الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري

لقد شهد العصر العباسي تطوراً ملموساً في الحياة العامة: اجتماعية كانت أم ثقافية أم سياسية، وبدأ الإنسان يتمتع بالتحضر والمدنية والترف والنعيم المادي، فاستجاب قوم لتلك الظروف الجديدة استجابة متباينة، فمنهم من أسرف فيها، ومنهم من تردد منها، وعلى مقتضى ذلك مالت طائفة من الشعراء إلى العناية بالصورة اللفظية وإثقالها بالمحسنات البديعية وتعميق معانيها بالغموض والتكّلف، وعلى رأس هذه الطائفة يقف أبو تمام ومسلم بن الوليد، وقد دعاها النقاد القدامى بأنصار الصنعة، في حين بقيت طائفة أخرى تحذو حذو الأوائل في العناية بعذوبة العبارة وانتقاء ألفاظها الأكثر موسيقية والأفضل إبانة، مبتعدة عن الزخرف الإضافي، وعلى رأس هذه الطائفة يتربع البحتري وأبو العتاهية، وقد عرفها النقاد بأنصار الطبع.وبغية التعرف على هاتين الطائفتين بشيء من الإيجاز سنأخذ أبا تمام مثالاً لأهل الصنعة، والبحتري لأهل الطبع، ولئلا نقع في بوتقة الانحياز النقدي فما علينا الا قراءة ديواني الشاعرين بصورة دقيقة ومتأنية، لغرض فرز الحالات المطلوب دراستها والتعرف عليها من حيث بناؤها الفني والدلالي، والمتمكن من إعطاء صورة واضحة لهذين الشاعرين الكبيرين، ثم الاستئناس برأي الناقد الآمدي في موازنته بين هذين الطائيين.

فأبو تمام ، هو حبيب بن أوس الطائي، ولد في قرية جاسم ـ من أعمال دمشق ـ سنة (190هـ) من أبوين فقيرين، وتنقل به أبوه الى مصر، وكان حبيب في ذلك الحين صغيراً، فلبثوا هناك يشتغلون بمهن بسيطة، حيث تولى هذا الشاب سقاية المصلين في جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، وكان لطول إقامته في المسجد بين أئمة اللغة والفقه والحديث والمنطق، مما حبب إليه الأدب فتعلّم العربية وحفظ الكثير من شعر العرب فنمت شاعريته، ثم عاد إلى الشام ولبث فيها مدة يمدح رؤساء وولاة الدولة، وذاع اسمه في الجزيرة وبلاد الشام، ثم قدم إلى العراق حيث قصد حاضرة العالم آنذك وعاصمة الخلافة العباسية (بغداد)، فاتصل بالبلاط العباسي ومدح الخليفة المعتصم وبعضاً من وزرائه وولاته وقادته كالوزير محمد بن عبد الملك الزيات والحسن بن وهب ـ أحد رؤساء الكتاب ـ


و القائد محمد بن حميد الطوسي الطائي ـ ـ.

وكذلك قصد خراسان وبلاد الكرج وأرمينية، ومدح من مدح، فانبسطت الدنيا أمامه وتفتّحت له أبواب الخير والعطاء، فصار من ذوي المال واليسار حتى أن الحسن بن وهب ـ صاحب ديوان الرسائل ـ قد ولاه بريد ولاية الموصل، فأقام بالموصل ما يقارب السنتين وتوفي بها سنة 231هـ.

وديوان شعره يضم ثمانية أغراض(2): مديح، هجاء، عتاب، وصف، فخر، حكمة، غزل، ورثاء. وكان أكثر تلك الأغراض المديح حيث جاء في ما يقرب من (157) مائة وسبع وخمسين قصيدة مديح استغرقت الجزأين الأول والثاني من الديوان .

