص مجتمع المعرفة
يعيش العالم انفجارا معرفيا غير مسبوق، بحيث يندر أن يمر يوم دون أن تحمل لنا المجلات المتخصصة أنباء عن اكتشافات واختراعات جديدة. ففي مجال الإلكترونيات، على سبيل المثال، تتوالى المكتشفات، بحيث أصبح التراكم المعرفي يتزايد بمتوالية هندسية ويتضاعف كل 18 شهرا. وتشير المعطيات إلى أنّ البشرية قد راكمت، في العقدين الأخيرين، من المعارف مقدار ما راكمته طوال آلاف السنين السابقة التي شكّلت التاريخ الحضاري للإنسانية.
وغالبا ما تكون التكنولوجيا الأحدث أحسن أداء وأرخص سعرا وأصغر حجما وأخف وزنا وأكثر تقدما وتعقيدا من سابقتها، كما أنّ المعرفة والمعلومات اللازمة لإنتاجها أكثر كثافة وتتطلب ارتفاعا متزايدا للقدرات البشرية من علماء ومطورين وتقنيين. كما أصبح التنافس في الوقت والعمل في الزمن الحقيقي في كل مواقع العمل والخدمات، التي تعمل بلا توقف لتلبية احتياجات المستهلكين في جميع أنحاء العالم، هو السمة الأبرز للإنتاج.
وعلى صعيد آخر، تغيّرت طبيعة الوظيفة والعمل عما كان عليه الحال في عصر الصناعة. فالجامعة الافتراضية والعيادة التي تقدم الاستشارات والعلاج عن بعد، والتجارة الإلكترونية، والعمل في المنزل، غيرت المفهوم التقليدي للعمل والوظيفة.
الأبعاد المختلفة لمجتمع المعرفة
أصبح لمجتمع المعرفة أبعاد مختلفة ومتشابكة يجب استغلالها كما ينبغي حتى لا نبقى نعيش على هامش المجتمع الدولي، ومن أهم هذه الأبعاد ما يلي:
(1) - البعد الاقتصادي، إذ تعتبر المعلومة في مجتمع المعرفة هي السلعة أو الخدمة الرئيسية والمصدر الأساسي للقيمة المضافة وخلق فرص العمل وترشيد الاقتصاد، وهذا يعني أنّ المجتمع الذي ينتج المعلومة ويستعملها في مختلف شرايين اقتصاده ونشاطاته المختلفة هو المجتمع الذي يستطيع أن ينافس ويفرض نفسه.
(2) - البعد التكنولوجي، إذ أنّ مجتمع المعرفة يعني انتشار وسيادة تكنولوجيا المعلومات وتطبيقها في مختلف مجالات الحياة، في المصنع أو المزرعة والمكتب والمدرسة والبيت... الخ. وهذا يعني ضرورة الاهتمام بالوسائط الإعلامية والمعلوماتية وتكييفها وتطويعها حسب الظروف الموضوعية لكل مجتمع، سواء فيما يتعلق بالعتاد أو البرمجيات، كما يعني البعد التكنولوجي لثورة المعلومات توفير البنية اللازمة من وسائل اتصال وتكنولوجيا الاتصالات وجعلها في متناول الجميع.
(3) - البعد الاجتماعي، إذ يعني مجتمع المعرفة سيادة درجة معينة من الثقافة المعلوماتية في المجتمع، وزيادة مستوى الوعي بتكنولوجيا المعلومات، وأهمية المعلومة ودورها في الحياة اليومية للإنسان. والمجتمع هنا مطالب بتوفير الوسائط والمعلومات الضرورية من حيث الكم والكيف ومعدل التجدد وسرعة التطوير للفرد.
إنّ التغيير سيطال أسس العمل نفسها، ذلك أنّ العمل في أي حقل كان سيتوقف على إدارة المعلومات والتصرف بها عبر الأدمغة الاصطناعية ووسائل الإعلامية. ولذا شهدنا ولادة فاعل بشري جديد هو الإنسان الرقمي الذي ينتمي إلى عمال المعرفة ( ذوي الياقات البيضاء ) الذين يردمون الهوة بين العمل الذهني والعمل اليدوي، إذ لا فاعلية في العمل من غير معرفة قوامها الاختصاص والقدرة على قراءة رموز الشاشات، مما طرح إطارا مفهوميا جديدا هو " العمالة المعرفية ".
