الاتجاهات الحديثة للسياسة التشريعية
المحور الثالث : بحث الاتجاهات الحديثة للسياسة التشريعية
تتمثل الاتجاهات الحديثة للسياسة التشريعية في المرحلة الحالية، وتشمل أهم النظم القانونية الحديثة، بالإضافة إلى أهم المبادئ القانونية على غرار دولة القانون، غير أننا سنكتفي في هذا المحور بالتطرق إلى أهم ثلاث نظم قانونية حديثة وهي على التوالي: النظام القانوني الأنجلوسكسوني، النظام القانوني الروماني الجرماني، النظام القانوني الإسلامي.
المبحث الأول: النظام القانوني الأنجلوسكسوني
إن دراسة أي نظام قانوني تتم بالتطرق إلى بنيته، ومصادره، وصولا إلى تقسيماته الكبرى والفرعية وخصائص القاعدة القانونية فيه، وبما أن نشأة النظام القانوني الانجلوسكسوني ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظام الانجليزي، فسنحاول التطرق إلى تاريخ هذا النظام ومصادره، بالإضافة إلى تقسيمات القواعد القانونية فيه وخصائصها.
المطلب الأول: تاريخ القانون الانجليزي
مر القانون الانجليزي بمراحل تاريخية أثرت فيه بصور متباينة، ويمكن إجمالها في مرحلتين أساسيتين هما المرحلة الأنجلوسكسونية، ومرحلة نشأة القانون الانجليزي.
الفرع الأول: المرحلة الأنجلوسكسونية
تبدأ هذه المرحلة من القرن الخامس (5) للميلاد، حين تعرضت انجلترا لغزو قبائل الإنجلر والسكسون واليوت التي أزاحت الحكم الروماني الذي دام لما يزيد عن أربع (4) قرون، ولم تترك هذه المرحلة بصمات واضحة على القانون الانجليزي
أولا: مظاهر التنظيم القانوني: استقرت قبائل الإنجلر والسكسون واليوت في انجلترا واعتنقوا الديانة المسيحية على أيدي القديس أوغستين"، وأصدروا قوانين تنظم علاقاتهم الاجتماعية، وما عدا هذا الجانب بقيت حياتهم تحكمها الأعراف المحلية، وتنظر في منازعاتها محاكم تسمى محاكم المناطق.
ثانيا: مظاهر التنظيم القضائي: المحاكم التي أنشئت في : تلك الفترة لم تكن تعرف وسائل التحقيق حددها القانون الروماني (التحقيق والاستجواب الشامل بواسطة هيئة من القضاة)، كما أن
وسائل الإثبات كانت بدائية وقاسية تختارها القبيلة لمعرفة ما إذا كان المتهم بريئا أو مذنبا من بينها المحنة واليمين والمبارزة.
موازاة مع محاكم المناطق أنشئت محاكم كنسية تفصل في منازعات الزواج والنسب والوصية، وأخرى تجارية تنظر في المنازعات التجارية، وثالثة مدنية تفصل في النزاعات بين الجيران.
الفرع الثاني: مرحلة نشأة النظام القانوني الانجليزي
تضم
هذه المرحلة بدرها ثلاث مراحل وهي الكومن لو والعدالة والعصر الحديث. أولا: مرحلة تكوين الكومن لو (Common Law): تبدأ من الغزو النورماندي بقيادة الأمير "ويليام" الذي أنهى الوجود الأنجلوسكسوني، وأسس نظام الإقطاع، ونقل تجارب الحكم النورماندي
إلى انجلترا.