وإنك لتجد أثر ثقافة عصره جليًا في شعره، فغذّى حصيلتَه الفكرية من مناهل القرآن الكريم بصورة خاصة، ومن أدب العرب وتاريخهم وأمثالهم وأساطيرهم وعقائدهم إضافة إلى الفلسفة وعلم المنطق(4)، ليضم كل ذلك إلى الرائع من معانيه والجميل من صوره، ولكنه ينزع في معظم ذلك إلى الأغراب في اللفظ وتركيب الصورة في الصورة خمازجاً بين الألوان مهتماً بوجوه الصنعة وعلى درجة واضحة من الزخرفة البديعية  .

وأما البحتري  فهو أبو عُبادةَ الوليدُ بن عبيْد، ولد سنة (206هـ) في قرية منبج، بين حلب والفرات، لعائلة يعود أصلها إلى (بحتر) أحد أفخاذ قبيلة (طيء) فأخذ يتردد على مضارب هذه القبيلة، ويرضع من فصاحتها وينهل من مناهلها، فتلقى ثقافته الأولى فيها، وهي بين حفظ آيات القرآن الحكيم وتعلُّم أحكام الدين الإسلامي وشيء من السنّة النبوية وبليغ الشعر والنثر وأخبار الفتوح والمغازي ومما يرتبط بأيام العرب وأنسابهم، إضافة إلى جانب من علوم اللغة، ونجد ذلك واضحاً من خلال المرور بديوان شعره ..

وجاء في الموسوعة الإسلامية : "وبعد أن وُفِّقَ في محاولاته الشعرية الأولى  على مدح قبيلته، بدأ يبحث عمّن يرعاه فوجد ضالته في أبي سعيد يوسف بن محمد الطائي المعروف بـ: الثّغري والذي في بيته التقى لأول مرة بالشاعر أبي تمام الذي يدعي هو أيضا أنه من طيء وقد أخذ بموهبته الفنية ونصحه بأن يمدح (أهل معرّة النعمان فمدحهم) وأجري له أربعة آلاف درهم.."  وكان البحتري قد نزل حمص، وعرض شعره على أبي تمام الذي باركه بالتوجيه والتشجيع والنصيحة ، ورحل البحتري إلى بغداد وسُرَّ من رأى والموصل، وقد كانت سنة (234هـ) التي التقى فيها بالفتح بن خاقان الذي قدمه إلى المتوكل لتبدأ مسيرة حياة البحتري كشاعر بلاط الخليفة ، ثم مدح المنتصر، فالمعتز، المهتدي، والمعتمد، فالمعتضد، وبعد ذلك غادر العراق وصار شاعر البلاط ثانية عند ابن طولونا، بعدها عاد إلى مسقط رأسه، حيث وافاه الأجل سنة  284هـ

والذي يتناول ديوان شعره، يجد في أغراضه: المديح، الهجاء، الوصف، الفخر، الحكمة، الغزل، الرثاء، والعتاب والاعتذار، وكان أوفرَها في المدح، فهو كأستاذه أبي تمام في أصناف أغراضه، وهذه سمة ذلك العصر.

وكان البحتري قد تبوّأ مكانة رفيعة بين شعراء العربية في استخدام الخيال في التصوير، وتجنّب التعقيد ومستكره الألفاظ، والابتعاد عن الغريب من الاستعارات: "كما امتاز معظم شعره بالاستواء"

وشعر البحتري يعد وثيقة تاريخية لتصوير مظاهر الحضارة العباسية بأحداثها السياسية والاجتماعية واتجاهاتها الدينية والأدبية .  وبعد هذه اللمحة الموجزة التي تقدّمتْ من ديواني الشاعرين كمنطوق أولي يتقدم المادة النقدية التي التزم بها الآمدي (ت370هـ) في موازنته بين الطائيين بعد الخصومة التي نشبت بين أنصارهما .    

     كتاب" الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري" ألفه أبو القاسم الحسن بن بِشْر الآمدي المتوفى عام 371 هـ يقارن فيه بين الشاعرين أبي تمام والبحتري  

ـــــ مواضيع الكتاب :

ينقسم الكتاب لعدة محاور، هي:

1ـ المحاجّة بين أنصار أبي تمام وأنصار البحتري.

2ـ مساويء الشاعرين.

3ـ محاسن الشاعرين.

