التوبةُ بين الدينِ والسياسةِ

 التوبةُ .. بين الدينِ والسياسةِ



الجزء الأول : الصبغةُ الدينيةُ للتوبة .

لم تكن السياسةُ في الإسلامِ منفصلةً عن الدينِ ، ولا الدينُ منفصلٌ هو عن السياسةِ قطُ ، وإن انفصلا وتفرقا نتجَ عن ذلك بالضرورةِ الخللُ والخبلُ معًا ، إذ أن الإسلامَ دينٌ ودولةٌ بحيثُ ينتفي وجودَ أمةٍ تتصفُ بأنها أمةٌ إسلاميةٌ لو أنه صارَ دينًا وحسب ، أو صار دولةً دونَ دينٍ ، وفي كلتا الحالتين لا يمكن اعتبار جوهر الأمةِ الإسلاميةِ موجودًا ولكن الموجودَ فقط إنما هو اسمُها ، لأن دولة الإسلام إن هي زالت .. زال معها تبعًا لذلك معنى الإظهارِ على الدينِ كله الذي أراده اللهُ وتركه لنا نبيُّهُ وصحابتُه ، وإن بقي جوهرُ الدينِ نفسُه معتنقًا من بعضِ أفرادٍ متفرقينَ لا تجمعهم رابطةٌ ذات مرجعيةٍ دينيةٍ تربطهم ، وإنما الخبلُ والخللُ يأتيانِ حتمًا حيث أوكلنا اللهُ عندئذٍ لأنفسِنا ، فيحدثُ التخبُطُ والترنُحُ وتطفو ظاهرةُ " الفلاش باك " ، وتكونُ الأمةُ بذلك قد وقعت في ذنبٍ عظيمٍ لا تنجو منه إلَّا بتوبةٍ عظيمةٍ مثله ، ولقد وقعت الأمةُ بالفعلِ في ذلك الذنبِ كما تشيرُ إليه كلُ الدلائل : بأنَّ دولةً للإسلامِ ليس لها وجودٌ في عالَمِ اليومِ ، إذ أن من مظاهرِ وجودِها حمايةُ الدينِ وحمايةُ أداءِ شعائرِه بحريةٍ وفي أمنٍ وأمان ، وهو ما لم يتحقق بالانصياعِ لقوى الشرِ في تحريفِ الدينِ تحريفًا يخرجه عن جوهرِه وعن حقيقتِه إلى درجةِ " الشركِ " المحقق بطاعةِ الشيطانِ وحزبِه في غلقِ المساجدَ ، وفي الوقوفِ بين يدي اللهِ بمنهجِ الشيطانِ وليس بمنهجِ اللهِ حيث التباعدُ في الصلاةِ وارتداءُ الكمامةِ فيها ، مما ينفي عن الوقوفِ صفةُ التعبدِ بين يدي اللهِ ليكونَ وقوفًا وتعبدًا بين يدي الشيطان مهما كان انعقادُ النيةِ التي انعقدتْ للهِ عز وجل ، ولقد ضربنا آنفًا مثلًا في ذلك حيث لم تكن نيةُ بني إسرائيلَ منعقدةً على عبادةِ عجلٍ كبديلٍ عن اللهِ ، وإنما كانت نيةُ السفهاءِ منعقدةً على عبادةِ اللهِ حيث اقتنعوا بقولِ السامري أن ذلك العجلَ إنما هو اللهُ ، ولكن لم تكن لتنفعهم مجردُ النيةِ في ذلك ، وكذلك لم تكن تنفعُ أمتَنا نيتُها في الوقوفِ بين يدي اللهِ ، لأنها وقفت بين يديه في ظنها هي وليس في حقيقةِ الأمرِ ، حيث وقفت بين يدي الشيطانِ متبعةً إجراءاتٍه وشروطِه لأداءِ الصلاةِ بل ولدخولِ المسجدِ أصلًا ، وليس وفق الشريعةِ كشرطٍ لصحةِ العبادةِ كما قال الفقهاءُ مِن قبلُ .. إنَّ الشركَ الذي أوقعَ الشيطانُ فيه الأمةَ ، إنما يعني الهاويةَ ، وإنما يعني الضلالَ والانحرافَ عن الإسلامِ الحنيفِ ، مما يعني أيضًا أهميةَ التوبةِ وضرورتَها ، بل وحتميتَها كشرطٍ للعودةِ إلى حظيرةِ الإسلامِ والإيمانِ من جديدٍ وتفادي الموتَ على غيرِ فتنةٍ وعلى غيرِ إسلامٍ .

