نشأة الأدب الجاهلي

 نشأة الأدب الجاهلي



       يسلمنا الخوض في أتون المظان التي غاصت في مغابن العصر الجاهلي، إلى كون العرب كانوا فيه أبعد ما يكونون من التعمق في الفنون التطبيقية التي برع فيها أندادهم من الأجناس المتاخمة لشبه الجزيرة العربية، بل كان حمادى ما برعوا فيه هو فن القول، حتى قيل عنهم إنهم أعطوا الكلام ومنعوا الطعام؛ فقد وجهوا همهم أليه للإفاضة بما يعتمر حناياهم من أحاسيس جياشة تغلي غلي المراجل؛ فكان الحديث الصقيل هجيراهم ، ولعل الرجل يتبلغ بأبيات من الشعر يضعها بين يدي حاجته، حتى قيل إن الشعر ديوان العرب، على أن ما بلغنا من الأدب الجاهلي لا يصل عشر معشاره، فقد ضرب الرواة صفحا عن أغلب الحقب التي كانت تنضح بالمأثور النير، اللهم ما ذاك  إلا ما كان من أواخر القرن الخامس للميلاد والنصف الأول من القرن السادس ، أي ما سبق ظهور الإسلام بنحو قرن ونصف .

       لا محيص من الجزم بكون حصة الأسد من الشعر الجاهلي قد تفرقت شذر مذر، حتى قال أبو عمرو بن العلاء:” ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير”. والسبب في ذلك أنه لم يدون سوادا على بياض، وأن قسما مما حفظ في الصدور زال مع الرواة الكثيرين الذين قضوا نحبهم بسبب الحروب. وأقدم شعر طلته أيدينا هو ما قيل في حرب البسوس أو قبلها بقليل، أما النثر فقد وصل إلينا منه بعض الأمثال والخطب والأخبار.

       وقد تناول هدا الأدب بالتقريظ ثلة من دهاقنة النقد وجهابذة الأدب نحو: ابن سلام الذي يقول في طبقاته:” وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون”. وقد سأل الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –، وقد ذكر الشعر: يا كعب! هل تجد للشعراء ذكرا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قوما من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب. وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: كان الشعراء في الجاهلية يقومون من العرب مقام الأنبياء في غيرهم من الأمم. أما الجاحظ فيقول: فكل أمة تعتمد في استيفاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تتحلى في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها.

العوامل المؤثرة في الأدب الجاهلي

     على أن الأدب الجاهلي تأثر بثلة من العوامل طبعته بطوابع عرف بها، وأهم هذه العوامل:

1 – الصحاري الشاسعة إذ لعبت الصحراء دورا بارزا في تشكيل الحياة السياسية والاجتماعية في جزيرة العرب، كما أثرت في تحديد قيم العربي وأخلاقه، وكانت تخيفه وتحميه في الوقت نفسه. 

2 – البنية الاجتماعية فقذ كانت القبيلة بمثابة الوحدة السياسية التي تلم شعث الجاهليين، وكان يحكمها قانون العصبية وما تبعه من ثأر وجوار وحمالات للدماء.

3 – البيئة الثقافية حيث كان للاحتكاك بالأمم المجاورة للجزيرة، الأثر الكبير في اكتساب ألوان عديدة من الثقافات الجديدة التي أثرت في الأدب الجاهلي.

4 – التجارة فلطالما عرف العرب بالتجارة والرحلات داخل الجزيرة وخارجها، ونجد في لغتهم وأشعارهم وأمثالهم أدلة واضحة على ذلك.

5 – الأيام ونعني بها تلك الحروب التي عرفت في العصر الجاهلي، وكانت تستمر لأيام وشهور وأعوام، شأن حرب البسوس الشهيرة التي استمرت زهاء أربعين سنة.

        وحتى لا يذهب نداؤنا صيحة في مجهل فإننا نشير إلى كون الأدب الجاهلي وصل إلينا على ألسنة الرواة وهم أناس كان همهم أن يصغوا لأقوال الأدباء وأن يحفظوا منثورهم وشعرهم. وقد اشتهر جماعة من قريش برواية الشعر ومعرفة الأنساب كمخرمة بن نوفل، وحويطب بن عبد العزى وغيرهما. وما إن جاء الإسلام حتى اهتم طائفة من رجال العلم برواية الشعر أ كحماد الراوية وخلف الأحمر، والشيباني والأصمعي، والأنباري.

       وقد اهتم العلماء، ولا سيما علماء اللغة، بجمع الشعر القديم لأنه أقدم وثيقة للغة العربية، وأتم مصدر لفهم غريبها، وأوفى موسوعة لأحوال العرب الأقدمين وأخبارهم؛ وأخذ أولئك العلماء، منذ أوائل القرن الثاني للهجرة، يدونون الأدب القديم ويعلقون عليه ويوردونه في كتبهم. ومن أشهر المصادر والمجموعات التي حفظت ذلك الأدب ولا سيما الشعر منه:

1 – المعلقات السبع: وهي من جمع حماد الراوية على الأغلب.

2 – المفضليات: جمعها المفضل الضبي وتحتوي نحوا من 128 قصيدة.

3 – ديوان الحماسة لأبي تمام، وديوان الحماسة للبحتري: وفيهما مقطوعات كثيرة من الشعر الجاهلي.

4 – كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.

5 – كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة.

6 – مختارات ابن الشجري.

7 – جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي.

        صفوة الحديث إن البارئ قد قيض للشعر الجاهلي التليد، قرائح وقادة، تبقى كالصخرة العبوس عصية على غير الدهر، وذلك كيما تحافظ على هذا البز الدفين من التلاشي والنسيان، رغم ما تدوول من شك في صحة العديد من الروايات التي تنسب نصوصا بعينها لشعراء فحول، تربت نبعتهم بين ظهراني حرشة الضباب، وأكلة الشيح والقيصوم، لكن هذا لا ينفي نحل بعض الرواة أشعارهم لأعلام من العصر الجاهلي، بغية حيازة قصب السبق في الرواية.

ليست هناك تعليقات