النشاط الصناعي بالجزائر خلال العهد العثماني


عرفت الجزائر خلال العهد العثماني صناعة تقليدية نظرا لتوفر المادة الأولية التي هي أساسها الإنتاج الزراعي والحيواني، وقد أدى تنوع المواد الخام إلى تنوع الإنتاج، وكان الجزء منه يستهلك محليا ويصدّر الفائض إلى الخارج. ومن أهم الصناعات، التي مارسها المجتمع الجزائري، على مستوى المدينة والريف، هي الصناعة النسيجية، والجلدية، والمعدنية، والخشبية، والفخارية.

وإذا كان الإنتاج الصناعي في الأرياف موجها أساسا لتلبية حاجات الأسرة في المقام الأول، فإن إنتاج المدن، كان مخصصا لأغراض تجارية، فالحرف هناك كانت أكثر تنظيما، فكانت تنجز في ورشات خاصة من طرف عدد من العمال، المنظمين في نقابات مهنية، وكان على رأس كل حرفة أمين يتولى تنظيم الحرفة، مراقبة الإنتاج، والسهر على الجودة.

وإذا صنفنا مختلف الحرف في المدن والأرياف الجزائرية حسب أهميتها، فتأتي في مقدمتها:

-الصناعة النسيجية: عرفت انتشارا واسعا نظرا لتوفر المواد الخام، مثل الصوف والقطن، والحرير، والكتان، ومن أهم المنسوجات نجد الزرابي التي تنسج أجودها في قلعة بني راشد، في حين اختصت مدينة قسنطينة في نسج الحياك، أما البرانيس، فكانت تنسج في قبائل بني عباس، وذكر الألماني " هاينريتش " أن لبنى عباس دكاكين برانيس في مدينة الجزائر. كما تنسج أيضا في قبائل بني عيدل، بني يعلا، وبني ورثيلان، وزمورة، إلا أن أجودها كان ينسج في القبائل الصحراوية، كما اشتهرت معسكر هي الأخرى بصناعة البرانيس السوداء، والتي كانت تستعمل في كل أنحاء البلاد وتصدّر إلى مصر وتركيا. 

وانتشرت في المدن الجزائرية صناعة الشواشي، إلا أنها كانت أقل نوعية من مثيلتها التونسية، ويعود ذلك إلى أن الدولة في تونس منحت اهتماما وتشجيعا لصناع الشاشية، بينما كان الحرفيون الجزائريون يستعملون الصوف المحلية الخشنة في صناعة الشواشي، لهذا فكانت موجهة للاستهلاك المحلي، أما التونسيون، فكانوا يستعملون الصوف المستوردة من إسبانيا. وهذا ما جعل إنتاجهم يعرف رواجا واسعا في الأسواق الدولية، فكانت الشاشية التونسية تصدّر إلى المشرق، وأوربا الشرقية، والدول المغاربية والإفريقية عامة.

وعدم تطور صناعة الشاشية الجزائرية، وعدم الاعتناء بجودتها يعود أساسا إلى احتكار الدولة لمادة الصوف، فكان معظم الإنتاج يصدر إلى الخارج، ولم يترك منها إلا النوع الأقل جودة.

وعرفت صناعة الأحزمة الصوفية والحريرية، والمناديل والشالات رواجا واسعا، وكانت المنتوجات الحريرية تصدّر إلى الدول الشرقية والأوربية فكانت تباع بأسعار أغلى من المنتوجات الفرنسية والإيطالية، لأنها كانت أجمل وأمتن، وألوانها جميلة ودائمة، ولا توجد بضاعة أوربية تفوق المنتوجات الجزائرية في هذا المجال. 
وسبب الجودة يعود إلى نوعية المياه والصناعة، التي كان يستعملها الحرفيون الجزائريون، وقد اشتهر سكان مدينة دلس بتحضير مادة الصباغة، المستعملة في تلوين الصوف والأقمشة، والسلل، والأطباق والقفف، وهذا ما جعل الأوربيين المسيحيين يحاولون دائما، اختراق أسرار تحضير الصباغة، والتعرّف على المواد المستعملة. 
وكانت الصناعة النسيجية عموما، تحظى بأهمية كبيرة وما يؤكد ذلك العدد الكبير من الحرفيين، الذين كانوا يشتغلون فيها، فمدينة الجزائر لوحدها، تضم ستمائة (600) حرار و مائتي (200) نساج، كلهم من أصل أندلسي. 
وهناك عدد كبير من ورشات النسيج في مدينتي قسنطينة وتلمسان، وهذا ما أكده " حمدان بن عثمان خوجة ": "يوجد في تلمسان عدد من معامل الصوف يصنع فيها نوع من الأقمشة التي يستعملها الجيش، كما تصنع فيها المحازم التي يبلغ عرضها أربع بوصات، والتي تنسج نسجا متينا، وتنقل إلى كامل أنحاء البلاد ". 
وكانت تنتشر في المدن الجزائرية، عدّة محلات مخصصة للخياطة والطرز، وكان معظم الخياطين في مدينة الجزائر من اليهود، أما الطرازون، فكانوا من الكراغلة والعرب. ومما يلاحظ أن الصناعة النسيجية بمختلف أنواعها، لم تكن حكرا على جماعة أو منطقة معينة، بل كانت تمارس في كل أنحاء البلاد. 