وضع الملك سنة 1086 كتاب "اليوم الآخر" سطر فيه مجالات الحكم أهمها الرقابة السياسية والإدارية والضريبية
أما في المجال القضائي، كانت هناك محاكم ذات ولاية عامة وهي محاكم المناطق ومحاكم الإقطاع تفصل في المنازعات استنادا إلى الأعراف المحلية وتستند إلى أسلوب المحنة، وظهرت محاكم أخرى استثنائية انبثقت عن مجلس خاص أسسه الملك يضم أقرب وأهم الشخصيات، وهي المحاكم الملكية المتمثلة في ثلاث أنواع هي: المحاكم المدنية المختصة بالفصل في المنازعات العقارية، والمحاكم المالية المختصة بمنازعات الضرائب والديون المستحقة للتاج (الخزينة)، والمحاكم الجزائية المختصة بالنظر في كل ما ينظر فيه المجلس الخاص للملك، ويرأس جلساتها الملك شخصيا، وقد اعتبرت هذه المحاكم محاكم استثنائية بحكم أن اختصاصاتها محددة بدقة.
أدىب بهمإ إن رغبة الملوك في تأسيس نظام قضائي موحد يحل محل مختلف أنواع المحاكم، إلى توسيع صلاحيات المحاكم الملكية التي يحكم فيها الملك بضميره دون مراعاة الأعراف المحلية، وكانت المحاكم الملكية تفصل في المنازعات في مختلف مناطق انجلترا، وبداية من القرن الثالث عشر (13) استقرت المحاكم الملكية في لندن في حي وستمنيسر " ، وأصبحت تفصل في جميع
المنازعات مهما كانت طبيعتها، سواء مست بمصالح الأفراد أو مصالح الدولة، وتقررت من
مجموع أحكامها قواعد عامة وشاملة عرفت باسم "الكومن لو" ،
إن الاختصاص الشامل للمحاكم الملكية قد أدى إلى عزوف المواطنين عن محاكم الإقطاع وبالتالي تقليص نفوذ الإقطاعيين وانتقاص مواردهم مما أدى بهم إلى الاحتجاج لدى الملك هنري الثالث، هذا الأخير ومن أجل تجنب غضبهم عمد إلى إصدار مرسوم وستمينيستر الأول سنة 1253 يتضمن توجيه أمر إلى المستشار بالتوقف عن إصدار أي أمر إلا بمقتضى قرار صادر مجلسه الخاص.
عن
الملك في
أوامر
وفي سنة 1285 أقدم الملك ادوارد الأول على إجراء تسبب في جمود قواعد الكومن لو وعدم مسايرتها للتطور، حيث أصدر مرسوم وستمينيستر الثاني رخص فيه للمستشار أن : يصدر في القضايا إذا كانت شبيهة بقضايا سبق صدور أوامر فيها قبل تاريخ هذا المرسوم. ثانيا : مرحلة العدالة مع التطورات الحاصلة في انجلترا جمدت قواعد الكومن لو في حدود القضايا التي سبق أن قضت فيها المحاكم الملكية، ولم تفلح قواعده في مسايرة القضايا المستجدة، وبالتالي ضياع الحقوق، وهو ما دفع بالمواطنين إلى اللجوء للملك يلتمسون العدل، فأخذ الملك يقبل الالتماسات ويحكم فيها بالعدالة المنطلقة دون التقيد بأحكام القانون.
بعد حرب الوردتين التي انتهت سنة 1485 بتولي أسرة التيودور Tudor الحكم لم تعد الظروف تسمح للملك بالنظر في القضايا فأصبح يحيلها إلى مستشاره الذي يحكم باسم العدالة، فنشأت قواعد العدالة التي سدت الثغرات التي عرفتها قواعد الكومن لو.
وتتمثل أهم الفروق بين قواعد العدالة وقواعد الكومن لو في ما يلي:
1 من حيث التعريف : قواعد العدالة هي القواعد التي أقرتها محكمة المستشار منذ 1485 وطبقتها لسد ثغرات الكومن لو ، أما قواعد الكومن لو فهي المنهج القانوني الذي تكون في انجلترا منذ الغزو النورماندي سنة 1066 والمنبثق عن أحكام المحاكم الملكية.
وهذا هو سبب عدم تقسيم القانون الانجليزي إلى عام وخاص، وإنما يوجد قانون واحد يسري على جميع القضايا هو الكومن لو .
