قضية اللفظ والمعنى

 


تمهيد :

شغلت قضية اللفظ والمعنى اهتمام النّقاد العرب القدامى ،حيث دارت بينهم نقاشات قوية حول هذه القضية ، وكان مدار الاشتغال بشأن النص الأدبي شعرا ونثرا ، وعن مرد الجمال والإبداع فيه هل هو إلى اللفظ ام المعنى؟؟أي هل يرتبط الجمال في النص الأدبي بفعل تناسق ألفاظه وجمالها أم نتيجة سمو معانيه واتساقها، وانقسموا إلى فرق ومذاهب عدة انتصر بعضها للفظ وانحاز البعض الآخر للمعنى.

 

وللقضية  جذور وامتدادات في الآداب اليونانية القديمة، فأفلاطون من الذين خاضوا في هذه المسألة من جانب فلسفي وبقياس منطقي، حيث يعتبر أن الوعي له الأسبقية على المادة، ووفق هذا القياس فالمعاني التي هي نتاج الوعي لها الأسبقية على الألفاظ التي هي مجرد محاكاة لما هو موجود في عالم المُثل من معانٍ وأفكار.

أسباب ظهور هذه القضية :

يعود السبب في ظهور هذه القضية إلى عدة أسباب بعض هذه الأسباب تاريخى وبعضها ثقافى حضارىونختصر ذلك في النقاط التالية:

1/الصراع الذى كان يدور بين المتعصبين للعروبة وبين أنصار الشعوبية(إحدى حركات الفرس وهدفها الحط من لغة العرب وشأنهم ومجدهم ) إلى صراع بين اللفظ والمعنى. فقد سادت فكرة مؤداها أن الألفاظ للعرب - فالعرب تمهروا فى ذلك ولهم قصب السبق فى اختراع الألفاظ .

2- البحث في مكمن عن الإعجاز فى القرآن الكريم .

3/اتصال البلاغيين والنقاد العرب بالثقافات النقدية الوافدة وبخاصة (كتابات اليونانيين فى الشعر) .

قضية اللفظ والمعنى لدى النقاد العرب :

لقد كانتْ للمكانة التي يحتلها الشعر عند العرب العامل الرئيس وراء نشأة العديد من القضايا والآراء النقدية، التي كانت الغايةُ منها تجويدَ هذا الشعرِ والحفاظَ على قيمته الفنية والجمالية، ولهذا السبب رأيناهم يثيرون حوله العديد من القضايا ، منها هذه لقضية التي يتمحور حولها الدرس.

اللفظ والمعنى عند الجاحظ:

يتفق معظم الباحثين أن البداية الأولى لقضية اللفظ والمعنى كانت مع الجاحظ (ت255)، الذي  تمتد تصوراتُه الأسلوبية ومقاييسُه البلاغية في رسوخ نظريته في الكلام.والتي تقدر أن الكلام هو المظهر العملي لوجود اللغة المجرد ؛ أي إن الكلام ما هو إلا تجلٍّ ومظهر عملي تطبيقي للغة المجردة القائمة في نفس الإنسان.

إن الجاحظ أحد أبرز الكتّاب العرب القدماء، ويعد علامة فارقة في الأدب والنقد العربيين، ويُعد أول من تحدث عن مسألة اللفظ والمعنى في الأدب العربي يقول: "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ". الحيوان ج3/ص.132-132

ومعنى كلام الجاحظ أن المعاني التي يطرقها الأديب والشاعر هي مشاعة ومتاحة للجميع "مطروحة في الطريق"، لكن ما يكسبها أهمية هو صياغتها بقالب أدبي جميل وانتقاء الألفاظ المناسبة للتعبير عنها.

