مفهوم الشعر عند جماعة الديوان

 

تعد مدرسة الديوان من أهم المدارس النقدية في العصر الحديث ، كما أنها تعدّ الانطلاقة الحقيقية لحركة التجديد في الشعر العربي ؛ لما صاحبها من عنوان نقدي ، ورؤية واضحة لمفهوم جديد في الأدب.و تتمثل الجماعة في الشعراء :  : عبد الرحمن شكري             و عباس محمود العقاد و ابراهيم المازني .و قد عرفت بمدرسة الديوان  نسبةً أهم كتاب  نقدي ألفته الجماعة ، وهو (كتاب الديوان)  و هو

سلسلة أجزاء أدبية من تأليف العقاد والمازني عام 1921م ، فكان شعلة الانطلاقة النقدية ، وخطوة كبيرة في مؤلفاتهم.

و قد تأثرت جماعة الديوان   بالمدرسة الرومانسية الإنجليزية أكثر من غيرها، حيث  تعرّف شعراؤها الثلاثة على أدب (وردز وورث) الأديب ا انجليزي و رائد الرومانسية الأول        و تعرفوا على (شيلى) و(بيرون) كذلك ، وقرؤوا مختارات (الكنز الذهبي) التي جمعها (فرنسيس) أستاذ الأدب بأكسفورد .

و تعد جماعة الديوان من الأوائل التي  أحدثت ثقباً في جدار الكلاسيكية العربية، وتطلعت إلى بناء مدرسة حديثة في معنى الأدب وغاياته ، وقد كان توجه الجماعة رومانتيكياً ، و لقد استفادت الجماعة من  للأدب الانكليزي و اهتدت بضيائه – كما سبقت الإشارة إلى ذلك - . أما أهداف المدرسة كما يوضحها العقاد فهي مقاومة فكرتين كبيرتين هما : 1- فكرة القومية في الأدب العربي وطريقة فهمها على نحو شكلي ضيق،و2- فكرة الاشتراكية التي يصفها العقاد بالعقم ، لأنها تحرِّم على الأدب أن يكتب حرفاً لا ينتمي إلى لقمة الخبز ، أو إلى تسجيل حرب الطبقات ونظم الحياة. وقد كانت الثورة النقدية التي قام بها هؤلاء الثلاثة تتصف بصفتين:

الأولى : إنها ثورة جاءت في وقتها ، فقد كانت المدرسة الكلاسيكية المحدثة ترسخ مفهوماً في الشعر ، لو ترك بغير معارضة لضرب بجذوره بعيداً ، بحيث يغدو الوصول إلى الحداثة مطلباً في غاية الصعوبة.

والثانية : كانت ثورة هؤلاء الثلاثة واضحة ، فقد كان التنظير الهادئ عن الشعر الذي قدمه مطران لا يقاس بشيء إلى جانب التحرر العنيف من الآراء المتحجرة ، التي كانت تسيطر على الشعر كما عبرت عنه كتاباتهم النقدية .

لقد " وقفت مدرسة الديوان منذ نشأتها بوجه القصيدة العربية التقليدية في الشكل ، والمضمون ، والبناء ، واللغة ، بسبب أن روادها رغبوا في نماذج الشعر الغربي الذي ترك هذه القيود ، فتحررت منها واتجهت نحو الذات والوجدان "، فهم جعلوا للشعر فلسفة ، وكونوا لأنفسهم مفهوماً ، يتمثل في أن الشعر تعبير عن النفس الإنسانية في فرديتها وتميزها ، فالشعر يصدر عما يلفح الإنسان من فرح وحزن.  و فيذلك يقول عبد الرحمان شكري :

                        أيا طائر الفردو                      س إن الشعر وجدان

و يلاحظ أن الجماعة متفقة على ردّ الشعر إلى ذات الشاعر  ، فالعقاد حدد الشعر بقوله أنه : '' التعبير الجميل عن الشعور الصادق ''، و العقاد بقوله هذا حدد للشعر عنصران أساسيان : عنصر الشعور و عنصر التعبير . و الشعور في نظر جماعة الديوان هو '' الاتصال الوثيق بالحياة و بما تشمله من مظاهر و أشكال و أحوال و الشعور عندهم كذلك هو الإحساس بالحياة جزئياتها و كلياتها آلامها و آمالها ...  و الشعور بالموضوع هو الذي يمكٍّن الشاعر من أن يكون صادقا في تعبيره و يجعله ينظم شعرا رفيعا ، و في حالة فقدان الشاعر هذا الصدق في التعبير نتيجة لفقدانه الإحساس الصادق فحتمًا سيؤدي  ذلك إلى عجزه في تأدية رسالته المنتظرة .

يقول شكري في هذا المقام :

إن القلوب خوانق                و الشعر من نبضاتها

                        فترى الحياة جميعها منشورة بصفاتها

                        و الشعر مرآة الحيا                ة تطل من مرآتها

كما أعلنت  الجماعة عن مفاهيمها العامة حول القصيدة الحداثية من خلال
الشكل ثارت على نظام القصيدة الطويلة ذات النسق الواحد ، وتوجهت نحو شعر المقطوعات، و شعر  التوشيح – أي الموشحات - ، وشعر تعدد الأصوات كما ثار أصحابها على نظام القافية الواحدة فنوعوا وألغوا أحياناً.

أما موقفهم من خصائص القصيدة و مكوناتها  فيتمثل فيما يلي :

1-    من حيث البناء : رفضت جماعة الديوان  التفكك الذي يجعل القصيدة مجموعة مبددة لا تربطها وحدة معنوية صحيحة ، فنادت بالوحدة العضوية ، وأن القصيدة عندهم كالجسم الحي يقوم كل عضو من أعضائه بوظيفته الخاصة التي لا يمكن الاستغناء عنه أبداً.

2-    من حيث المضمون : تمرد رواد هذه المدرسة على ضيق المعاني ، ومحدودية إطارها ، ووقفوا أمام استخدام الشعر في بيان الموضوعات التاريخية ، كما رفضوا شعر المناسبات ، ودعوا إلى الجوهرية و الخيال ، وعبروا عن إنسانية الشعر لا لسانيته.

من حيث اللغة : ثار أعضاؤها على ما يسمى لغة الشعر أو القاموس الشعري ، ونادوا باستخدام معجم آخر يستعمل في المجتمع والحياة ، ليقرب العمل الشعري من حركة العصر وتأمل الفكر وإثارة الوجدان

1-    من حيث الخيال : ترى الجماعة أن الخيال وسيلة ضرورية لتحقيق أدب جميل      و معبر عن الذات ، و في نظرها أن لكل إنسان نصيب من الخيال يساعده على تدليل حياته و على الاتصال بالناس على أحسن وجه ممكن ، إلا أنه يختلف في سعته و قوته من شخص لآخر ن إنه ببساطة وسيلة ضرورية لكل فنان .

2-    من حيث الوحدة العضوية : ثارت جماعة الديوان على المدرسة التقليدية لأنها اعتمدت تفكيك القصيدة ، فالعقاد يرى أن القصيدة عمل فني تام يقول : '' متى طلبت هذه الوحدة المعنوية في الشعر فلم تجدها فاعلم أنه ألفاظ لا تنطوي على خاطر مطرد أو شعور كامل الحياة ''

3-    من حيث الوزن و القافية : يرى المازني أن الوزن لا يَخْلِقُ شاعرا ، بل لا بد من وجود روح تحكم الشعر ، فالكلام الموزون ليس بالضرورة شعرا خاصة إذا خلا من روح الشاعر و الشعر .

4-    من حيث الطبع و الصنعة : تريد الجماعة للشاعر أن يكون نموذجا متفردا ، و ليس صورة لغيره ، بل صورة لنفسه ، صورة لا تتكرر و بالتالي رفضت الجماعة رأي الكلاسكيين الذين يدعون الشاعر للنسج على منول غيره .