2 من حيث الإجراءات قواعد العدالة إجراءاتها ذات طابع كتابي تحقيقي مع غياب هيئة المحلفين، أما قواعد الكومن لو فإجراء اتها ذات طابع شفوي وجاهي مع حضور هيئة المحلفين.
3 من حيث مضمون الحكم: قواعد العدالة تأمر بالتنفيذ العيني على خاسر الدعوى في حين تكتفي قواعد الكومن لو بالحكم بالتعويض فقط.
4 من حيث المصطلحات قواعد العدالة تستخدم مصطلحات شكوى"، "مصلحة"، "أمر"، في حين يقابلها في قواعد الكومن لو على التوالي مصطلحات "دعوى"، "حق"، "حكم".
ثالثا: مرحلة العصر الحديث ظهرت بوادر تغيير النظام القانوني الانجليزي على المستويين القضائي والتشريعي بسبب دخول بريطانيا السوق الأوربية المشتركة، وتأثر انجلترا بالأفكار الديمقراطية، وصعوبة معرفة الجهة المختصة بين الكومن لو والعدالة.
1 مظاهر التغيير على المستوى القضائي منذ سنة 1873 صدر قانون التنظيم القضائي في انجلترا الذي ألغى التمييز بين المحاكم الملكية، ومحكمة العدالة (المستشار)، وأصبح للمتقاضين حق الاختيار بينهما ، كما تم تعديل صلاحيات الهيئات القضائية المحلية، وتبسيط القواعد الإجرائية وتم إنشاء هيئة النيابة العامة بموجب تعديل 1985.
2 مظاهر التغيير على المستوى التشريعي تم استبعاد القواعد التي لا تلائم العصر، وتم جمع الأحكام القضائية في مجلد واحد اقترب من التقنين، ومع نهاية القرن التاسع عشر (19) اقتنع
الانجليز بأن عصرنة المجتمع وتحسين القانون لا يمكن أن يتم إلا عن طريق التشريع.
في النصف الثاني من القرن العشرين (20) تم إنشاء لجان قانونية دائمة وظيفتها تحديث القانون وتحضير عملية التقنين، فصوت البرلمان على العديد من القوانين التي تضمنت حلولا في بعض المجالات كالعمل والصحة.
تضاعف عدد التشريعات المكتوبة في انجلترا، وأصبح للتشريع دور مهم في القانون الانجليزي، وأصبح القاضي الانجليزي يراقب أعمال الإدارة ويقدر مدى تحقيقها للمصلحة العامة، وحكم بإمكانية توجيه أوامر إليها، بل وامتدت رقابته للسلطة التقديرية للإدارة خاصة في مجال الأمن الوطني.
المطلب الثاني: مصادر القانون الانجليزي
وتتمثل في القضاء والتشريع والعرف يتم تفصيلها على النحو التالي:
الفرع الأول: القضاء
إن دراسة القضاء كمصدر أول من مصادر القانون الانجليزي يقتضي البحث في القضائي وكذا الأحكام القضائية
التنظيم
أولا: التنظيم القضائي: يقوم التنظيم القضائي في انجلترا على هيئات قضائية عليا وهيئات قضائية دنيا، يتم التطرق إليها على النحو التالي:
1 الهيئات القضائية العليا تتمثل في:
المحكمة العليا للعدالة تختص بالنظر في الطعون المرفوعة ضد أحكام الدرجتين الأولى والثانية.
محكمة
التاج أنشئت بموجب تعديل 1971 تختص بالنظر في القضايا الجزائية.
محكمة الاستئناف : تحتوي على قسم مدني يختص بالطعون ضد أحكام الدرجة الأولى، وأحكام المحكمة العليا للعدالة، وقسم جزائي يختص بالنظر في الطعون المرفوعة ضد أحكام محكمة التاج. غرفة اللوردات كان لها اختصاص تشريعي وآخر قضائي، وبعد تعديل 2005 تغير اسمها إلى المحكمة العليا للمملكة المتحدة، وجعل اختصاصها قضائي فقط حيث تنظر في الاستئنافات المرفوعة ضد محكمة الاستئناف، وكذا أحكام المحكمة العليا للعدالة التي لا تمر على محكمة الاستئناف إذا كانت قضية متميزة.