وإذا كان بعض النقاد رأوا في عبارة الجاحظ تفضيلاً للفظ، فإنّ هذا لا يعني أبداً أنّ الجاحظ قد غفل عن الفرق بين التكلّف في اختيار الألفاظ، وصوغ العبارات، والاهتمام والبحث والتخيّر الحسن، حيث يعني هذا الاهتمام التنقيح والتهذيب، وصولاً إلى مجد الكتابة.‏

ولم يهمل الجاحظ المعاني إهمالاً كاملاً، فقد تحدّث حديثاً عارضاً عن المعاني القائمة في الصدور والأذهان والنفوس والخواطر والفِكَر.‏

يُعوّل الجاحظ على اللفظ؛ لأنّ المعاني ـ في رأيه ـ غير محدودة بينما الألفاظ محدودة، ولذلك تبدو مهمة المتعاطي مع الكتابة مُركّزةً على الألفاظ، والنص التالي يُوضّح رأي الجاحظ في اللفظ والمعنى "حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأنّ المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومُحصَّلة محدودة، ".‏البيان والتبيين ج1/ص.76

وقد فهم البعض خطأ من خلال هذه المقولة أن الجاحظ من أنصار الألفاظ وأنه يحط من شأن المعاني، والصحيح أنه من دُعاة المواءمة بين الألفاظ والمعاني لأنه يصرح في مواضع أخرى برأيه، فيشبه الألفاظ بالبدن والمعاني بالروح، فهو يجعل العلاقة بين المعاني والألفاظ كعلاقة الروح بالجسد فيقول: "الأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح، اللفظ للمعنى بدنٌ، والمعنى للفظ روح".  رسائل الجاحظ، نقلًا عن الأخضر جمعي، (اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبلاغي عند العرب)، ص44.

يرى الجاحظ فى مقدمة كتابه البيان والتبيين أن هناك عيبان يلحقان بالكلام :

الأول : سماه "السلاطة والهذر"

والثانى: أطلق عليه "العى والحصر"

ويقصد بالسلاطة والهذر :كثرة الكلام بلا فائدة، ويقصد بالعى والحصر: عجز الكلام عن أدا المعنى.

فالأول زيادة فى الألفاظ والثانى عجز فى الألفاظ عن أداء المراد، والحد المتوسط الذى تؤدى فيه الألفاظ المعانى المرادة تأدية كاملة فقد أطلق عليها الجاحظ اسم " البيان".

والجاحظ يفرق بين عنصرين :

1-عنصر الألفاظ :وهى أصوات يجرى بها اللسان .

2- وعنصر المعاني : تصور وتخيل في الخواطر والأذهان.

فالمعاني كما يقول الجاحظ : محدودة مبسوطة إلى غير غاية ويعرفها كلاً من العربي والعجمي والحضري والبدوي. والمفاضلة عند الجاحظ تكون في الألفاظ لأنها محدودة محصورة.ويوضح الجاحظ بأن أحسن الكلام "ما كان قليله يغنيك عن كثيره ومعناه فى ظاهر لفظه".

خلاصة لما تقدم وعلى الرغم مما قيل عن تصور الجاحظ لثنائية اللفظ والمعنى فإن العديد من النقاد المحدثين يروه من دُعاة المواءمة بين الألفاظ والمعاني، إذ يشبه الألفاظ بالبدن والمعاني بالروح، جاعلا العلاقة بين المعاني والألفاظ كعلاقة الروح بالجسد.

 

 

اللفظ والمعنى عند عبد القاهر الجرجاني :

امتد الجدال في هذه القضية النقدية حتى وصل إلى أحد أعلام العربية وشيوخها البارزين وهو الإمام عبد القاهر الجرجاني الذي كان له رأي مميز في هذه المسألة، فالجرجاني رفض الفصل بين اللفظ والمعنى، وعدّهما متلازمين بالضرورة، كما رفض القول بأن تكون الألفاظ فصيحة بمفردها وإنما تكتسب الفصاحة بنظمها في جُملة الكلامِ.

لقد اهتم عبد القاهر الجرجاني بنظرية النظم القائمة على حسن الصياغة وتوخي معاني النحو، والتي تنظر إلى العلاقة التي تنشأ بين اللفظ والمعنى من وجهة لغوية دقيقة نتيجة التحامها وشدة ارتباطها. حيث نظر إليهما نظرة المتفحص العارف بمقادير الكلام، لذلك عرف قيمة اللفظ في النظم، وعرف طريقة تصوير المعاني على حقيقته، ثم جمع بين اللفظ والمعنى، وسوى بين خصائصهما، ورأى اللفظ جسدا والمعنى روحا يعتمد على حسن الصياغة ودقة التصوير التي نضجت في بحوثه.

لكي يثبت الجرجاني صحة نظريته فقد طبقها تطبيقًا عمليًا على آيات من القرآن ونماذج منتقاة من الشعر العربي.

وينتهي الجرجاني إلى وضع نظرية النظم التي ترى أن الكلام يكتسب فصاحته وبلاغته بتآزر الألفاظ مع المعاني وبتوخي قواعد النحو العربي في صياغة الكلام، وفي هذا يقول الجرجاني موضحًا نظريته النظم هو توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم من علاقات"، ويضيف: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تبخل بشيء منها". دلائل الإعجاز،عبد القاهر الجرجاني،مكتبة القاهرة الطبعة الأولى ،ص.78. فلا مزية للألفاظ على المعاني ولا فضل للمعاني على الألفاظ وإنما مَدار الأمرِ على حُسن النَظم.

اللفظ والمعنى لدى النقاد المغاربة :

لقد خاض النقاد المغاربة في مختلف القضايا النقدية ، فحازم القرطاجني مثلًا لم يهتمَّ بقضية (اللفظ والمعنى)، كاهتمام مَن سبقه من النقاد، ولم يتعصَّب لصالح طرف منهما؛ ذلك بأنَّه أكَّد في المقابل على أهمية (التناسب) بين أركان العمل الشعري (لفظًا ومعنًى...)، من أجل الغاية الرئيسة المرجوَّة من أي عمل شعري، ألا وهي "إحداث التأثير في المتلقي".

ولعل أبرز ما أتى به حازمٌ في هذه القضية تأكيدُه على فكرة التناسب المبدئي، بكون القصيدة تركيبًا متناسبًا من مستويات متنوِّعة، ترتد إلى معانٍ وأساليب مصوغةٍ في ألفاظ تتلاحم في نظام جامع لشتات مركب من أغراض"

.ومن الأسس التي تقوم عليها فكرة (التناسب) عند حازم القرطاجني: مسألة التركيب اللُّغوي للصورة المتخيَّلة، ولا يتحقَّق ذلك إلا من خلال التناسب المذكور بين اللفظ والمعنى، فإنَّ أفضل الشعرِ هو ما أوقع مبدعُه نسبًا فائقةً بين معانيه وصوره، ولا بدَّ من أن يُؤثِّر مثل ذلك في المتلقي أكثر من غيره.

أما ابنُ رشيق القيرواني (ت463)، فيُعَدُّ كتابُه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه) تلخيصًا شافيًا لأهم الآراء النقدية السابقة التي أثيرت قبله. وقد ذهب إلى مذهب الوسط، فاللفظ عنده بدون معنى جسدٌ ميت، والمعنى بدون لفظ روحٌ بلا جسد، ولذلك قال:اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباطِ الروحِ بالجسمِ، يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلِم المعنى واختلَّ بعض اللفظ كان نقصًا للشعر وهجنة عليه، كما يعرضُ لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور، وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح.

والملاحظة التي يجب تسجيلُها في هذا المقام، هي أن أغلب النقاد كانوا إلى جهةِ اللفظ والانتصار له على حساب المعنى، بدليل قوله: "أكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، سمعتُ بعض الحذاقِ يقول: قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمنًا، وأعظمُ قيمةً، وأعزُّ مطلبًا؛ فإن المعاني موجودة في طِبَاعِ الناسِ، يستوي الجاهلُ فيها والحاذقُ، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحسن السبك، وصحة التأليف...". ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج1، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الجيل الطبعة: الخامسة،1981، ص 127.



ليست هناك تعليقات