السياسة الاقتصادية للأتراك العثمانيين

 

السياسة الاقتصادية للأتراك العثمانيين:

لقد كان اهتمام الأتراك العثمانيين عندما وطأت أقدامهم أرض الجزائر، أي في مرحلة البايلربايات مقتصرا على تحرير كامل السواحل الجزائرية من الاحتلال الإسباني و التوسع في كامل التراب الجزائري، و أيضا تقوية الحكم العثماني المركزي في الجزائر و كذلك تدعيم وجود الدولة العثمانية في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط.

بينما انحصرت السياسة العثمانية في الميدان الاقتصادي فيما يلي:

سعي الدولة لضمان مواردها من الضرائب المفروضة على الأراضي الزراعية و تربية المواشي، و كذلك على النشاط الصناعي و التجاري ومختلف النشاطات الاقتصادية، و بعد ذلك أوجدت السلطة جهازا ماليا واسعا و دقيقا، سعت من ورائه بسط النفوذ على مختلف النشاطات و معرفة إنتاجها لتحصل على نصيبها منها.

في الواقع لقد حافظت السلطة العثمانية في الجزائر على جميع النشاطات الاقتصادية السائدة قبلها، أي في العهد الحفصي و الزياني، إلاّ أنه بالمقابل لم تقف في وجه المبادرات الخاصة التي تتم من قبل أصحاب الأراضي الزراعية الواسعة، بل يمكن أن نقول أن السلطة العثمانية قد ساهمت بطريقة غير مباشرة في تطوير نوعا ما القطاع الزراعي عندما شجعت الأندلسيين المهاجرين بمنحهم أراضي في البليدة و في مناطق أخرى، و كانت لخبرتهم الزراعية أثرا إيجابيا على نوعية و مردودية الإنتاج الزراعي.

و قد كانت مساهمة العثمانيين أيضا، عندما أسسوا نظام قبائل المخزن الذي يشبه في بعض مميزاته النظام الإقطاعي العثماني، الذي طبّق في بعض البلاد العربية المشرقية كبلاد الشام، غير أنّ أغلب الذين أقطعوا الأرض ليستغلّوها زراعيا، كانوا من القبائل الجزائرية المحلية، كما تقوم هذه القبائل بأعمال إدارية وعسكرية مقابل استغلالها الأرض وإعفائها من الضرائب، فلذلك كان نظام قبائل المخزن عاملا مساعدا على تثبيت بعض القبائل البدوية على الأرض و تحويلها إلى الزراعة تدريجيا.

غير أن المهمة العسكرية التي كلّف بها فرسان قبائل المخزن كانت في الواقع عائقا أمام تحسين طرق استغلال الأرض، وتطوير التقنيات الفلاحية.

فلذلك فإن هذا النظام لم يقدّم النتائج الإيجابية التي كان من الممكن أن يقدّمها و لو كان الهدف منه فقط استقرار القبائل في تلك الأراضي و توجيهها للنشاط الزراعي، و لذا بقيت سهول الغرب الجزائري التي اقتطعت لعشائر القبائل المخزنية و المقدرة  ب 78 % من مساحتها ذات إنتاج زراعي ضعيف.

و إذا كان هذا النظام قد وُضع في الأساس لتثبيت الحكم العثماني في كافة التراب الجزائري و بسط سيادته على المواقع الإستراتيجية وعلى الريف الجزائري خاصة، و ضمان الأمن والاستقرار- و هما ضروريان للانتعاش الاقتصادي- فإنه أستغل في عهد الباشاوات بصفة خاصة لصالحهم على حساب المواطنين، حيث أن بعض الباشاوات استخدموا القوة المخزنية العسكرية لتكون أداة ضغط على الأهالي في جباية الضرائب في الأرياف بمبالغ أكثر من اللازم ليعوّض هؤلاء الباشاوات ما كانوا قد أنفقوه ثمنا لمنصبهم، خاصة أنهم يعيّنون لمدة ثلاث سنوات فقط.

أما في الميدان الصناعي، بقيت الأوضاع كما هي سابقا، باستثناء بعض التجديدات الضئيلة التي أدخلها الأندلسيون كصناعة الحرير وتطوير أنوال نسيجها وصناعة الشواشي والارتقاء بها.