4ـ الموازنة بين معاني الشاعرين

المحتوى: يعتمد الكتاب على  التركيز على مذهبين  من فنون الشّعر والأدب في القرن الثالث الهجري، وهما :

1ــــ مذهب أبي تمام الذي كان يعنى بالتعمُّق بالمعاني، كما كان يعنى بالمحسِّنات البديعية وبالغ وأسرف فيها.

  2 ــــ  مذهب البحتري الذي كان يحذو حذو الأوائل من شعراء الجاهلية ، و يعتني بجزالة اللفظ وصفاء العبارة، باستخدام المحسنات البديعية دون إسراف أو تكلّف .

 يحاول الآمدي  أن يكون موضوعيا عير منحازٍ لأحد الشاعرين ، ولكننا نشعرُ بأنه يميل إلى الشاعر  البحتري  ويتعصّبُ له . ويظهر موقفه هذا  في كيفية الطرح ودراسة أشعر كل واحد منهما .

الآمدي هو أبو القاسم الحسن بن بشر المتوفى سنة 370 ه صاحب كتاب الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري. وقد ألّف الآمدي كتابه هذا بعد أن وجد كلاما كثيرا يدور بين الناس

 حول أيهما أفضل البحتري أم أبو تمام؟ فكان كتاب الموازنة نقلة نوعية في تاريخ النقد الادبي، ذلك لأنه ارتفع عن سذاجة النقد القائم على المفاضلة من دون تعليل واضح، فجاءت موازنته معللة ومؤيدة بالتفصيلات التي تلم بالمعاني والالفاظ والموضوعات الشعرية بفروعها المختلفة. وقد أراد الآمدي أن يبين للناس أن الاختلاف في تفضيل أحدهما على الآخر أمر طبيعي لكثرة جيدهما وبدائعهما. وأن اختلاف الناس في أشعارهما يعود الى اختلاف أذواق الناس ومذاهبهم الأدبية.

 فمَن فضل البحتري ونسبه الى جزالة اللفظ وصفاء النفس وحُسْن التخلُّص ووَضْعِ الكلام في مواضعه وصحةِ العبارة وقُرْبِ المآتي وانكشافِ المعاني، هُمْ الكُـَّتابُ والأعرابُ والشعراءُ المطبوعون وأهُل البلاغة .

 ومَن فضل أبا تمام ونسبه الى غموض المعاني ودقتها وكثرة مايورده مما يحتاج الى استنباط وشرح، هؤلاء هم أهلُ المعاني والشعراء أصحابُ الصنعة والذين يميلون الى التدقيق وفلسفة الكلام والتأويل .
ونقل الآمدي رواية عن البحتري يُبَيِّن فيها منهجَه الفني المختلِف عن منهج أبي تمام، فيقول عن أبي تمّام( أغْوصُ على المعاني مني ,وأنا أقْومُ بعمود الشعر منه). وهذا يعني أن أشعار القدماء هي المعيارُ الذي يُقاسُ عليه شعُر المحَدثين أمثال البحتري وأبي تمام، وأشعار القدماء هي التي ينطبق عليها عمود الشعر. و بناءً على هذا المبدأ يمثل البحتري عمودَ الشعر و يمثل أبوتمام الخروج عن عمود الشعر   إلى الصّنعة والغموض بالمعاني الفلسفية .

هل كانت فكرة الموازنة وليدة ذهن الآمدي؟
منهج الآمدي في الموازنة:
وجد الآمدي من يجعل الشاعرين في طبقة واحدة وانهما متساويان، كما وجد من اعتبرهما مختلفين من حيث الالتزام بعمود الشعر، وكان يستهدف الآمدي إلى الموازنة بين الشاعرين دون أن يذم أحدهما، كما أعلن اختلاف مذاهب الناس في الشعر ذاكراً بأنه لايريد أن يفصح بتفضيل أحد الشاعرين على الآخر، ولكنه أراد أن يوازن بين قصيدتين من شعرهما إن اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى ليقول: "أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى ثم أحكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علماً بالجيد والرديء".
ومن خلال القراءة النقدية للمقدمة وجدنا أنه يضع القاريء في خطين متعاكسين:
1 ــــــــ
ممن يفضّل  : سهل الكلام وقريب المعنى و يؤْثِر صحة السَّبْك و حُسْنُ
 العبارة و حُلْوُ اللفظ و كثرة الماء وحُسْنُ الرَّوْنَق  ، فالبحتري أشعر عندك ضرورة  .      