2 الهيئات القضائية الدنيا وتتمثل في:
محاكم المناطق التي تنظر في المسائل المدنية.
محاكم القضاة ومحاكم التاج التي تنظر في المسائل الجزائية تبعا لخطورة الجريمة، ويمكن لمحكمة التاج أن تنظر في الطعون المرفوعة ضد أحكام محكمة القضاة.
رغم عدم وجود قضاء إداري في النظام القانوني الانجليزي إلا أنه بدأ يعرف نوع من التقارب
مع النظام الفرنسي حيث تم إنشاء هيئات قضائية سنة 2000 تختص في المسائل ذات الطابع
الإداري.
ثانيا: الأحكام القضائية القاضي لا تقتصر مهمته على تطبيق القانون بل هو من يقوم بوضع القاعدة القانونية، ويلزم بإتباع القواعد التي سبق للقضاء أن قررها في القضايا المعروضة عليه سابقا، وتسمى السوابق القضائية.
وهكذا فان أحكام مجلس اللوردات، وأحكام محكمة الاستئناف ملزمة لجميع أنواع المحاكم، أما أحكام المحكمة العليا للعدالة فلا تعتبر ملزمة للمحاكم الدنيا إلا أنها تحظى بالتقدير وغالبا ما
يؤخذ بها .
الحكم القضائي في انجلترا يتكون من منطوق فقط، عكس الحكم القضائي في النظام اللاتيني الذي يحتوي على أسباب وحكم، فالقاضي الانجليزي غير ملزم بتسبيب حكمه، غير أنه جرت العادة ان
يقوم القاضي بتفصيل الحكم وبيان السبب الذي استند إليه وهو ما يسمى "حكمة القرار ".
الفرع الثاني: التشريع
يسمى القانون المدون تمييزا له عن الكومن لو ، ويسمى أيضا القانون البرلماني تمييزا له عن القانون القضائي ، ويعتبر التشريع مصدرا ثانويا حسب ) النظرية الكلاسيكية، غير أن النظرية الحديثة اعترفت بالطابع التشريعي للقانون الانجليزي نظرا للدور الذي بات يؤديه في مجالات مختلفة خاصة المجال الاقتصادي والاجتماعي.
الفرع الثالث : العرف
لعب دورا مهما في بداية تشكل القانون الانجليزي لكن مكانته تراجعت ولم يعد له إلا دور ثانوي، ورغم أن العديد من قواعد الكومن لو مصدرها الأعراف المحلية، فلم يعد العرف سوى مصدر احتياطي لا يعتمد عليه إلا في بعض المعاملات التجارية وحين يكون محققا للعدل.
المطلب الثالث: تقسيمات القانون وخصائص القاعدة القانونية
ينقسم القانون في النظام القانوني الانجليزي إلى كومن لو وعدالة ولا يعترف بتقسيمه إلى عام وخاص ، فرجل القانون الانجليزي يبحث في مواضيع عامة بعيدة عن التخصص الذي يعرفه رجل القانون اللاتيني، كما أن القاعدة القانونية في النظام الأنجلوسكسوني تخلو من تقسيمها إلى قواعد آمرة وقواعد مكملة.
وتتميز القاعدة القانونية في النظام الأنجلوسكسوني بكونها أقل عمومية وتجريد منها في النظام اللاتيني لأنها تنشأ ،
بموجب حكم قضائي بين طرفين ثم تتحول إلى سابقة قضائية.
المبحث الثاني: النظام القانوني الروماني الجرماني
يضم هذا النظام القانوني مجموعتين أساسيتين من القوانين أولهما المجموعة اللاتينية والمتمثلة في النظام القانوني الفرنسي وقوانين البلاد المستمدة منه، وثانيهما المجموعة الجرمانية والمتمثلة في النظام القانوني الألماني وقوانين البلاد الجرمانية المستمدة منه، على أن التمييز بين النظامين لا يعني التعارض بينهما فكلاهما يقوم على أساس واحد من المبادئ العامة والقواعد
الكلية.