كما أن هذه التجديدات فرضتها ظروف الاحتكاك مع العالم الخارجي و بصفة خاصة مع أوربا و الدولة العثمانية، كصناعة البنادق و المدافع و صناعة الأسلحة التقليدية المعروفة كالسيوف والرماح و الحراب و غيرها، و كذلك تطوير صناعة السفن و توسيعها للاستجابة لمتطلبات الغزو البحري، و حاجة الجزائر لتكوين أسطول تجاري وحربي.

أما في الميدان التجاري، فموارد الجمارك كانت تشكل قسما كبيرا من موارد الدولة، فكل البضائع الواردة من البلاد الإسلامية أو الأوروبية كانت تخضع لدفع رسوم الجمارك، وقدّرها "هايدو" بـ11%، إضافة إلى المكوس و هي الرسوم التي كانت تؤخذ على جميع السلع التي تدخل إلى الأسواق الداخلية، ولا يعفى منها سوى الانكشارية و فرسان المخزن الصبائحيين.

و لذلك شجع الحكم العثماني التجارة مع الدول الأوروبية التي كانت تتردد سفنها على موانئ عنابة، الجزائر، تنس، مستغانم و أرزيو و عمل على ضبطها، بحيث أخضع دخول السفن التجارية إلى حصولها المسبق على رخصة الدخول، و جعل مدينة الجزائر هي المركز الرئيسي لهذه التجارة ليتسنى للسلطة مراقبتها، و منحت للفرنسيين بموجب اتفاقية الامتيازات المبرمة معهم، حق إقامة مراكز تجارية بمقابل تسديد الرسوم الجمركية و حصول الحكام على أرباح متنوعة دون عامة الناس.

و قد طبقت السلطة العثمانية في الجزائر نظامها في عدم السماح بتصدير بعض السلع كالقمح، الزيت، العسل، الشمع و الصوف إلى الدول الأوروبية إلاّ بإذن خاص، و الهدف من وراء ذلك هو تأمين الاستهلاك المحلي و لاسيما الأغذية، و أيضا رغبة السلطة احتكار بيع هذه السلع، للحصول على المكاسب الخاصة دون غيرها، خاصة أن إقبال الدول الأوروبية عليها كان كبيرا.

بينما عانت التجارة الداخلية من عوائق كثيرة، كقلة الطرقات ونقص الأمن وعدم تطور وسائل النقل، و أيضا تدهور العديد من المراكز التجارية القديمة كتلمسان و بسكرة و غيرها، كما أن التجارة الخارجية انحصرت في مدينة الجزائر بعد أن كانت منتشرة في كل المدن الساحلية.

وفي الواقع أن الغزو البحري الذي اهتمت به السلطة العثمانية بدعمه وتنشيطه قد غطى على النشاط التجاري و النشاطات الأخرى.

كما تم تشجيع الغزو البحري لدعم الاقتصاد الجزائري بغنائمه من سلع و نقود و يتراوح نصيب الجزائريين بين الخمس و السبع مبدئيا، يضاف إليه نصيب آخر نتيجة مساهمتها في تزويد السفن بالبسكويت ، السمن ، العسل ن الأرز و الزيتون و تقديم جهاز التجديف كلّه أو جزء منه إذ كان المجدفون يؤخذون عادة من الأسرى النصارى المودعين في سجن الدولة.

كذلك لجأت السلطة إلى ربط الاقتصاد الجزائري بالاقتصاد العثماني، مما فتح مجال أوسع للنشاط التجاري الجزائري مع المشرق الإسلامي خاصة مع مصر وبلاد الشام والدولة العثمانية عامة، و قد تزايدت هذه الصلة بصفة خاصة بعد ضم الدولة العثمانية تونس سنة 1574م و طرد إسبانيا منها، لكن بالمقابل كان لهذا الارتباط سلبياته أيضا، إذ أن كل      ما كانت تتأثر به الدولة العثمانية في المشرق من ظروف سياسية أو اجتماعية أو طبيعية ينعكس عنها سلبا في الأوضاع الاقتصادية للجزائر.

و بذلك يتضح أن الحكم العثماني في الجزائر في القرن السادس عشر قد ربط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة الاقتصاد الجزائري العثماني، و شدّد قبضته عليه بالضرائب و الاحتكار لحصول على هدفه المادي.

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات