نظرية النظم

 محاضرات مادة النقد الأدبي القديم

بحث حول نظرية النظم



تمهيد :


تميّز القرن الخامس الهجري بنضج العلم والتأليف والإبداع؛ حيث تكاملت فيه شتى علوم

العربية من نحو وبلاغة وفقه ونقد وغيرهاء وجمعت فيه كلّ دواوين الشعرء وألّفت فيه

المعجمات ودوّنت المفردات ؛ كما برزت فيه طوائف مختلفة من متكلّمين ؛ عالج هؤلاء

العلماء مختلف القضايا العلمية والأدبية والدينية بمنطق العقل والاجتهاد. معتمدين في ذلك

على حرية الإدلاء بآرائهم وحق مناقشتها والدفاع عنها.ويعد عبد القاهر الجرجاني

(ت421ه)؛ ؛ من مواليد مطلع هذا القرن. وهو من أصل فارسي من أهل جرجان.


تعريف نظرية النظم لغة واصطلاحا

-1 - مفهوم النظم لدى القدامى:


يعد عمرو بن بحر الجاحظ (ت255ه)؛ من أوائل الذين تحدثوا بالنظم وله مؤلف مفقود

موسوم ب: " إعجاز القرآن في نظمه"؛ كما تعرّض أهل الحديث والفقه للرد على الشبهات

التي أثيرت حول أسلوب القرآن ونظمه وبلاغته.من أمثال ابن قتيبة (ت276ه) في كتابه

"تأويل مشكل القرآن"؛ الذي يعد من الآثار الجليلة التي خدمت لغة القرآن وأسلوبه؛ وقد

عني فيه بالمجاز. أما الرماني (ت386ه) فقد ألف في هذا الشأن رسالته: "النكت في

إعجاز القرآن" يفصح عن رأيه قائلاً ضمن باب عقده تحت عنوان "باب التلاؤم": "التلاؤم

نقض التنافرء والتلاؤم تعديل الحروف في التأليف؛ والتأليف على ثلاثة أوجه: وذلك بيّن

لمن تأمله.... والتلاؤم في التعديل من غير بُعْد شديد يظهر بسهولته على اللسان» وحسنه في

الأسماع؛ وتقبله في الطباع؛ فإذا انضاف إلى ذلك حُسْنْ البيان في صحة البرهان في أعلى

الطبقات؛ ظهر الإعجاز."الرماني أمصدر مذكورءص.18. ومن بين من قال بإعجاز القرآن بالنظم: أبو هلال العسكري (ت395ه)؛رغم انه لم يؤلف في النظم مصنفا . يقول في "الصناعتين": "وإنما يعرف إعجاز القرآن من جهة عجز العرب عنه؛ وقصورهم عن بلوغ غايته؛ في حسنه وبراعته؛ وسلاسته ونصاعته؛ وكمال

معانيه وصفاء ألفاظه"؛ إعجاز القرآن من منظور العسكري إذن في بلاغته المتميزة بالنظم

البديع؛ وحسن التأليف؛ وجودة التركيب.


-2 نظرية النظم لدى الجرجاني:


يعد عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة وإمامهاء وهو يعتبر أن الشأن للنظم كاملاً. ولا شيء

من الاعتبار للّفظ وحده قبل أن يدخل في هذا النظم المعجز.و قد أفرد هذا العالم الجليل

العديد من الشواهد من القرآن الكريم ومأثور كلام العرب في مصنفيه : أسرار البلاغة

ودلائل الإعجاز.


انطلق عبد القاهر من ثنائية اللفظ و المعنى و خاض في تآلفهما داخل التراكيب اللغوية دون

الوقوع في فخ تفضيل الواحد عن الآخر.وخلص الجرجاني إلى أن الألفاظ رموز للمعاني.