المطلب الأول: نشأة النظام الروماني الجرماني وانتشاره
الفرع الأول: نشأة النظام الروماني الجرماني
تعود جذوره إلى القانون الروماني القديم الذي نشأ وطبق في مدينة روما في القرن السابع (7) قبل الميلاد، وحتى تقنينه في مجموعة جوستنيان في القرن السادس (6) ميلادي، ومن الأعراف الجرمانية التي سادت الإمبراطورية الرومانية منذ القرن الخامس (5) ميلادي.
نشأ هذا النظام القانوني في بظهور النهضة الأوربية التي دعت إلى إحياء القانون الروماني وتدريسه في الجامعات الأوربية
أوربا وبدأت عناصره تتكون منذ القرن الثاني عشر (12) ميلادي
ولم يكن الهدف من تدريسه في البداية يرمي إلى تطبيقه وإنما إحيائه فقط وتوحيد القواعد القانونية ومصطلحاتها من أجل بناء منهج مشترك.
إمتزجت قواعد النظام الروماني الجرماني من الفلسفة اليونانية والقانونين الكنسي والطبيعي وتكون منها منهج موحد، وقد أدى تدريسه في الجامعات إلى اعتباره الصورة المثلى لتنظيم المجتمع، فاستقرت مفاهيمه واخذ يحول الأعراف والعادات إلى قواعد قانونية مرنة وقابلة للتطور، ومع ظهور حركت التقنين في أوربا في القرن التاسع عشر (19) اكتملت عناصر المنهج الروماني الجرماني. الفرع الثاني: انتشار النظام القانوني الروماني الجرماني
انتشر في أوربا بصدور التقنين المدني الفرنسي سنة 1804 ، حيث تبنته العديد من الدول مثل بلجيكا ولوكسمبورغ وايطاليا واسبانيا ... الخ ، وبظهور القانون الألماني سنة 1896 جددت دول أخرى قوانينها بالاقتباس منه على غرار النمسا والمجر.
انتشر المنهج أكثر عن طريق الاستعمار في إفريقيا وأمريكا واسيا حيث سادت قوانينه في البلاد المستعمرة، كما أن تدوين هذه القوانين قد ساهم في انتشار المنهج واقتباسه في دول أخرى.
المطلب الثاني: بنية النظام القانوني الروماني الجرماني
الفرع الأول: تقسيمات القانون
ينقسم القانون في النظام الروماني الجرماني إلى قانون عام وقانون خاص، وهو التقسيم الذي
كان معروفا منذ القانون الروماني القديم، غير أن القانون الخاص هو الذي ظل مهيمنا في أوربا لزمن طويل، غير أنه وبسبب اتهام القضاة في حيادهم لما تكون الإدارة طرفا في النزاع أصبح القاضي يراعي ضرورة التوفيق بينهما، وتدريجيا نشأت قواعد القانون العام التي تخضع بموجبها
الدولة للقانون.
مكملة.
كما يتميز النظام القانوني الروماني الجرماني بتقسيم القواعد القانونية إلى قواعد آمرة وأخرى
الفرع الثاني: مصادر القانون الروماني الجرماني
وتتمثل في التشريع والعرف والقضاء والفقه، نبينهم على النحو التالي:
أولا: التشريع ويقصد به القواعد المكتوبة سواء كانت دساتير مصدرها السلطة التأسيسية (التشريع الأساسي)، أو قوانين مصدرها السلطة التشريعية التشريع العادي أو تنظيمات ولوائح مصدرها السلطة التنفيذية (التشريع الفرعي).
ثانيا : العرف ويتنوع إلى نوعين، عرف مساعد يساعد المشرع في عملية وضع التشريع، وعرف مكمل لسد نقص التشريع، وقد اختلفت أهميته باختلاف نظرة المدارس الفقهية، حيث ترى المدرسة الاجتماعية انه يقوم بدور أساسي في تشكيل القانون، في حين ذهبت المدرسة الوضعية إلى التقليل من أهمية العرف بعد ظهور حركة التقنين.
