تلخيص الفصل الثالث "تجربةُ الحياةِ والموت" من (ظاهرة الشعر الحديث)

تأثر الشاعر الحديث بواقع الهزيمة الأسود وبالأحداث التي تلتهُ ، فتأرجحَ إحساسه بين إيقاع اليأس الذي ولّد تجربة الغربة وإيقاع الأمل الذي أثمر تجربة الحياة والموت، وفي ظلّ الهزات العنيفة التي عاشها العالم العربيّ في فترة الخمسينات وتأرجُح الواقع بين اللحظات المشرقة (تأميم القناة، مشروع الوحدة بين مصر وسوريا، ثورة العراق..) واللحظاتِ المظلمة ( الاستعمار، العدوان الثلاثي..) تراوحت تجربة الشاعر الحديث بين إيقاع اليأس وإيقاع الأمل. وهكذا كانت تجربة الغربة التي أفرزها اليأس مشدودة إلى الواقع فيما ارتبطت تجربة الموت بمعاناة الواقع واستشراف المستقبل.
وكان الشاعر الحديث في ظل هذا الواقع وهو يعاين موتَ الحضارة العربية يفكّر في بعثها ويؤمن بولادتها من جديد، وللتعبير عن إمكانية هذا البعث والتجدد استعان بالأساطير المعبرة عن الموت والحياة كأسطورة تموز وعشتار، وأسطورة أورفيوس، وأسطورة الفينيق ، وأسطورة العنقاء... وأثمر اعتماد هذه الأساطير منهجا أسطوريا اختلف من شاعر لآخر، فصار الشاعر يحدّث الناس عن إمكانية انبثاق الأمل من أنقاض اليأس، وعلى انتصار الحياة على الموت. وكانت لكل شاعر طريقته ومنهجه الأسطوري النابع من رؤيته ورُؤياهُ للواقع.
أدونيس: التحول عبر الحياة والموت:
يصدُر أدونيس في تعبيره عن تجربة الحياة والموت عن ذاتٍ ممتلئة بفحولة التاريخ العربيّ وجموح الحضارة العربية، وهو ما جعله يتّخذ موقفا من الواقع شبيها بموقف المسيح من جُثّة "لَعَازَرْ" التي أحياها، وتسير معاني الموت عند أدونيس في اتجاهين:
1-اتجاه الحيرة والتساؤل عن كيفية البعث والولادة:
من أين كيف أوقظ النيام؟
والبحث عن وسيلة للبعث:
أبحث في مملكة الرماد
عن وجهك المدفون يا بلادي
2-اتجاهُ التحوّل: ومعناه تجدّد الواقع بموتِ وجودٍ قائم ليحلّ محلّه وجود آخر، حيث تصير التضحية سبيلا لبعث الأمة:
نبتت زهرة على الضفة الأخرى
بموتي، صرتُ المدى والمدارا
ويتّضحُ التّحول من الموتِ إلى الحياةِ في قصيدة "تيمور ومهيار"، حيث يحاول تيمور رمز الظلم والموت والاستعباد قتل مهيار رمز الشعب والحياة والحرية، ويستخدم في ذلك طرقا عدّة: يسجنه، يحرقه، يمسخه، يقطّعه إلى أجزاء، لكنه في كل مرّة ينبعث مؤكّدا مقاومة الموت والإيمان بالبعث، ويستثمر في هذه القصيدة أسطورة العنقاء التي تموت فليتهب رمادها لتحيا من جديد. ومهيار في القصيدة يرمز لإرادة الحياة لدى الأمة التي لا يمكن أن يقهرها الموت,
خليل حاوي: معاناة الحياة والموت
يرفض خليل حاوي مبدأ التحول ويقيم مكانه مبدأ المعاناة الذي يهيمن على مقدمات قصائده، ويتأرجح بين معاناة الخراب، ومعاناة الدمار، ومعاناة العقم والبعث.