2 -وإن كنت تميل إلى   الصنعة   والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة.  فأبو تمام عندك أشعرُ لامحالة.

 ومن خلال هذين  الخطّين المتوازيين يتّضح لنا  منهجُ كلّ واحدٍ من الشاعرين ( أبو تمام والبحتري ) .

ولهذا قسم الآمدي كتابه على النحو الآتي على عدد من المحاور ، هي  :

1 ـ المحاجّة بين أنصار أبي تمام وأنصار البحتري.

                                                          2 ــــــ ـ مساويء الشاعرين.

                                                         3 ـــــ محاسن الشاعرين.

4ـ الموازنة بين قصيدة وقصيدة وبين معنى ومعنى.

وقد قدم لكل من هذه المحاور بما يتناسب وأقوال علماء اللغة والرواة، والاستشهاد بالشعر وتضمين الأدلة ببعض آيات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف  .
- المحاجّة بين أنصار أبي تمام وأنصار البحتري :  فقال الآمدي:"وأنا أبتدئ بذكر ما سمعته من احتجاج كل فرقة من أصحاب هذين الشاعرين على الفرقة الأخرى، عند تخاصمهم في تفضيل أحدهما على الآخر، وما ينعاه بعض على بعض". 

  قال صاحب أبي تمام  ( أصحابُه ) : كيف يجوز لقائل أن يقول أن البحتري أشعرُ من أبي تمّام وعن أبي تمام أخذ، وعلى حذوه احتذى، ومن معانيه استقى؟ وباراه.. واعترف البحتري بأن جيدَ أبي تمام خيرٌ من جيده، على كثرة جيد أبي تمام، فهو بهذه الخصالِ أن يكون أشعرَ من البحتري أولى من أن يكون البحتري أشعرَ منه.

 وقال صاحب البحتري: أما الصُّحْبة فما صَحِبَه ولا تتلمذ له، ولا روى ذلك أحدٌ عنه، ولا نقله.. ودليلُ هذا الخبر المستفيضِ من اجتماعهما وتعارفهما عند أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري.
وقد سار الآمدي على هذه الطريقة ذاكراً الآراء مفصّلة لكل رأي وذاكرا الروايات المتعلقة بذلك.
2- مساويء الشاعرين : فقال: "وأنا ابتدئ بذكر مساويء هذين الشاعرين، لأختم بذكر محاسنهما، وأذكر طرفا من
 سرقات ابي تمام.. ومساويء البحتري... ثم أوازن من شعريهما بين قصيدتين… إن شاء الله تعالى. فذكر سرقات ابي تمام وأخطاءَه:

في المعاني والألفاظ والاستعارات والتجنيس القبيح  والطباق الرديء ووحشي الألفاظ واضطراب الأوزان

فمن أَخْطَاء أبي تمام في المعاني قوله:
رقيق حواشي الِحلْــم لو أن حِلْمَه                        بكفيْك ما ماريت في أنه بَــرَدٌ
ونقل قولا لأحد العلماء ينكر فيه هذه الاستعارة : (هذا الذي أضحك الناس منذ سمعوه الى هذا الوقت) . ويرى الآمدي أن خطأ أبي تمام بيّنٌ من خلال مقارنته بأشعار الأقدمين الذين رآهم يصفون الحلم بالعِظم والرُّجحان والثِّقَل والرزانة كقول الفرزدق:
أحلامنا تزن الجبال رزانة                               وتخالنا جنا إذا ما نجهل
ويقول الآمدي   :  إذا ما ذَمُّوا الحِلْم وصَفْوَه بالخِفَّة فيقولون خفيفَ الحِلْم ويأتي بأمثلة من الشعر القديم ليستدلَّ على أن وصْفَ الحِلْم بالرقّـة ذمًّا وهجاءً . ثم يذكر بيتا للبحتري يصف فيه الحِلْم ويراه جيدًا لأنه تابع فيه وصفَ القدماء:
فلو وَزَنْتَ أركانَ رَضْوَى ويَذْبُل وقِيسَ بها في الحِلْم خَفَّ ثَقيلُها
ثم يضيف قائلا إن أبا تمام لا يجهل وصف الحلم يالثقل والرزانة ويعلم أن الشعراء إليه يقصدون ولكنه يريد أن يبتدع فيقع في لخطأ.
ويذكر الآمدي أمثلة على قبيح استعارات أبي تمام، منها قوله:
فضربتَ الشتاء في أخدعيه ضربة غادرته عودا ركوبا
فشبه أبو تمام الشتاء بالبعير الهائج الذي لا يسمح أن يُرْكَبَ، فيقول أن كرم الممدوح هكذا صنع بالشتاء.