ولما كانت الفتنةُ قد جرت على يدي رجالِ السياسةِ في أنحاءِ الأمةِ وربوعِها وفقَ فكرهم الاستراتيجي الخاطئ بسندٍ من علماءِ الدينِ ، فإن التوبةَ اللازمةَ هي عن ذلك ، إنما تكونُ لها صبغةٌ سياسيةٌ لا مناصَ عنها لمن كان يريدُ اللهَ واليومَ الآخِرَ من حكامِ هذه الأمةِ وأنظمتِها بسندٍ أيضًا من رجالِ الدينِ ، وهي توبةُ التكفيرِ المعقدةُ التي لا مناصَ عنها أيضًا لسائرِ الأمةِ شعوبًا وحكامًا ، والتي لا يمكن أن تأتي سوى من قِبَلِ السلطانِ ولا شأنَ للفردِ المسلمِ في إنشائها ، وإنما يكونُ شأنه بها هو شأنُ المنفذِ لقراراتِ السلطانِ المتعلقةِ بعمليةِ التكفيرِ عن الوقوعِ في الفتنةِ ، إلى جانبِ عمليةِ دفعِ الحكامِ إلى إنشائِها لاحتياجِه الملح إليها .. بينما إنشاءُ التوبةِ البسيطةِ يكون من شأنِ الجميعِ حكامًا وشعوبًا باعتبارِ أنها التوبةُ الأوليةُ الدافعةُ هي إلى حدوثِ توبةِ التكفيرِ لأنها بكلِ بساطةٍ تمثلُ الندمَ بصدقٍ ، والحسرةَ على الوقوعِ في الفتنةِ بغلقِ المساجدَ ( بيوتِ اللهِ ) كاملةً في ربوعِ هذه الأمةِ ثم فتحها بصيغةٍ شيطانيةٍ واتباعِ الشيطانِ في ذلك ، ومَنْ لم يجد مِنَ المسلمينَ في هذا الأمرِ كارثةً عظيمةً تستحقُ الندمَ والتوبةَ ، فإنه يكونُ قد خرجَ عن الوعي الكاملِ لأمورِ دينِه ، ويكون قد خرجَ بالكليةِ من حظيرةِ الإيمانِ وانفصلَ انفصالًا تامًا عن ملكوتِ وحقيقةِ التعبدِ للهِ .

ولو أننا أخرنا التفصيلَ في شأنِ التوبةِ المعقدةِ ( توبة التكفيرِ ) إلى الجزءِ الثاني من هذا المقالِ لأهميتِها ، فإننا في هذا نشرحُ التوبةَ البسيطةَ التي لن تجزئ أبدًا عن توبةِ التكفيرِ بينما تجزئُ توبةُ التكفيرِ عنها في شقها العملي لا النفسي ، ولما كان ما أسفرتُ عنه الفتنةُ إنما هو نفيُ " اليقينِ " لدى المسلمينَ إلى الدرجةِ التي تساووا بها مع الكافرينَ في عدمِ وجودِه حتى أصبح داعيًا لخروجِ الدابةِ ، فإن كلتا التوبتينِ تلزمُ لاسترجاعِه .. والتوبةُ البسيطةُ هذه إنما هي توبةٌ ذات صبغةٍ دينيةٍ محضةٍ ولا شأن لها بالسياسةِ قط ، إذ أنها بعد الندم الشديد والصادقِ إلى درجةِ الخوفِ والفزعِ من مصيرٍ حتميٍ يوم القيامةِ وهذا هو شقها النفسي ، تُعدُ في شِقِها العملي أعمالًا إيمانيةً خالصةً يثبتُ بها اليقينُ لدى المسلمِ ليكون مسلمًا حقًا لا ادعاءً ، وإنما أسميناها توبةً بسيطةً لأنها في متناولِ القدرةِ النفسيةِ للمسلمِ ، ولأنها في متناولِ إرادتِه ليقومَ بها عندما يكونُ صادقًا مع نفسِه ومع اللهِ في أمرِ إيمانِه .

