الأَوْبِئَةِ وَالأَمْرَاضِ بِالجَزَائِرِ العثمانية

 الأَوْبِئَةِ وَالأَمْرَاضِ بِالجَزَائِرِ العثمانية

من خلال المصادر المحلية +دراسة كتاب في عصر الحديث 




تمهيد:

         إنّ البحث في موضوع الأوبئة والأمراض ببلاد المغارب خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وبالخصوص مرض الطاعون والكوليرا والتيفوس،...يقودنا إلى الحديث عن أهم المدونات التاريخية التي كُتبت حولها وأرّخت لها، وأهم الآثار النفسية والمرضية وحتى الاجتماعية التي خلفتها.

         ولعلّ من أهم المدونات التاريخية التي تناولت وبإسهاب كبير موضوع الطاعون على وجه الخصوص كتاب" أقوال المطاعين في الطعن والطواعين للعربي المشرفي"، وهو كتاب فريد من نوعه يدرجه بعضهم ضمن مجال أدبيات الطواعين ببلاد المغارب أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وهو نموذج عن المدونات التاريخية التي تعكس صورة النخبة العالمة خلال تلك الفترة السالفة الذكر حول موضوع الأوبئة، وأهم القضايا والإشارات التي عالجتها النخبة العالمة. من خلال تناولهم للأسئلة الشرعية والفقهية التي كانت تطرح عليهم.

         ثمّ إنّ اقتناعنا بعدم وجود نصوص تراثية تؤرخ لأهم الأوبئة والأمراض التي ضربت بلاد المغارب، وإن وجدت فهي قليلة جداً، ما عدا بعض التقارير والكتابات الأجنبية التي كتبت حول الموضوع. حاولنا أن نبرز كتاب" أقوال المطاعين في الطعن والطواعين للعربي المشرفي" كنموذج للنخب المثقفة ببلاد المغارب وتعاطيها مثل هذه المواضيع والمستجدات الراهنة في ذلك الوقت، والتي حاولت التأريخ لوباء الطاعون من خلال ذكره لأهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، الدّالة عليه، ثمّ بيان حقيقة الطاعون والوباء والفرق بينهما، إلى غير ذلك من القضايا الشرعية والفقهية وموقف السلطة من ذلك.

         لقد انصبّ اهتمامنا على التعريف بكتاب" أقوال المطاعين في الطعن والطواعين للعربي المشرفي" من منطلق أنّه يؤسس لمرجعيات عامة حاولت تحديد تصوره من خلال إبرازه لمفهوم الطاعون. وأهم التعاريف والإشكالات الملازمة والمصاحبة لأدبيات الطاعون، والمتمثلة أساسا في مسألة العدوى ومشروعية الوقاية والعلاج ثم أهم الإجراءات الصحية المتخذة خلال فترات الأوبئة من طرف الفرد والسلطة معا.

التعريف بالكتاب:

         يقع الكتاب في 131 ورقة من الحجم المتوسط، بمقاس 20X15 سم، ذو مسطرة غير متساوية، كتب بخط مغربي مجوهر واضح، يتوزع بين الحبرين الأسود والأحمر؛ وقد خصصه صاحبه للعناوين الرئيسية والبارزة إلى جانب الفرعية منها، مثل: "فائدة"، "تنبيه"، "تتمة"، كما أنّ صاحب الكتاب أثبت التعقيبة في أسفل كل ورقة وذلك للتثبت من تسلسل ورقات الكتاب وهي عادة دأب عليها العلماء المغاربة في مصنفاتهم.

         ثمّ إنّ النسخة  الوحيدة المتوفرة من هذا الكتاب هي تلك المحفوظة بالخزانة الحسنية بالرباط تحت رقم:2054، رغم بحثنا المتواصل في التنقيب عن نسخ أخرى من الكتاب، إلى جانب تفحصنا في جلّ فهارس الخزانات العامة والخاصة. وقد كان اعتمادنا على نسخة الخزانة الحسنية بالرباط(1).

 

1-           نسبة الكتاب إلى مؤلفه:

         ممّا لاشك فيه أنّ النسخة بخط يد المؤلف نفسه، وبها تعليقاته وتصويباته بهوامش وحواشي بعض الصفحات، ضف إلى ذلك عادة العلماء المغاربة في إثباتهم لأسمائهم في آخر الكتاب، بقوله:" كتبه أبو محمد العربي  بن عبد القادر بن علي المشرفي، أصلح الله من أحواله الظاهر والخفي بمنّه وكرمه آمين". وممّا يؤكد ذلك أيضا هو إحالته عليه ضمن مؤلفاته اللاحقة في مناسبتين أولها عند حديثه عن مناقب الشيخ أبي زيان الحمدي الغريسي، بقوله:"...وقد أرخنا وفاته في تأليفنا المسمّى بأقوال المطاعين في الطعن والطواعين..." (2).

         والثانية عند معرض حديثه عن الطاعون في كتاب نزهة الأبصار، حيث اختصر التفصيل عن أسباب الطاعون وأحكام الفرار منه، بقوله:"...وكل ذلك ذكرناه في تأليف مستقل سميناه" أقوال المطاعين في موت الفجأة والطواعين"(3).

2-           تاريخ التأليف:

         يقول محقق كتاب " أقوال المطاعين" الباحث الحسين الفرقان عن تاريخ تأليف العربي المشرفي لمصنفه بقوله: "لم يذكر العربي المشرفي تاريخ انتهائه من تأليف كتابه "أقوال المطاعين"...إلاّ أنّ استخلاص بعض القرائن والإشارات العرضية الواردة في طي صفحات هذا الكتاب ساعدتنا على الاقتراب من السياق التاريخي العام الذي كتب فيه. فالمؤلف توقف في ذكره لأوبئة القرن19م عند وباء الكوليرا لسنة (1854-1855م)، ويستعمل أداة الإشارة عند قوله:" ومن يموت فجأة كهذا الوباء الذي حلّ محروسة فاس منتصف صفر الأحبّ من سنة إحدى وسبعين(1854م)، واستمر في تتبع أخبار هذا الوباء إلى منصرم شوال من نفس السنة، وفي غضون ذلك أشار إلى وفاة أحد أبناء السلطان مولاي سليمان محددا قرابته إلى الخليفة مولاي الحسن بقوله: "ومات في السابع والعشرين من رمضان أعف أولاد مولانا سليمان فرجا وأطهرهم إذا ركبوا سرجا...خال مولانا الخليفة سيدنا الحسن..." (4).

         ويضيف الباحث الحسن الفرقان قوله:" وتقودنا الإشارات إلى استخلاص ما يلي:

-      ويبدو أنّ المشرفي ألّف كتابه وانتهى منه بعد سنة 1855م، بناء على آخر وباء أرّخ له، وهو وباء الكوليرا لسنة (1854-1855م).

-      ذكره لاسم مولاي الحسن مقرونا بلقب الخليفة، وهو اللقب الذي أصبح يحمله بعد تولي والده محمد بن عبد الرحمن الحكم أواخر 1859م".

إنّ هذه الإشارات المهمة تعد بحق معالم يستند إليها الباحث والمؤرخ على حد سواء في معرفة الجو العام الذي كانت عليه النخبة العالمة آنذاك، وتوظيفها لمعطيات تاريخية تخدم موضوع البحث المراد دراسته أو الإشارة إليه(5).

3-           مصادر المؤلف:

         لقد اعتمد العربي المشرفي في كتابه " أقوال المطاعين" على جملة من المصادر المهمّة والمتنوعة التي خدمت موضوع بحثه، خصوصا تلك المؤلفات والمصنفات التي تطرقت لموضوع الطاعون والوباء في الكتابات العربية، باستثناء ما كتبه بعض علماء الفترة الوسيطة، من كتابات اتسمت في غالبيتها العقلانية في تناولها لموضوع الطاعون والعدوى مثل:أحمد بن علي ابن خاتمة، ولسان الدين ابن الخطيب، وعلي بن عبد الله ابن هيدور.