لقد شهد العصر العباسي تطوراً ملموساً في الحياة العامة: اجتماعية كانت أم ثقافية أم سياسية، وبدأ الإنسان يتمتع بالتحضر والمدنية والترف والنعيم المادي، فاستجاب قوم لتلك الظروف الجديدة استجابة متباينة، فمنهم من أسرف فيها، ومنهم من تردد منها، وترى الناس حينئذ شتى بين راكب للموجة وبين عازف عنها، وعلى مقتضى ذلك مالت طائفة من الشعراء إلى العناية بالصورة اللفظية وإثقالها بالمحسنات البديعية وتعميق معانيها بالغموض والتكّلف، وعلى رأس
 هذه الطائفة يقف أبو تمام ومسلم بن الوليد، وقد دعاها النقاد القدامى بأنصار الصنعة، في حين بقيت طائفة أخرى تحذو حذو الأوائل في العناية بعذوبة العبارة وانتقاء ألفاظها الأكثر موسيقية والأفضل إبانة، مبتعدة عن الزخرف الإضافي، وعلى رأس هذه الطائفة يتربع البحتري وأبو العتاهية، وقد عرفها النقاد بأنصار الطبع.

وبغية التعرف على هاتين الطائفتين بشيء من الإيجاز سنأخذ أبا تمام مثالاً لأهل الصنعة، والبحتري لأهل الطبع، ولئلا نقع في بوتقة الانحياز النقدي فما علينا الا قراءة ديواني الشاعرين بصورة دقيقة ومتأنية، لغرض فرز الحالات المطلوب دراستها والتعرف عليها من حيث بناؤها الفني والدلالي، والمتمكن من إعطاء صورة واضحة لهذين الشاعرين الكبيرين، ثم الاستئناس برأي الآمدي في موازنته بين هذين الطائيين.

ومع ما يتضح من آراء فيما سنقرؤه، يبقى القصور يلاحقنا، ونبقى نستنير برأي أساتذتنا الأفاضل ليجعلوا طريقنا سالكة إن زلّت بنا الأقدام وغرّبت بنا الأفهام.

فأبو تمام : هو حبيب بن أوس الطائي، ولد في قرية جاسم ـ من أعمال دمشق ـ سنة (190هـ) من أبوين فقيرين، وتنقل به أبوه الى مصر، وكان حبيب في ذلك الحين صغيراً، فلبثوا هناك يشتغلون بمهن بسيطة، حيث تولى هذا الشاب سقاية المصلين في جامع عمرو بن العاص بالفسطاط، وكان لطول إقامته في المسجد بين أئمة اللغة والفقه والحديث والمنطق، مما حبب إليه الأدب فتعلّم العربية وحفظ الكثير من شعر العرب فنمت شاعريته، ثم عاد إلى الشام ولبث فيها مدة يمدح رؤساء وولاة الدولة، وذاع اسمه في الجزيرة وبلاد الشام، ثم قدم إلى العراق حيث قصد حاضرة العالم آنذك وعاصمة الخلافة العباسية (بغداد)، فاتصل بالبلاط العباسي ومدح الخليفة المعتصم وبعضاً من وزرائه وولاته وقادته كالوزير محمد بن عبد الملك الزيات والحسن بن وهب ـ أحد رؤساء الكتاب ـ و القائد محمد بن حميد الطوسي الطائي ـ ـ.