ثالثا : القضاء : اختلف الفقهاء في اعتباره مصدرا للنظام القانوني الروماني الجرماني، فراى الاتجاه الأول أن دور القاضي لا يقتصر على تطبيق القانون ويمتد للاجتهاد، أما الاتجاه الثاني فرأى أن دور القاضي يقتصر على تطبيق القانون وانه حين يفسر القواعد الغامضة إنما يكشف عنها من
التشريع.
يقوم النظام القانوني الروماني الجرماني على ازدواجية القضاء التي ظهرت في فرنسا منذ سنة 1873 حين بدا مجلس الدولة الفرنسي يفصل في القضايا التي تكون الإدارة كطرف فيها، وهكذا فان التنظيم القضائي في هذا النظام يقوم على الازدواجية، قضاء عادي، وقضاء إداري
رابعا : الفقه كان له دور هام في تطوير القانون واستخلاص مبادئ عامة يهتدي بها المشرع عند تعديل القانون، بيد انه وبعد ظهور حركة التدوين تراجعت قيمته ولم يعد سوى مصدر تفسيري.
الفرع الثالث: خصائص القانون
إلى جانب خصائص القاعدة القانونية المتمثلة في كونها خطاب موجه إلى الأشخاص، وكونها ملزمة واجتماعية تتميز القاعدة القانونية بكونها عامة ومجردة وذلك عكس النظام الأنجلوسكسوني، وقد اكتسبت هذه الصفة بفضل جهود الفقهاء الذين كانوا يضعون أحكام يتم تطبيقها على الوقائع المفترضة، فإذا لم يوجد حكم القانون تكون السلطة التقديرية للقاضي.
المطلب الثاني: المدرسة الواقعية
تنظر المدرسة الواقعية إلى القانون بأنه علم اجتماع ،واقعي، يقوم على أفكار واقعية قابلة للملاحظة والتجريب، فهي لا تؤمن إلا بالواقع الملموس الذي تسجله المشاهدة وتؤيده التجربة، وقد تفرعت هذه المدرسة إلى ثلاث مذاهب هي المذهب التاريخي، ومذهب الغاية الاجتماعية، ومذهب التضامن الاجتماعي.
الفرع الأول: المذهب التاريخي
كتابة
ظهرت بوادر هذا المذهب في القرن الثامن عشر في فرنسا، إذ أظهر بعض الفقهاء والفلاسفة أثر البيئة والظروف المحيطة بها في اختلاف القوانين، ورأوا أن القوانين يجب أن تتناسب وطبيعة البلاد التي تصدر فيها، ومن أهم الفلاسفة الذين ربطوا القانون بالبيئة الفقيه مونتسكيو في : روح القوانين (الشرائع) سنة 1748 ، والفقيه بورتاليس أحد واضعي التقنين المدني الفرنسي في القرن التاسع عشر (19) الذي رأى أن القانون يوجد ويتطور آليا مع تقدم الزمن دون تدخل الإرادة
الإنسانية.
لقد تبلورت هذه الأفكار في مذهب واضح المعالم على يد الفقيه الألماني سافيني سمي بمذهب التطور التاريخي، ومضمونه أن العبرة بالنسبة للقانون هي القواعد السائدة التي تسجلها المشاهدة وتعززها التجربة في مجتمع معين، وأن التجارب قد دلت أن القانون ليس واحدا ثابتا، ولكنه متغير في الزمان والمكان متأثرا في ذلك بعوامل البيئة المتعددة، ومسايرا لتطورها واختلافها مما يستبعد معه تثبيت نصوصه في تقنين يؤدي إلى جموده.
أولا: أسس المذهب التاريخي يقوم هذا المذهب على الأسس التالية:
1 إنكار وجود القانون الطبيعي: فالقانون من صنع الزمن ونتاج التطور التاريخي وليس من وحي مثل عليا.