و بفضل النحو نستعمل الألفاظ لنشكل التراكيب؛ و تتجدد معانيها بفضل النحو .معنى ذلك

أن اللفظ وعاء يتشكل به المعنى.و وهو عاطل في المعجم لا يؤدي أية وظيفة.


يفرق الجرجاني بين نظم الكلام و نظم الحروف؛ فنظم الحروف ؛ هو تواليها في النطق فقط

دون رسم في العقل ؛ و ليس نظمها بمقتضى عن المعنى. فلو أن واضع اللغة كان قد قال:

ربضء مكان ضرب:؛ لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد. أما نظم الكلام فأمره مختلف ؛

لأنك تقتفي في نظمه آثار المعاني و ترتيبها على حسب ترتيب المعاني في النفس؛ فهو إذن

نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض؛ وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى

الشيء كيف جاء و اتفق." - الجرجاني ؛ دلائل الإعجاز ص 93.إن الألفاظ المفردة لا مزية

فيها و إنما مزيتها في تعليق بعضها ببعض و جعل بعضها سببا لبعض و تأليفها و ترتيبها

بحسب ما يقتضيه علم النحو هو المزية و حسن السبك و الانسجام.


.يقول:" و اعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيب

بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة؛ و ذلك أنك إذا قلت: ضرب زيد عمرا يوم

الجمعة ضربا تأديبا له فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معنى واحد

لا عدة معان كما يتوهمه الناس؛ و ذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيهاء و إنما

جئت بها لتفيده وجود التعلق." الجرجاني. دلائل الإعجازء طبعة المنار» ص 316 .

التعليق لدى الجرجاني يعني التأليف بين أجزاء الكلم كلها تماسكا و انسجاما بعضها ببعض

+ الالفاظ لديه لا تفاضل بينها من حيث إنها ألفاظ مفردة منفصلة؛ بل التفاضل يحدث عند

ملائمة معناها لمعنى اللفظة التي تليها في السلسلة اللغوية و هذا يجري على سائر الكلام و

تحدث المزية فيه. ثم إن ترتيب الألفاظ في النطق يجري على ترتيب المعاني في النفس؛ و

أن العملية فكرية محضة و تتم في النفس أولا ؛ ثم تخرج في صورة أدبية.

يعتقد الجرجاني بتلازم اللفظ والمعنى نظرا لانصهارهما أثناء تشكيل الصورة داخل

التركيب. إذ لا يعقل أن تترتب المعاني في استقلال عن اللفظ ثم بعد ذلك ينظر في الجملة

الدالة عليهاء و لا يقصد إلى ترتيب الألفاظ و تواليها على نظام خاص في استقلال عن

الفكر. إن اللفظة التي توضع في سياقها التي جعلت لأجله؛ و كانت منسجمة مع ما سبقها

من ألفاظ و ما يلحقها داخل تركيب معين تتأتى لها الفصاحة و البيان.


يقول الجرجاني : " ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف»؛ و قبل أن

تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبار و أمرا و نهيا و استخبارا و تعجبا و تؤدي

في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة؛ و بناء لفظة

على لفظة؛ هل يتصور أن يكون بين اللفظين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدل على

معناه الذي وضعت له من صاحبتها على ما هي موسومة به." الجرجاني دلائل

الإعجاز.رص47


النص الذي بين أيدينا نقف منه على النقاط التالية:

- لا تفاضل بين الألفاظ في المعجم أي قبل دخولها في أسيقة معينة.


--- معنى الكلم يكون بضم الالفاظ بعضها إلى بعض بحسب ما انطبع في النفس أولا من

معنى.


لم يكتف عبد القاهر الجرجاني بتحديد مصدر المعنى الدلالي بل تعداه إلى ما وراء الدلالة

حين تحدث عن المعنى و معنى المعنى فقال:" المعنى و معنى المعنى؛ نعني بالمعنى

المفهوم من ظاهر اللفظ و الذي تصل إليه بغير واسطة؛ و بمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ

معنى؛ ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر.“ الجرجاني دلائل الإعجارص :262 -

3. فالمعاني الأولى هي التي تفهم من نفس الألفاظ و المعاني الثواني هي التي يومئ

إليها بتلك المعاني." المصدر السابق.ص:263 - 264.


إن تشكل الصورة الأدبية يترتب عنه إدراك معنى المعنى في نفس المتلقي من خلال

المجاز كالكناية و الاستعارة و التشبيه و التمثيل» حيث لا تكون الدلالة على الغرض من

اللفظ مجرداء و لكن لابد من إخضاع المجاز إلى فاعلية النحو من جهة معانيه و ما يتعلق

بذلك من خصائص .


-3 أحكام النحو لدى الجرجاني:


يقول الجرجاني: "و اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو

و تعمل على قوانينه و أصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها و تحفظ الرسوم

التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها و ذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن


ينظر في وجوه كل باب و فروقه فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك ,زيد

منطلق وزيد ينطلق و ينطلق زيد ؛ ومنطلق زيد وزيد المنطلق و المنطلق زيد و زيد هو

المنطلق و زيد هو المنطلق." - الجرجاني. دلائل الإعجاز. ص:5.64.


نستخلص من هذه معطيات النص:


ِ النظم هو وضع الكلام بحسب مقتضى علم النحو. من قوانين النحو و أصوله و

مناهجه هي: الخبر - الحال - الفصل و الوصل - التعريف - التنكير التقديم التأخير الحذف

التكرار الإضمار و الإظهار. أدوات الشرط و الجزاء و لا يقصد الجرجاني بالقوانين و

الأصول الحركات الإعرابية التي تظهر على أواخر الكلمات؛ لأنها لا تؤدي وظيفة في

المعنى.


-توفر اللغة للناظم مواضع معينة لصياغة الوظيفة النحوية الواحدة و هي معنوية و بناؤها

يأتي على توافق مع مقام معين و لغرض دون الآخر. وقد أبان الجرجاني عن وجوه و

فروق مواضع الخبر مثلا حين عدد الأمثلة فيه في قوله : زيد منطلق“ و هي تمثل البنية

النواة العميقة. ثم قام بتحويلها إلى عدد من البنى السطحية؛ و جعل لكل بنية خصوصية

معنوية تميزها عن الأخرى من خلال ما أضاف إليها من فروق و وجوه و تغيير للمواضع

حسب ما يقتضيه سياق المقال .


-الجرجاني يعتبر النظم سبيلا من سبل تحقيق معاني النحو في الكلام» أي أن النظم هو

-تناسق الكلم في التركيب يأخذ منحى عقليا . فتناسق الدلالات و تلاقي المعاني في الكلام

لا يمكن تفسيره عند الجرجاني إلا بالطريقة الموالية " تبلور الأفكار في النفس و انتظامها

انتظاما نظريا مجردا حسب مقولات الفكرء ثم بروز الحاجة إلى الرموز و العلامات لأن

الفكر لا يلتبس بالفكر؛ و الجوهر لا يدل على الجوهر فتستبدل المعاني المجردة بالسمات و

العلامات الدالة عليهاء ثم ترتب هذه العلامات على النسق الذي ترتب حسبه المعني في

النفس." - حمادي صمود. التفكير البلاغي عند العرب.ص:454؛ و بهذا ينطبق اللفظ

بالمعنى و تكون الملاءمة بينهما حاصلة و المزية كلها.

و قد بلغت نظرية النظم بما حوت من معاني النحو و أسرار البلاغة درجة في تفسير إعجاز

القرآن الكريم؛ و باتت سبيلا لا يستغنى عنه في كشف معانيه و نظامه المتميز؛ حيث لجأ

إليها الكثير من المفسرين العرب للقرآن الكريم أمثال الزمخشري و الفخر الرازي و

غيرهم.


ليست هناك تعليقات