وكذلك قصد خراسان وبلاد الكرج وأرمينية، ومدح من مدح، فانبسطت الدنيا أمامه وتفتّحت له أبواب الخير والعطاء، فصار من ذوي المال واليسار حتى أن الحسن بن وهب ـ صاحب ديوان الرسائل ـ قد ولاه بريد ولاية الموصل، فأقام بالموصل ما يقارب السنتين وتوفي بها سنة 231هـ.

وديوان شعره يضم ثمانية أغراض(2): مديح، هجاء، عتاب، وصف، فخر، حكمة، غزل، ورثاء. وكان أكثر تلك الأغراض المديح حيث جاء في ما يقرب من (157) مائة وسبع وخمسين قصيدة مديح استغرقت الجزأين الأول والثاني من الديوان .

وإنك لتجد أثر ثقافة عصره جليًا في شعره، فغذّى حصيلتَه الفكرية من مناهل القرآن الكريم بصورة خاصة، ومن أدب العرب وتاريخهم وأمثالهم وأساطيرهم وعقائدهم إضافة إلى الفلسفة وعلم المنطق(4)، ليضم كل ذلك إلى الرائع من معانيه والجميل من صوره، ولكنه ينزع في معظم ذلك إلى الأغراب في اللفظ وتركيب الصورة في الصورة مازجاً بين الألوان مهتماً بوجوه الصنعة وعلى درجة واضحة من الزخرفة  .

وأما البحتري  فهو أبو عُبادةَ الوليدُ بن عبيْد، ولد سنة (206هـ) في قرية منبج، بين حلب والفرات، لعائلة يعود أصلها إلى (بحتر) أحد أفخاذ قبيلة (طيء) فأخذ يتردد على مضارب هذه القبيلة، ويرضع من فصاحتها وينهل من مناهلها، فتلقى ثقافته الأولى فيها، وهي بين حفظ آيات القرآن الحكيم وتعلُّم أحكام الدين الإسلامي وشيء من السنّة النبوية وبليغ الشعر والنثر وأخبار الفتوح والمغازي ومما يرتبط بأيام العرب وأنسابهم، إضافة إلى جانب من علوم اللغة، ونجد ذلك واضحاً من خلال المرور بديوان شعره ..

وجاء في الموسوعة الإسلامية : "وبعد أن وُفِّقَ في محاولاته الشعرية الأولى  على مدح قبيلته، بدأ يبحث عمّن يرعاه فوجد ضالته في أبي سعيد يوسف بن محمد الطائي المعروف بـ: الثّغري والذي في بيته التقى لأول مرة بالشاعر أبي تمام الذي يدعي هو أيضا أنه من طيء وقد أخذ بموهبته الفنية ونصحه بأن يمدح (أهل معرّة النعمان فمدحهم) وأجري له أربعة آلاف درهم.."  وكان البحتري قد نزل حمص، وعرض شعره على أبي تمام الذي باركه بالتوجيه والتشجيع والنصيحة ، ورحل البحتري إلى بغداد وسُرَّ من رأى والموصل، وقد كانت سنة (234هـ) التي التقى فيها بالفتح بن خاقان الذي قدمه إلى المتوكل لتبدأ مسيرة حياة البحتري كشاعر بلاط الخليفة ، ثم مدح المنتصر، فالمعتز، المهتدي، والمعتمد، فالمعتضد، وبعد ذلك غادر العراق وصار شاعر البلاط عند ابن طولون، بعدها عاد إلى مسقط رأسه، حيث توفي سنة  284هـ

والذي يتناول ديوان شعره، يجد في أغراضه: المديح،الهجاء،الوصف،الفخر،الحكمة،الغزل،الرثاء، والعتاب والاعتذار،وكان أوفرَها في المدح،فهو كأستاذه أبي تمام في أصناف أغراضه،وهذه سمة العصر.