-الصناعة الجلدية: عرفت هذه الصناعة هي الأخرى انتشارا وا سعا، وقد اشاد بها القنصل الأمريكي في يالجزائر " شالر" الذي قال عنها: " وصناعة إعداد الجلود المدبوغة والمصبوغة على الطريقة المغربية، تبدو، في هذا البلد قريبة من درجة الكمال ".ومهما كانت درجة الكمال لهذه الصناعة، فإنها لا تضاهي مثيلتها في بعض المدن المغربية، مثل تيطوان، وفاس، والرباط. ويعود ذلك ربما إلى أن مادة الجلد، كانت تصدّرها الدولة كغيرها من المواد الأساسية.
ومن أهم المصنوعات الجلدية، الأحذية بمختلف أنواعها وألوانها، والمحافظ المطرزة بالذهب والفضة، ولوازم الخيول كالسروج والألجمة، التي عرفت رواجا لدى بعض القبائل لاهتمامها الكبير بتربية الخيول، فهناك قبائل تملك ثلاثمائة أو أربعمائة خيل.  


الصناعة المعدنية: عرفت انتشارا واسعا، وهذا دليل على وجود مناجم في الجزائر، وقد ذكرت المصادر أن هناك مناجم في كل من جبال زكار وبجاية ، فلهذا كان سكان جبال بجاية، يستخرجون الرصاص والنحاس والحديد ويصنعون من هذه المواد، الكور، والذخيرة، والحلي والسكاكين، والسيوف والأدوات الفلاحية، كالمحراث والمناجل، والفؤوس، التي كانوا يبيعونها لسكان السهول. كما هناك مسابك لصناعة المدافع، والقذائف، والبنادق والأقفال، ومختلف الأدوات الحديدية، وكانت أهم مسبكة في مدينة الجزائر، تقع في ضواحي باب الوادي، المعروفة بدار النحاس .
وقد برع سكان منطقة القبائل في صناعة البارود، الذي عرف إقبالا واسعا فكان الناس يفضلونه عن ذلك الذي يصنع في مدينة الجزائر، كما تخصصت بعض قبائل جرجرة في صناعة العملة المزيفة، أما مادة الكبريت فكانوا يستوردونها من مدينة الجزائر.
ومما يلاحظ أن صناعة الأسلحة، والذخيرة والأدوات الفلاحية كانت حكرا على سكان المدن والجبال، التي تتوفر بها المناجم، فكانوا من الممونين الرئيسيين لسكان المناطق السهلية، الذين كان نشاطهم الصناعي، مقصورا على بعض المصنوعات المستعملة في حياتهم اليومية، مثل الحصير، والسلل، والسروج.... 
وقد اختصت مدينة الجزائر، وقسنطينة وتلمسان بصناعة الحلي الذهبية، التي كان معظم صناعها من اليهود، بينما اختصت بعض قرى جرجرة بصناعة الحلي الفضية.  
-الصناعة الخشبية: في الواقع أن هذه الحرفة، كانت تمثل بالنسبة لسكان الأرياف، وسيلة التسلية لقضاء أوقات فراغهم، فكانوا يصنعون الأواني المنزلية، كالملاعق والأقداح، وهناك من يصنع الأدوات الفلاحية كالمحاريث والمقابض وغيرها.
أما في المدن، فإن هذه الصناعة كانت أكثر تطورا، حيث هناك عددا من النجارين والخراطين، الذين كانوا يصنعون الأثاث المنزلية، والصناديق، والخزائن والنوافذ، والأبواب ولوازم الصناعة النسيجية.
وقد قدّر " قراماي " عدد الخراطين الأندلسيين في مدينة الجزائر في مطلع القرن 17م بستة وأربعين (46) خراطا.  
وتعتمد الصناعة الخشبية على عدّة أنواع من الأخشاب مثل أشجار البلوط، الدردار، والزيتون التي كانت تجلب من غابات منطقة القبائل، وجيجل، والقل، والأوراس .
-الصناعة الفخارية: تعدّ من أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان، والمجتمع الجزائري كغيره من المجتمعات مارس هذه الحرفة منذ أقدم العصور، نظرا لأهميتها الاجتماعية والاقتصادية في حياة البشرية، وكانت من العوامل التي ساعدت الإنسان على الاستقرار، وتشكيل التجمعات السكانية، فمعظم المدن والقرى الجزائرية تصنع فيها الأواني الفخارية للاستعمالات اليومية، ومواد البناء كالقرميد والأجر، والزليج، وتختلف الجودة والنوعية من منطقة إلى أخرى، إلا أن أجود إنتاج كان يصنع في مدينة ندرومة.
وقد عرفت الصناعة الفخارية والخزفية تطور كبيرا على يدّ الأندلسيين. فظهرت عدّة ورشات بضواحي باب الوادي بمدينة الجزائر، وأقيمت الأفران داخل المدينة وفي أريافها لصناعة الجير، الذي كان يستعمل بكثرة في تبيض المنازل، كما تضم مدينة قسنطينة هي الأخرى عددا من الفخارين القادمين في معظمهم من منطقة القبائل.
  -صناعة السفن: أولت الجزائر أهمية بالغة لمادة الخشب المخصصة لصناعة السفن، لأنها كانت بحاجة إلى أسطول قوي، لمواجهة الأخطار الخارجية، ولهذا، كانت معظم معاهداتها مع دول أوربا تنص على أن يكون جزء من إتاوتها من مادة الخشب. وتوجد ورشات لصناعة السفن، وتصليحها في موانئ بجاية ومدينة الجزائر، وشرشال.
وما يمكن القول، فإن المجتمع الجزائري قد مارس عدّة حرف، وعرف كيف يستغل ما وفرته له الطبيعة، إلا أنه مهما بلغت درجة تحكمه في الصناعات المختلفة، فإن إنتاج بعضها لم يكن يلبي احتياجات السكان، فلهذا اضطرت الدولة إلى الاستيراد من الخارج بعض المنتوجات المختلفة والمتنوعة.               
     وتعود أسباب عدم تطور الصناعة الجزائرية إلى ما يلي: 
-احتفاظها بطابعها التقليدي
- عدم محاولة تطوير وسائل الإنتاج
- منافسة الصناعة الأوربية التي دخلت طور الإنتاج الآلي مما يجعل أسعارها منخفضة
- عدم تشجيع الدولة لهذا القطاع.
- تدهور القطاع الزراعي أثر سلبا على القطاع الصناعي، فكلّما قلّ الإنتاج الزراعي والحيواني، ارتفعت أسعار المواد الخام مما جعل الصناع يعانون من صعوبة الحصول على المواد الضرورية لصناعتهم، فكانوا يضطرون إلى دفع مبالغ مالية ضخمة لاقتناء المواد القليلة المتوفرة في الاسواق، وقد تسبب ذلك في ارتفاع أسعار المصنوعات لقلّة الإنتاج، وارتفاع وغلاء خامتها، إضافة إلى الضرائب الباهظة التي كان يدفعها الصناع على مصنوعاتهم.  
وقد ورد في المصادر الأوربية أن أمناء المهن في مدينة الجزائر كانوا يدفعون لشيخ البلد، ضريبة سنوية، قدرها سنة ألاف ريال دراهم أي ما يعادل مائة وخمسة وعشرين ريالا في الأسبوع، وكان ذلك في مطلع القرن 18م. أما في أواخر نفس القرن، فإن قيمة الضريبة، كانت تقدّر بسبعمائة (700) ريال دراهم في الأسبوع.
إن المقارنة بين القيمتين المذكورتين، يتضح جليا ارتفاع قيمة الضرائب في أقل من قرن. يمكن إرجاع ذلك إلى السياسة الصارمة للإدارة العثمانية في جمع الضرائب، ولم يكن ذلك مقصورا على المهن فقط، بل شمل جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى، وكانت تلك السياسة من الأسباب التي أدت الى تدهور الأوضاع العامة في البلاد، بما في ذلك العلاقات العامة بين الإدارة والرعية.   