واليقينُ كي يكونَ له وجودٌ في قلبِ المسلمِ بعد توبةٍ بسيطةٍ ، يجب أن يكونَ راسخًا وثابتًا في وجدانِه وفي عقلِه بدقةٍ بالغةٍ ـ ينم عنها تصرفه وعمله وسلوكه ـ أن اللهَ واحدٌ لا شريك له ، ولا وسيطَ مطلقًا بينه وبين عبادِه ، مع ضرورةِ وجودِ هذا المعنى وهذا الفهمِ في منطقةِ شعورِك وفي سويداءِ قلبِك وفي يقينِك أيها المسلم ، يغدو معك كلما غدوتَ ، ومعك يجئُ كلما جئتَ ، أي في كلِ حركةٍ وسكنةٍ لك حتى الموت ، فيكونُ اللهُ معك ـ بصحيحِ توحيدِه وبما يترتبُ على التوحيدِ الصحيحِ من نتائجٍ وأثارٍ ـ في سيرِك ومشيك وفي كاملِ سلوكِكَ ، وأن يكونَ بخاطرِك حين تفكر ، وأن يكون معك في عملِك فتنشغلَ به ولا تنشغلَ عنه وإن كنتَ مستغرقًا في انشغالِك بعملِك فينشأ الإخلاصُ فيه .. أن يكونَ اللهُ معك في تعاملِكَ مع جيرانِك ورفاقِك .. معك وأنت تأكل وتشرب ، أن تعلمَ بأن الطعامَ الذي تأكله ليس من عملِ يدِك ولا من كسبِكَ إلَّا ظاهرًا ، ولا هو هبةً إليك من أحدٍ ، وإنما هو في الأساسِ وفي الحقيقةِ من رزقِ اللهِ لك ساقهُ إليك .. بل يجب أن تنامَ ولديك عقيدةٌ راسخةٌ ويقينٌ لا يتزعزع أن اللهَ وحده هو القادرُ أن يوقظك وليست الصدفةُ في مجرياتِ الأحداثِ اليوميةِ ولا هو صوتُ " المنبهِ " ، بل هو الذي إذا شاء أماتك وإذا شاء فإنه يحييك وينشرك من جديدٍ ، ناصيتك كلها بيديه .. ذلك هو الإيمانُ الحق ، وبذلك يكون اليقينُ ، وبهما يكونُ الإيمانُ الخالصُ لوجهِ اللهِ في مرادِ اللهِ تعالى .. إنها المعيةُ في ماهيةِ الإلهِ المعبودِ حتى تستطيع أن تسمي نفسك مسلمًا ، وحتى يغلب على ظنِكَ أنك حقًا مؤمنًا ، وحتى يتقبلك اللهُ عنده في عبادِهِ الصالحين .