وكان البحتري قد تبوّأ مكانة رفيعة بين شعراء العربية في استخدام الخيال في التصوير، وتجنّب التعقيد ومستكره الألفاظ، والابتعاد عن الغريب من الاستعارات . و يعد شعر البحتري وثيقة تاريخية لتصوير مظاهر الحضارة العباسية بأحداثها السياسية والاجتماعية واتجاهاتها الدينية والأدبية .  وبعد هذه اللمحة الموجزة التي تقدّمتْ من ديواني الشاعرين كمنطوق أولي يتقدم المادة النقدية التي التزم بها الآمدي (ت370هـ) في موازنته بين الطائيين بعد الخصومة التي نشبت بين أنصارهما .

فاننا سنتعرَّض بإيجاز  لبعض ما ورد في الموازنة من آراء وأحكام نقدية  ونتناول منهجه في رصد المادة العلمية التي ألف بها كتاب الموازنة .

وسنعتمد على النسخة التي حقّقها السيد أحمد صقر في تثبيت النصوص والهوامش لكمالها   .

مقدمة الآمدي:

لقد اخذ الآمدي على نفسه عهداً في كتابه هذا بأن يكون موضوعيا في موقفه، ومحايداً معتمدا الحق، ومتجنباً الهوى.

ومن خلال مقدمة الموازنة نستفيد أن الآمدي قد وجد أمامه من يقف إلى جانب أبي تمام ومن يقف إلى جانب البحتري، فمن فضّل أبا تمام فقد "نسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة ومن يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام"، ومن فضّل البحتري فقد "نسبه إلى حلاوة اللفظ، وحسن التخلّص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المأتى، وانكشاف المعاني، وهم الكتّاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة" .

كما وجد الآمدي من يجعل الشاعرين في طبقة واحدة وانهما متساويان، كما وجد من اعتبرهما مختلفين من حيث الالتزام بعمود الشعر، وكان يستهدف الآمدي إلى الموازنة بين الشاعرين دون أن يذم أحدهما، كما أعلن اختلاف مذاهب الناس في الشعر ذاكراً بأنه لايريد أن يفصح بتفضيل أحد الشاعرين على الآخر، ولكنه أراد أن يوازن بين قصيدتين من شعرهما إن اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى ليقول: "أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى ثم أحكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علماً بالجيد والرديء" .

ومن خلال القراءة النقدية للمقدمة وجدت أنه يضع القاريء المتلقي في خطين متعاكسين:

أ ـ "ممن يفضّل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري اشعر عندك ضرورة" .

ب ـ "وان كنت تميل إلى الصنعة، والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، ولاتلوي على ما سوى ذلك، فأبو تمام عندك اشعر لامحالة" .

فهو قد لخص لنا هذين الخطين الشعريين بهذا الشكل من التنظير مفروضاً ومطلوباً للوصول إلى البرهان النهائي والنتيجة الحاسمة عن طريق الاختيار الشخصي للأسلوبية الفنية المعتمدة من قبل المتلقّي نفسه.

وأنكر الآمدي أن يكون هنالك فريق ثالث ينزع إلى الشعرية والإبداع بغض النظر عن إتباع أحد الأسلوبين، لأن التجارب مختلفة عند الشاعر الواحد، وقد يكون النص واعيا لتجربة محيطاً بأفكارها ناجحاً في تصويرها بارعاً في انزياحاتها قويا في نسجها فصيحا في تراكيبها وعباراتها، وبهذا يكون المتلقي تكاملياً في نظرته ونقده. وكنت أتمنّى على الآمدي أن يكون كذلك.

منهج الكتاب:

قدم لهذا الموضوع: "وأنا ابتدئ بذكر مساويء هذين الشاعرين، لأختم بذكر محاسنهما، وأذكر طرفا من سرقات ابي تمام.. ومساويء البحتري... ثم أوازن من شعريهما بين قصيدتين… إن شاء الله تعالى .

وقد ذكر ذلك في منهج كتابه، وذكر في خطته بأنه سيذكر الانفراد في التجويد والمعاني والتشبيه والأمثال ومختارات مجردة من شعريهما على حروف المعجم.

