معنى التاريخ، في الفلسفة الهيجيلية والخلدونية!

 معنى التاريخ، في الفلسفة الهيجيلية والخلدونية! 



عندما نقرأ التاريخ من مصادره المتعددة، نكتشف شيئاً فشيء بان للتاريخ حركتين واضحتين، الأولى هي التغيّر، دون أن نحدّد إن كان ذلك تغيّراً جيّداً او سيّئاً، ذلكَ أن التاريخ كعلم لا يخضع للنظرة الأخلاقيّة، القول بأن التغيّر هو نفسه التطوّر، يعني أننا أخذنا انحيازاً في النظرة التاريخيّة، ورغم أن التطوّر في ذاته لا يعني تطوّراً إيجابيا، لكن ومع ذلك، يُعتبر مصطلح التطوّر انحيازاً معرفياً. التأريخ عمليّة حسّاسة ومُعقّدة، كذلك النظرة إلى التاريخ تعتبر عملية صعبة ومُعقّدة، وأعقد ما فيها أن يتجرّد الدارس من كل عواطفه ليتقبّل الحقائق بعدَ جمعِ المصادر. بالنسبة للفيلسوف الألماني، التاريخ خاضع لتسلسل زمني، ولا يمكن بأيّ حال أن نحكم على تاريخٍ مُعيّن من منطلق تاريخ آخر بعده، في ظروف وإمكانيات أخرى، يقول، أن ذلك التحوّل والانتقال التصاعدي التاريخي يجب ان يبدأ من نقطة دُنيا ويتصاعد، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يعطي للتاريخ معنى ووجهة ومُستقرّ. 

فلن يُفكّر الصّبي كالبالغ والكهل، والتفكير هثنا، ليس هو الذكاء والفطنة، إنّما التفكير على أسس التجارب، حيث يمكن للقوي أن يتحدّث عن مرض ما، لكنّه لم يخبَر ذلك، والفرق بينهما واسع. المنطق الكوني كلّها مبني على التصاعد في النمو، من البذرة الدقيقة، إلى الشجرة الفارعة. لأن عيش الطفولة والمراهقة والشباب كاملةً جزءٌ لا يتجزّأ من البلوغ والرّشد، وأن الطفل الذي لم يعش المرحليّة سيعرف اضطراباً في زمن لاحق. 

فلسفة التاريخ قبل أن يتحدّث عنها هيجل بعين التطوّر المتأثّر "بالصبى التاريخي"، درسها ابنُ خلدون بشكل منطقي استقرائي، ومن تلكَ القراءة، علمَ ابن خلدون أن نهاية التاريخ ستكُرّر بدايته، وقال بأنها حلقة مُغلقة، أي، الانطلاق من الأوقات الصعبة، التي تصنعُ رجالاً أشداء وحكماء، بدورهم يعيدون الحضارة إلى أوجها، ومن ثم يعم الرخاء، فيأتي الفساد ثم التقهقر، والذي بدوره يصنع الأوقات الصعبة، التي تصنعُ الأشداء والحكماء.. 

لذا هيجل نظرة أخرى، حيثُ يقول إن الحضارة لا تكفأ عن النمو والنضج، ومن ذكاء الفيلسوف أنه قال بأن ذلك النمو ليس هو الكمال، بل النمور الذي يأتي بعده أنضج، وهو منطق التاريخ في النضج المستمر، فإذا قلنا إننا نعيش أوقاتاً صعبة، فهيجل سيقول أن التاريخ لا يزال يتقدّم.

المُلك، أساس التاريخ؟

في زمن الحضارة البابلية والفرعونية، لم يكن من المعقول أن يتم الحديث عن الشورى والانتخابات، عن تصويت الشعب من أجل القرارات الهامة، كان زمن يتطلّب التملّك وفرض الأحكام، حتى أننا لاحظنا في القرآن أن الله عز وجل لم يطلب من موسى خلع الفرعون وتأسيس حكم شورى، بل أن يأخذ بني إسرائيل وأن يغادر مصر فحسب. فأي عملية لتغيير نظام الحكم أنى ذاك لم تكن لتُفهم، من الملك إلى آخر عبد. 

الجمهوريات، مِحور تاريخي؟

تغيّر الحال عندما نقَلَ اليونانيون الفكر المصري إلى أرضهم، بحيث دمج الأسلوب المصري مع الفكر الجديد القائم على بناء الدولة المدينة، بنظام جمهوري شبه ملكي يُتيح للناس بعض الممثلين عنهم (برلماناً) لينقلوا مشاغلهم، فقد انتقل الحال من الديكتاتورية إلى بوادر التواصل بين الحاكم والمحكوم.

حُكم الأقليات، تطوّر تاريخي؟ 

حكم المجموعات، ما يُسمى "أوليغارشي" عرفَ تنقّلاً أيضا من مرحلة إلى أخرى، أي هناك عوائل تسيّر وتملك بلداً أو مملكةً، وقد تتيح الحكم لأشخاص آخرين هي تختارهم، بنظام التداول. 

الديموقراطية، قِمّة التاريخ؟

فإذا مررنا مروراً مسحيا سريعا عن التاريخ، نرى بأن الديموقراطية هي آخر ما توصّل إليه الإنسان، فقد اتاحت هذه العملية الحرية المطلقة للإنسان في كل المجالات، من رأس النظام إلى آخر عامل.

ما بعد الديموقراطية، عودة إلى النظام الفرعوني أو تاريخ جديد؟ 

إذا ما نظرنا إلى التاريخ، سنشاهد أننا إمـا مع النظرة الخَلدونية للتاريخ، أي أن تُغلق الحلقة ونعود شيئاً فشيء لنفس المنطق البُنيوي التاريخي الذي ذكرته، أو، مع النظرة الهيجيلية للتاريخ، أي أن ننتظر بزوغ نجم نظام جديد، يتماشى وتطور المجتمعات وعقلياتهم. 

طبعا، الأنظمة السياسية متعددة، من البرلماني للرئاسي، للشبه رئاسي للملكي، لكن هناك دائما فلسفة سياسية تحكم الزمن. 

نقرأ يمينا وشمالاً أن في الماضي كان وكانَ "قهر استبداد تعصّب جهل" أو "طيبة محبة عطف نية تآزر" ، سواءً كان سلباً أو إيجاباً، فنحن صرنا نعلم الآن أن "معنى التاريخ" قد شرح لنا بأن الأمور تنضج أو تتغير تصاعدياً، من النظرتين، الخلدونية والهيجلية، لكن مُستقرّ التاريخ هو نقطة الاستفهام بينهما. 

وفي الأخير، تتفق الفلسفتان في أن الرجال هم من يقودون التاريخ، وأن التاريخ يعرف تحوّلاً بإرادة الرجال، فمن وجهة نظر هيجل، نابليون أعظم من كريستوف كولومبوس، ذلك أن الأول كان يعلم ما يريده، فقدّ سطّر التاريخ بنفسه، أما الثاني فقد ترك التاريخَ يختارُ له ما يُريد، ولقد رأينا ان لابن خلدون نفس المفهوم، فالرجال هُم من يوقفون الأوقات الصعاب "بالقرار" وليس الانصياع للزمن والتاريخ والمجرى الواقعي، أي أن مُنعرج التاريخ يأتي إرادةً، فإذا أردت تغيير التاريخ، فغيّره، ذلكَ أن التاريخ لا يتغيّر لوحده، وأن معنى التاريخ لن يكون دون هؤلاء الذين كتبوا له معانٍ جديدة.


المقال 287

#عمادالدين_زناف

ليست هناك تعليقات