من هنا يأتي دوْرُ العقلِ كمتلازمٍ هو للإيمانِ ، ليكونَ سلطانًا وحاكمًا في تلك المنطقةِ ( منطقة المعيةِ والتوحيدِ الخالصِ ) ، حتى لا ينزلق منك إيمانُك ويهوى بك إلى الخروجِ من حدائقِ الإسلامِ الغنَّاء ، لأنه بغيرِ العقلِ لن تستطيعَ أن تستيقظَ لدوْرِ الشيطانِ الذي جاء ليلعب بك في منطقةِ اليقينِ ، كما لعب بالأمةِ جميعًا في منطقةِ يقينِها بفتنةِ كورونا ، تلك الأمةُ التي انحدرتْ حيثُ أسفه جيلٍ في تاريخها ، كان عليها أن تعلمَ بأن اللهَ الذي هو يشفي عبده إذا هو مرِضَ لا تعجزهُ كمامةٌ يضعها المصلي على فيهِ وأنفِه وهو يقفُ بين يديه أن يُمرِضَهُ ، ولا يعجزُه التباعدُ بين المصلين كذلك مهما اتسعتْ مسافتُه ، ولا تعجزُه صلاتُه في بيتِه دون المسجدِ الذي أُغلقَ أن يصيبَهُ بما شاء إن هو شاء ، كما لا يعجزُه أن يسوقَ إليه الموتَ إن هو وضع نفسَه في بُروجٍ مشيَّدةٍ .. إنه الانفصالُ التامُ عن المعيةِ وعن اليقينِ الذي لا إيمانَ إلَّا به ، والذي هو أيضا موضوع التوبةِ بنوعيها إذ أن التوبةَ إنما هي توبةٌ عما أفقد الأمةَ مِنْ يقينٍ ، ولا تكونُ التوبةُ البسيطةُ تامةً إلَّا بحضورِ العقلِ في سائرِ عملِ المسلمِ ، لأنه بالعقلِ وحدهُ يستطيع أن يتبينَ المنفعةَ والضررَ في الفعلِ من منظورِ الحقِ المطلق  ، فلا يستغلَ منصبَهُ وهو مسئولٌ ، ولا يرتشي وهو يؤدي عملَهُ في وظيفتِه ، ولا يسرق مالَ غيرِه سرقةً مقنعةً ، ولا يكذب وهو يتحدث ، ولا يكونُ غير أمينًا وهو يبيعُ سلعتَهُ ، ولا يكونُ بالمجملِ مخطئًا إلَّا ما كان هفوةً أو كبوةً إتساقًا مع بشريتِه ، على ألَّا تغيبَ عنه في هفوتِه وفي كبوتِه معيةُ ربِّهِ فتكونُ الإفاقةُ عندئذٍ سريعةً وصادقةً ، وتلكمُ هي التقوى بحقٍ ، وتلكمُ هي التوبةُ البسيطةُ التي لا مناص عنها لزوالِ حالةِ الشركِ وغفرانِه ، والتي هي في جوهرِها ذات صبغةٍ دينيةٍ وإيمانيةٍ محضةٍ بالعيشِ في معيةِ الإلهِ المعبود .

ولما كانت فتنةُ الدجالِ تعملُ في الأمةِ منذُ مهدِها ، وأنَّ كلَ ما جدَّ من محدثاتٍ على المسلمِ والإسلامِ من عملِها ، فإنَّ من التوبةِ البسيطةِ أيضًا التراجعُ بالتخلي من أجلِ التحلي بنعمةِ الإسلامِ الغض الذي لا يتلونُ قطُ ، وإذا ما تلونَ فقد ماهيتَهُ ومعناه ، وتلاشت كينونتُه وجوهرُه ، فلا يصحَ لمسلمٍ أن يُدعَى وهابيًا أو علمانيًا ، ولا يُدعَى شيعيًا أو سنيًا ، بل يُدعَى مسلمًا غضًا كما كان الإسلامُ على عهدِ النبي والراشدينَ من خلفائه ، ومِن أجملِ ما سمعتُ من الشيخِ الشعراوي في هذا الصددِ إنما هو تشبيهه الإسلامَ بالماء الذي إذا ما أُدخِلَ عليه لونٌ وتلونَ فقد مسماهُ " ماء " ويأخذَ مسمىً آخرَ حسب اللون الذي أُضيفَ إليه فيسمى عصيرَ ليمونَ أو عصيرَ برتقالَ أو مانجو أو أي شئٍ آخرَ ينتزعَ من الماءِ مسماه ، وكذلك الإسلام الحنيف إذا ما دخلت عليه الأيديولوجيات .. فهل مِن توبةٍ بسيطةٍ في ذلك الشأنِ لأنها توبةٌ في متناولِ قدرتك النفسيةِ ، وفي متناولِ إرادتِك إن أنتَ أردتِ وشئتَ ، وبخاصةٍ أن رسائلَ اللهِ إلينا أبدًا لم تخلو قطُ من نبذِ تلك التفرقةِ والتشيعِ إلى الدرجةِ التي معها لا يكونُ النبيُ منهم في شئٍ ، وهو حكمٌ بالخروجِ من الأمةِ ومن الملةِ على السواءِ ، يدلُ عليه أيضًا حديثُ الورودِ على الحوضِ فتمنعهمُ الملائكةُ لِمَا أحدثوا بعده صلى اللهُ عليه وسلمَ من محدثات ، كما لم تكن تخلو قطُ من تأكيدٍ على أن أمتَنا إنما هي أمةٌ واحدةٌ كما أن إلَهَنا العظيمَ إنما هو إلَهٌ واحدٌ . 


ياسر شلبي محمود

   كاتب ومفكر

ليست هناك تعليقات