(4) - البعد الثقافي، إذ يعني مجتمع المعرفة إعطاء أهمية معتبرة للمعلومة والمعرفة، والاهتمام بالقدرات الإبداعية للأشخاص، وتوفير إمكانية حرية التفكير والإبداع، والعدالة في توزيع العلم والمعرفة والخدمات بين الطبقات المختلفة في المجتمع، كما يعني نشر الوعي والثقافة في الحياة اليومية للفرد والمؤسسة والمجتمع ككل.
إنّ مجتمع المعرفة لا يقتصر على إنتاج المعلومة وتداولها، وإنما يحتاج إلى ثقافة تقيّم وتحترم من ينتج هذه المعلومة ويستغلها في المجال الصحيح، مما يتطلب إيجاد محيط ثقافي واجتماعي وسياسي يؤمن بالمعرفة ودورها في الحياة اليومية للمجتمع.
إنّ أشدَّ ما يقلق البعض في القضايا التي يثيرها مجتمع المعرفة هو ما لها من آثار على الهوية والخصوصيات الثقافية، وهو قلق له ما يبرره في ظل ما نراه من محاولات قوى الهيمنة الاقتصادية تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم في المجتمعات كافة وإخضاعها لنظام قيم وأنماط سلوك سائدة في مجتمعات استهلاكية، إذ يحمل فيض الأفكار والمعلومات والصور والقيم القادمة إلى كثير من المجتمعات إمكانية تفجّر أزمة الهوية، التي أصبحت من المسائل الرئيسية التي تواجه التفكير الإنساني على المستوى العالمي. وفي سياق هذه الأزمة تنبعث العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والقومية الضيقة، وتزداد الرغبة في البحث عن الجذور وحماية الخصوصية.
ويبدو أنّ هاجس الخصوصية الثقافية هو نفسه هاجس الأصالة والمعاصرة معا، إذ يخطئ من يعتقد أنّ حماية الذات الثقافية تكمن في عزلها عن العالم الخارجي وحمايتها من مؤثرات الثقافة الكونية. فغني عن التوكيد أنّ الذات الثقافية المطلوب حمايتها من الاغتراب هي ثقافة الإبداع وليس الاستهلاك، ثقافة التغيير الشامل وليس ثقافة الجمود والاحتماء بالسلف الصالح، ثقافة الوحدة القومية بأفقها الإنساني الحضاري لا ثقافة الأجزاء المفككة التي يعتبر كل منها أنه بديل للأمة.
على أنّ بعض الدراسات تحاول التركيز على تاريخية ونسبية الهوية وعدم الإقرار بثباتها، مما يجعلها مرنة قد تتعايش أو تقتبس من ثقافات أخرى، بل قد تساعدها عوامل التقارب وسقوط الحواجز على تفاعل إيجابي وخلاق مع مجتمع المعرفة. لذلك، قد يكون السؤال ليس كيف نقاوم ثقافة مجتمع المعرفة ونحمي أنفسنا منها، ولكن كيف نعيش عالمنا الراهن بواقعية ودون تناقضات وتأزم وبلا إحساس بعقدة نقص أو خوف. كما أنّ بعض المقاربات ترى أنّ هذه الثقافة لا تهدد الهوية بالفناء أو التذويب، بل تعيد تشكيلها أو حتى تطويرها لتتكيّف مع الحاضر، فالإنسان يتجه نحو إمكانية أن يعيش بهويات متعددة، دون أن يفقد أصالته القومية.
ولا يفارق الوعي بالحقائق، الموصوفة أعلاه، منطق المساءلة الذي يضع لوازم ثقافة مجتمع المعرفة موضع البحث، كاشفا عن إمكاناتها واحتمالاتها المتعارضة، لا من المنظور الذي يرى بعدا واحدا من الظاهرة، وإنما من المنظور الذي يلمح التناقض داخل الظاهرة نفسها، ومن ثم يكشف عن إمكانات أن تنقلب بعض الوسائل على غاياتها الأولية، فتؤدي وظائف مغايرة ومناقضة في حالات دالة. فلا شك في أنّ ثورة المعلومات وتقدم تقنيات الاتصال، الملازمة لمجتمع المعرفة، يمكن أن تؤدي إلى نقيض الهيمنة لو تمَّ توظيفها بعيدا عن الاستغلال، ومن ثم إدراكها وإخضاعها لشروط مغايرة من علاقات الاعتماد المتبادل للتنوع البشري الخلاق.