ومن أهم العوامل التي أضعفت الصناعة الجزائرية أيضا، لاسيما في الفترة الأخيرة من العهد العثماني، استيراد المصنوعات الأجنبية التي كانت تنافس المنتوجات المحلية.
ومن خلال ما تقدّم، يمكن القول:
- أن الجزائري قد مارس مختلف الأنشطة الصناعية، واختلفت نوعية مصنوعاته من صناعة لأخرى.
- أن سكان الأرياف اتخذوا من بعض الصناعات وسيلة لتلبية متطلباتهم اليومية، وتحسين أوضاعهم المادية، أما سكان المدن اتخذوها حرفة أساسية إلى جانب التجارة.
- إن تمركز الورشات الصناعية في المدن، قد قلّل من ظاهرة البطالة في المناطق الريفية الفقيرة، فقد لاحظنا أن معظم الحرفيين في المدن الرئيسية، مثل مدينة الجزائر، وقسنطينة، يعود أصلهم إلى المناطق الريفية.
- لم يطور الفاعلون في القطاع الصناعي، صناعاتهم، إذ حافظوا على طابعها التقليدي، مما جعل صادراتهم ضئيلة وغير قادرة على منافسة الصناعة الأوربية.
- تدهور الصناعة في الجزائر، له انعكاس سلبي على موارد أصحاب الورشات، والحرفيين عامة.
- إن احتكار الدولة للمواد الخام، وتصديرها إلى الخارج، أثر على نوعية المصنوعات الجزائرية.





ليست هناك تعليقات