2ـ مساويء الشاعرين

1سرقات أبي تمام:

اهتم الآمدي بموضوع سرقات أبي تمام، حيث جعلها في (120) مائة وعشرين موضعاً، ذاكراً مصدر السرقة وطريقتها وتحليل ذلك وإعطاء الآراء النقدية فيها، وكمثال على ذلك:

"وقال الطائي:

وركــب كأطراف الاسنّة عرّسوا

على مثلها والليل تسطو غياهبه

لأمر عليـــــهم أن تتــــــمّ صدوره

وليـــس عليــــهم أن تتـــمّ عواقبه

أخذ صدر البيت الاول من قول كثير:

وركب كأطراف الأسنّة عرّجــــــوا

قــــلائص في أصـــــــلابهنّ نحــــول

.. وأخذ معنى البيت الثاني من قول الآخر:

غـلام وغى تقحّمـــــــها فـــــــأبلى

فخــــان بــــلاءه الزمـــــن الخـــؤون

فكان على الفتى الإقدام فيــــــــــها

وليس عليه ما جنت المنــون"

وذكر الآمدي بعد ذكره سرقات أبي تمام بأنه وجد (ابن أبي طاهر) قد خرّج سرقات أيضاً، فذكرها في (46) ستة وأربعين موضعاً  معلقاً عليها قائلاً : ((فأصاب في بعضها، وأخطأ في البعض، لأنه خلط الخاص من المعاني بالمشترك بين الناس مما لايكون مثله مسروقاً  ))، وهي من السرقات المعلّلة التي ذكر مصدرها، كما ناقش الآمدي بعضاً منها واعتبره غير مسروق.

وكمثال على ما ذكره ابن أبي طاهر في قول أبي تمام .

لئن ذمّت الأعداء سوء صبــاحـــها  

                              فليس يؤدي شكرها الذئب والنــــسر

بأنه مسروق من قول مسلم بن الوليد :

لو حاكـــمتك فـــطالبتك بذحـــلها     

                                    شـــهدت عليــك ثعالب ونســـــور

و ذكر الآمدي بأن وقوع الذئاب والنسور وما سواها من الحيوانات والطيور على القتلى إنما هو من قبيل المعنى المتداول المشترك ،وذكر بأن بيت أبي تمام يحمل معنى مخالفا لبيت مسلم بن الوليد   .

وهذه بعض الآراء والأحكام النقدية التي أوردها الآمدي في كتابه (( الموازنة بين الطائيين أبي تمّام والبحتري )) حيث تناولها بمنهج علمي يظهر فيه ثقافته النقدية وإلمامه بالشعر وبلاغته وأوزانه ولغته .

مقدمة الآمدي:

وقد تعهّد الآمدي في مقدمة كتابه بأن يكون موضوعيا في مواقفه ولا ينحاز لطرف، معتمدا الحق .

ونستنتج أن الآمدي قد وجد أمامه من يقف إلى جانب أبي تمام ومن يقف إلى جانب البحتري، فمن فضّل الأول فقد "نسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة ومن يميل إلى التدقيق وفلسفة الكلام" . ومن فضّل البحتري فقد "نسبه إلى حلاوة اللفظ، وحسن التخلّص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المآتي، وانكشاف المعاني، وهم الكُتّاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة  "  .

         وأشار الآمدي إلى أنّ هناك فريقا قد ساوى بين الشاعرين وجعلهما في طبقة واحدة ؛ وفريقا آخر اعتبرهما

مختلفين من حيث الالتزام بعمود الشعر،وكان يستهدف الآمدي إلى الموازنة بين الشاعرين دون أن يذمَّ أحدهما  وأراد أن يوازن بين قصيدتين من شعرهما إن اتفقتا في الوزن والقافية والإعراب ، وبين معنى ومعنى ليقول: "أيهما أشعر في  تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى ثم أحكمْ أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحَطْتَ علماً بالجيِّد والرديء  ( من الشعر )  .

 

 


ليست هناك تعليقات