2 القانون وليد حاجة الجماعة : فهو وليد البيئة الاجتماعية وحدها، ويتطور حسب ظروف كل مجتمع، ويختلف من دولة لأخرى، بل ويتغير في الدولة نفسها من جيل إلى جيل حسب تغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي فالقانون ثمرة التطور التاريخي للجماعة.
3 القانون يتكون ويتطور آليا أي أنه ينبعث من جهد جماعي مشترك تسهم فيه الأجيال المتعاقبة في دولة معينة وبهذا يعتبر العرف هو الشكل الأكمل والأمثل والأصدق للقانون، والحاصل أن القانون يخلق نفسه وأن دور المشرع يقتصر على مجرد تسجيل الضمير الجماعي
وتطوره على مر الزمن، ومن مخاطر التقنين وقف التطور التلقائي للقانون.
ثانيا: نقد المذهب التاريخي: تتمثل أهم الانتقادات الموجهة للمذهب التاريخي في ما يلي:
- أنه بالغ في ربط القانون بالجماعة، وأنكر دور العقل الإنساني وقدرته في تكوين القانون. - أنه بالغ في اعتبار القانون وليد البيئة والظروف الخاصة بكل مجتمع في حين نجد أن كثيرا من الدول قد اقتبست معظم قوانينها كلها أو جزء منها من قوانين دول أخرى.
- أنه يعتبر العرف الشكل الأمثل الذي يصدر به القانون، وأغفل دور التشريع.
- أنه اعتبر أن التقنين يؤدي إلى تجميد القانون وعدم مسايرته للتطور، وهذا قول لا يقوم على أساس صحيح، فقد ثبت تاريخيا أن المشرع لا يتردد في تعديل التقنين كلما دعت مصلحة المجتمع إلى ذلك، كما أن التقنين يوفر للمشتغلين بالقانون الوقت والجهد الكثير ، ويؤدي إلى توحيد القانون مختلف أجزاء الدولة على غرار ما حدث في فرنسا.
في
الفرع الثاني: مذهب الغاية الاجتماعية
أسس على يد الفقيه الألماني إهرنج الذي يرى أن القانون وسيلة تتخذها الإرادة الإنسانية لتحقيق غاية اجتماعية هي حفظ المجتمع وتحقيق أمنه وتقدمه.
إن تطور القانون حسب إهرنج لا يتم في يسر وسلم بل أن التاريخ حافل بالصراع بين الطبقات المختلفة وبين المصالح المتعارضة في إبقاء القوانين أو في تعديلها بما يخدم هذه المصالح، فتطور القانون مرهون بنتيجة هذا الصراع، وهكذا كان للفقيه إهرنج الفضل في التنبيه إلى أخطاء التاريخ في نظرته إلى تكوين القانون وتطوره، غير أنه انتقد من جانب أن الإرادة الإنسانية ليست الأساس الوحيد الذي يقوم عليه القانون فين نشأته وتطوره.
الفرع الثالث: مذهب التضامن الاجتماعي
يقوم مذهب التضامن الاجتماعي الذي أسسه ديجي على الحقائق الواقعية التي تستند على المشاهدة والتجربة، فالقاعدة القانونية ليست تلك القاعدة التي تكفل الدولة قيامها واحترامها كما تذهب إليه المذاهب الشكلية، وليست تلك القاعدة التي توضع وفقا لمثل أعلى كما تذهب إليه المدرسة المثالية، بل هي القاعدة التي يشعر جمهور الأفراد المكونين للجماعة أنها ضرورية لصيانة التضامن الاجتماعي، ومن العدل تسخير قوة الإجبار في الجماعة لكفالة احترامها .
أولا: أسس مذهب التضامن الاجتماعي : يقوم على الأسس التالية:
1 الإنسان كائن اجتماعي لا يمكن أن يعيش إلا في مجتمع: ذلك أن الأفراد في المجتمع تربطهم رابطة تضامن، حيث أن لهم حاجات مشتركة لا يمكن تحقيقها إلا بالحياة
المشتركة.