ويرى العقاد في الجزء الثاني من كتاب الديوان أن عيوب الشعراء في عصره أربعة :" التفكك والإحالة والتقليد والولوع بالأعراض دون الجواهر – وهذه العيوب هي التي صيرتهم أبعد عن الشعر الحقيقي الرفيع المترجم عن النفس الإنسانية في أصدق علاقاتها بالطبيعة والحياة والخلود، " فأما التفكك فهو أن تكون القصيدة مجموعاً مبدداً من أبيات متفرقة لا تؤلف بينها وحدة غير الوزن و القافية ، و ليست هذه بالوحدة المعنوية الصحيحة ".         و " أما الإحالة فهي فساد المعنى ، وهي ضروب فمنها الاعتساف و الشطط ، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق ، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول ، أو قلة جدواه وخلو مغزاه. و"أما التقليد فأظهره تكرار المألوف من القوالب اللفظية و المعاني ، وأيسره على المقلد الاقتباس المفيد و السرقة " وأما الولع بالأعراض دون الجواهر فهو ضرب من العبث يمثل له العقاد بالعَلَمِ - أي  الرَّايَة - فيقول :" للعَلَم جوهر و عرض فأما الجوهر فهو ما يرمز إليه من مجد الأمة وحوزتها...وأما العرض فهو نسيجه ولونه خاصة وليس لها قيمة فيما ترفع الأعلام لأجله ". 

و تطرق المازني لمفهوم الشعر و لم يخرج عن مفهوم العقاد قبله  فهو يرى '' الشعر ديوان يفيد فيه أهل العقول الراجحة ، ما يجيش في خواطرهم في أسعد الساعات  ''  و ينشد قائلا: 

وما الشعر إلا صرخة طال حبسها               يرن صداها في القلوب الكواتمِ

 

أما شكري فيرى أن الشعر كشف للحقيقة ، وأن حلاوة الشعر كما يقول ليست قلباً للحقائق ، وإنما إقامة الحقائق المقلوبة ، كما يرى أن المعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه ، وليست التشبيهات الفاسدة والمغالطات السقيمة ، وبشكل عام فإن الشعر الجيد عند أصحاب هذه المدرسة هو ما كان تأثيره على الناس أبلغ ، وما كانت استثارته لكوامنها أكبر ، ودلالته على نفسية منشئه أعظم ، وكل ما يؤدي إلى ذلك يمكن أن يسوقنا إلى مفهوم الشعر.

ولجماعة الديوان رأي في اللغة الأدبية فهم يعتبرون الألفاظ لا قيمة لها في ذاتها ، وإن قيمتها إنما تكمن فيما ترمز إليه من معان ، وقد دعا شكري إلى نبذ الألفاظ الغريبة واستعمال المألوف منها ، والعبارة التي تحتوي على ألفاظ غريبة ، تكون برأيه أقل متانة وجمالا ، عكس العبارة السهلة المألوفة. ويرفض شكري تقسيم بعض الألفاظ إلى شريفة    و وضيعة – أي ساقطة -  التي يقصدون بها ما ابتذلت من كثرة الاستعمال ويصف ذلك بالتّعسف ، بل المعنى هو الذي يحدّد ما إذا كانت الكلمات وضيعة أو شريفة ، وقد تابعه زميلاه فيما قرر.

 خلاصة :

يمكن القول أن كل ما فعله أفراد جماعة الديوان في الشعر هو أنهم دعوا إلى التجديد في مضمونه ، كما حرروا أسلوبه من المعجم اللغوي الذي عُرف قبلهم ، أما من جهة المضمون فإنهم ثاروا ضد شعر المناسبات ، فمذهبهم الشعري يقوم على دعامة فلسفية و هي ضرورة إرجاع الشعر إلى نفس صاحبه و وجدانه ، و الابتعاد عن دواعي التكسّب و الحظوة . باختصار إن جماعة الديوان وَسّعت من مضمون الشعر و جعلته يشمل الحياة كلها .


بعض مراجع ساعدة في مفهوم الشعر عند جماعة الديوان

راوية سعودي، التجربة النقدية عند جماعة الديوان بين التنظير والتطبيق من خلال كتاب الديوان في الأدب والنقد، رسالة ماجستير، جامعة محمد بوضياف 2015، ، المقدمة أ.


ليست هناك تعليقات