وقد هيمنت معاناة الموت في ديوان "نهر الرماد"، حيث تسرب اليأس من البعث، وفشلت علاقة الشاعر بالمرأة، مما جعل معاناة التحول تحضر في قصيدة "بعد الجليد" حيث وظّف أسطورة تموز ليعبر عن الحلم بالبعث، وتجري القصيدة في دورتين : في الأولى يهيمن الموت، وفي الثانية تهيمن الرغبة في البعث والحياة، فيلجأ إلى تموز متضرعا:
يا إله الخصب يا بعْلا يفُضّ التربة العاقِر
يا شمس الحصيد
نجِّنا، نَجِّ عروق الأرض من عُقم دَهاها ودهانا
ويتحقق البعث في قصيدة "الجسر" بعد مخاض عسير:
صرخة تقطيع أرحام
وتمزيق عروق
لكن الأمل في الحياة والإيمان بالبعث يتحولّ في ديوان "بيادر الجوع" إلى يأس عارم يظهر بوضوح في قصيدة لَعَازَر.
وهكذا يمكن القول أنّ تجربة الموت والحياة عند خليل حاوي مرّت من ثلاث فترات:
1-فترة مشرقة مثّلها ديوان )نهر الرماد) تراوحت بين 1953م و1956م.
2-فترة مشرقة مثّلها ديوان ( الناي والريح) هيمن فيها الإيمان بالبعث وامتدت من 1956م و1958م، حيث كان الأمل في الوحدة بين مصر وسوريا حاضرا.
3-فترة اليأس مثّلها ديوان (بيادر الجوع) وكانت نتيجة انفراط عقد الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1962 وتلاها انتحار الشاعر.
السّياب: طبيعة الفداء في الموت
يأخذ الموت عند السّياب طبيعة الفداء، ويعتقد أنّ لا خلاص إلا عبر الموت أي بتقديم مزيد من الضحايا والأموات، وهنا يغدو الموت انتصارا :
أودّ لو غرقت في دمي إلى القرار
وأبعث الحياة ، إن موتي انتصار
كما يصير الموت في قصيدة (قافلة الضياع) شرطا للبعث ومحققا له:
من يدفن الموتى ليولد تحت صخرة كل شاهدة وليد
وقد نجح السياب في إعطاء الموت معنى الفداء وتحديدا في قصيدة "المسيح بعد الصلب"، حيث يوحّد بين بعث المسيح المصلوب وبين بعث الأمة العربية(جيكور):
حينما يزهر البرتقال
حين تمتد جيكور،حتى حدود الخيال
يلمس الدفء قلبي، فيجري دمي في ثراها
ويتحقق البعث العظيم عبر مخاض المدينة ، فيُصبح المسيح فاديا ومفتدى. وهكذا استفاد السياب من الإطار الأسطوري لقصة المسيح ليحول الموت إلى فداء، ناجحا في الربط بين واقعه الذاتي النفسي وواقع الأمة الحضاري.
عبد الوهاب البياتي: جدلية الأمل واليأس:
تميّز البيّاتي بقدرته على كشف طبيعة الانهيار والسقوط التي انتهى إليها الواقع العربي، وفي نفس الوقت شاعت لديه النزعة المتفائلة، وهكذا تأرجحت تجربة الموت والحياة عنده بين ثلاث منحيات:
1-منحنى الأمل في البعث: وفيه انتصار ساحق للحياة على الموت، حيث يقود الموت إلى الحياة:
جثّتي في شاكئ النهر رماد
نبتت من فوقها زهرة نار
2-منحنى الانتظار: تكافؤ كفتي الموت والحياة، حيث يُؤجّلُ انبعاث بابل إلى أجل غير مسمى:
لو جُمعت أجزاء هي الصورة الممزقة
إذن، لقامت بابل المحترقة
تنفض عن أسمالها الرماد
3-منحنى الشك: ينتصر الموت على الحياة وينكشف الواقع الزائف واقع الدمار والانهيار والسقوط
وخلاصة القول؛ كان الصراع بين الموت والحياة في حقيقته صراعا بين الحرية والحب والتجدد وبين الحقد والاستعباد والنفي من المكان ومن التاريخ، وأكّدت تجربة الموت والحياة وعي الشاعر العربي العميقَ بواقع ما بعد النكبة وما قبلها، واستشراف المستقبل والإيمان بإمكانية بعث الحضارة من جديد والرغبة في التجدد والانتصار على كل التحديات.
إنجاز: سعيد بكور

ليست هناك تعليقات