(5) - البعد السياسي، إذ يعني مجتمع المعرفة إشراك الجماهير في اتخاذ القرارات بطريقة رشيدة وعقلانية، أي مبنية على استعمال المعلومة، وهذا بطبيعة الحال لا يحدث إلا بتوفير حرية تداول المعلومات، وتوفير مناخ سياسي مبني على الديمقراطية والعدالة والمساواة، وإقحام الجماهير في عملية اتخاذ القرار والمشاركة السياسية الفعالة.
دور التعليم في مجتمع المعرفة
أمام الثورة العلمية والتكنولوجية الهائلة التي تصاحب مجتمع المعرفة لابد من توفّر نظام تعليمي يحقق الجودة، ويمنح الفرصة للحصول على خبرات تعليمية تلبي الاحتياجات الآنية والمستقبلية لدفع عجلة التنمية الإنسانية الشاملة. فلم يعد كافيا أن يعتمد التعليم على نقل الخبرة من المعلمين إلى الأجيال القادمة، لأنّ المستقبل يحمل الكثير من التحديات، لذلك من الضروري أن نسلّح أبناءنا بالقدرات التي تمكّنهم من التعامل مع مشاكل وسيناريوهات لم نعاصرها ولم نتعامل معها ولم نتخيل إمكانية حدوثها.
لقد تغيّر مفهوم التعليم تغيّرا جذريا وشاملا في هذه الحقبة الزمنية التي تظللها ثقافة مجتمع المعرفة وتسيطر عليها آثار الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، حيث أصبحت المعرفة الكلية بديلا عن الاختزال، وأصبح التعليم لا يرتبط بالمدرسة وفترة التلمذة فحسب، ولكنه تعليم مستمر يسمح بحق الاختيار وحرية الاختلاف. وحيث أصبح التعليم هو المحرك الأساسي لمنظومة التنمية الاجتماعية الشاملة، وهو الوسيلة الفاعلة لتمكين الإنسان من الخبرات والقدرات ولإيجاد فرص العمل المتاحة في الإنتاج كثيف المعرفة.
وإن كان هذا يعني شيئا فإنه يعني أنّ مجتمع المعرفة يرتبط بمفهوم مجتمع التعليم الذي يتيح كل شيء فيه فرصا للفرد ليتعلم ليعرف، ويتعلم ليعمل، ويتعلم ليعيش مع الآخرين، ويتعلم لتحقيق ذاته. وكل ذلك يتطلب ضرورة وجود شريحة عريضة من المجتمع على مستوى تعليمي عالٍ ومتطور وقادر على الإبداع والابتكار، وهذا يمثل تحديا لنظم التعليم في مختلف المجتمعات، ويلقي عليها مسؤولية سرعة تطوير نفسها بحيث تصبح مجتمعات منتجة للمعرفة.
فمثلا، شرعت تايوان منذ عدة سنوات في ما يمكن وصفه بمشروع رائد لتوفير التعليم للجميع من دون اشتراطات مسبقة تتعلق بالسن أو بالمستويين الأكاديمي والوظيفي، وذلك ليس فقط لأنّ التعليم حق أساسي للجميع ووسيلة من وسائل الاستنارة والإبداع والتواصل الإنساني مثلما قررت منظمة اليونيسكو، وإنما أيضا من منطلق أنّ إزالة العقبات التقليدية وغير التقليدية من أمام الساعين إلى رفع مستوياتهم الأكاديمية أو الباحثين عن مجالات عمل جديدة أو الراغبين في تحديث معلوماتهم في مجالات تخصصهم أمر يعود على البلاد بمنافع عظيمة، وبما يجعل تايوان صنوا للأمم الكبيرة في هذا العصر المتسم بثورة الاتصالات وصناعة المعرفة كمحددين رئيسيين للنجاح والتفوق.
التعليقات على الموضوع