2 التضامن بالاشتراك أو التشابه الأفراد مرتبطون بنوع من التضامن هو التضامن بالاشتراك او التشابه في نفس االحاجات ونظرا لان مقدرة الأفراد وكفاءاتهم مختلفة فهم مرغمون على تبادل الخدمات في نوع من التضامن بتقسيم العمل.
يرى ديجي
أنه ومن خلال هذه الحقائق الواقعية المتسلسلة تولد فكرة الأصل الاجتماعي للقاعدة القانونية الذي يوجب الامتناع على ما يضر بالتضامن الاجتماعي، كما أن القاعدة القانونية الاجتماعية قد تكون قاعدة اقتصادية حينما تتصل بنشاط اقتصادي على غرار التداول واستهلاك الثروات، وقد تكون قاعدة أخلاقية تضع قواعد للآداب والتصرف في الحياة الاجتماعية، وقد يكون الجزاء على مخالفتها الإجبار الاجتماعي عن طريق استخدام القوة العمومية التي تحتكرها الدولة لكفالة احترامها .
إن الجزاء الذي تتولى الدولة توقيعه عند مخالفة هذه القواعد ليس هو الذي يجعل منها قواعد قانونية ، فالقوة ليست أساسا للقانون، والقانون ليس من صنع الدولة، بل هو وليد المجتمع، حيث أن القاعدة الاجتماعية تصبح قاعدة قانونية عندما يدرك الأفراد المكونين للجماعة أن احترامها
ضروري لحفظ التضامن الاجتماعي، يضاف إليه أساس آخر يتمثل في الشعور القائم عند الأفراد
بما هو عدل ، وبما هو ليس عدل، وليس فكرة العدل في حد ذاتها.
ثانيا : نقد مذهب التضامن الاجتماعي:
- أنه يتجاوز حدود الواقع التجريبي إلى ما وراء المحسوس فيدخل ديجي في نـ تناقض مع نفسه ومع منهجه العلمي، فالقاعدة القانونية عنده تقوم على أساس الشعور بالتضامن بين الأفراد، وتركم حقيقة التنافس والتنازع بين هؤلاء الأفراد ، وبذلك قصد ديجي التضامن في الخير والعدل كأساس للقانون ومثل هذا التضامن لا يقوم إلا على مبدأ أو مثل أعلى يستخلصه العقل ، وهذا تعارض واضح في
منهجه العلمي.
- إذا كان منهج ديجي صالح لدراسة الظواهر الطبيعية التي تخضع لقانون السببية، فهو لا يصلح في شأن الظواهر الإدارية التي تخضع لقانون الغاية، فهي تتجه لتحقيق غاية معينة، وانه لا بد من تدخل الإرادة لتحقيق هذه الغاية حيث لا يمكن تصور تخلف الإرادة عن تحقيق الغاية المرسومة والغاية إنما يتصورها العقل خارج دائرة المشاهدة والتجربة، ويفرضها كمثل أعلى لا يقبل النقاش.
- إن العدل كأساس للقانون والذي يختلف مفهومه عند ديجي عن فكرة العدل ذاتها كفكرة مثالية مجردة، والذي جعل منه أساسا للقانون يتحقق وجوده بمجرد شعور شخصي لدى الأفراد في المجتمع، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تحكيم الأهواء الشخصية والنزاعات الفردية في حين أن القانون يجب أن يستند على الحقائق الموضوعية حتى لا يؤدي إلى الفوضى.
أيا كانت أخطاء مذهب التضامن الاجتماعي، إلا أنه يبقى له الفضل في زعزعة الاعتقاد الذي كان سائدا بأن القانون هو مجرد عمل عقلي، بل سلط الأضواء على الحقائق الواقعية المستمدة من الحياة الاجتماعية وأثرها في تكوين القانون، إذ لا يعقل إغفال هذه الحقائق في تأسيس القانون وتأصيله.
التعليقات على الموضوع