         من خلال قراءتنا المتواضعة حاولنا تقسيم مصادر المؤلف التي اعتمدها في مؤلفه إلى قسمين:

1-             مؤلفات احتوت على معلومات مبعثرة عن الطاعون والوباء كالقواميس اللغوية مثل: القاموس المحيط للفيروزآبادي، والصحاح للجوهري، وكتب السنة والحديث مثل فتح الباري لابن حجر، والتمهيد لابن عبد البر وغيرها، إلى جانب كتب الطبّ مثل تذكرة الأنطاكي والقانون في الطب لابن سينا.

2-            المؤلفات المتخصصة حول الموضوع: ولعل من بينها تلك التي تحدثت عن موضوع الطاعون: كتاب عمدة الراوين في بيان أحكام الطواعين لمحمد الحطاب الرعييني، كتاب بذل الماعون في فضل الطاعون لابن حجر العسقلاني. كتاب ما رواه الواعون في أخبار الطاعون لعبد الرحمن السيوطي، رسالة أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي، المعنونة بجواب في أحكام الطاعون.

         وقد ركّزت هذه المؤلفات في مجملها على تحليل النصوص الدينية المستوحاة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وأخبار السلف الصالح. ومن هذا المنطلق كانت التعليقات والإحالات غنية جدا، اعتبرت كمرجعيات عامة لأدبيات الطاعون  في الكتابات العربية كما يصفها بعضهم. حيث نجد الكثير من الكتب المهمة التي وظفت داخل متن الكتاب إلى جانب حشوه بعد كبير من الأعلام البشرية التي كان لها باع كبير حول موضوع الطاعون منذ البدايات الأولى للإسلام.

         وما يمكن التنبيه عليه هو أنّ العربي المشرفي قد استعمل بعض المصادر المهمة نكاد لا نلمسها عند غيره ممن تناولوا موضوع الطاعون، وكأمثلة على ذلك نذكر: كتاب "ورود الأخبار من جميع الأقطار" لمركيز، وهو كتاب نفيس اطلع عليه المشرفي وأخذ منه ما وجده مناسبا حول التجارب الطبية خلال وباء الكوليرا الذي ضرب الجزائر عام 1833م، أي بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر. إلى جانب اعتماده لتقييد مهم أُلِّف حين ظهور وباء الكوليرا، مشيرا إلى ذلك بقوله:" وقد أرّخت قضية صحيحة وقعت عند بعض البطون من بني يزناسن في وباء السبع والستين والمائتين والألف(1267هـ) تؤذن بصحة ما قيل وأنا يومئذ بجبلهم..." (6). إنّ هذا التقييد يبرز بشكل واضح شهادة المشرفي الحية حول تسرب وباء الكوليرا من الجزائر إلى المغرب الأقصى مبرزا الحالة العامة لهذا الوباء.

         وممّا تجدر الإشارة إليه كذلك هو توثيق المشرفي لبعض أخباره ورواياته خصوصا أثناء إخباره عن الوباء بقوله: "قد حكي لنا"، "وحدثنا من يوثق بهم"،" وأخبرنا مخبر صدق"، وهي عبارات كان يرمي من ورائها إلى إثبات مروياته الشفوية واعتمادها في حديثه عن الوباء. كما أنّ الكتاب لم يخل من بعض الاستطرادات الأدبية والتاريخية التي خدمت موضوعه، وهذا بسبب بعض المباحث التي حاول المشرفي أن يبرزها لنا ويعطيها حقها من الدراسة.

4-           محتوى الكتاب:

         لقد وضع المشرفي تصميما لكتابه" أقوال المطاعين" انطلاقا من حالة بلاد المغارب العامة أواخر القرن الثامن عشر وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي الحالة التي وصفها أبو القاسم سعد الله بالجمود والركود الفكري، وهو الأمر الذي أبطأ من خلق جو فكري وأدبي من شأنه أن يخلق بدوره تحولا علميا يعكس وجهة نظر النخبة العالمة من تلك الأوبئة والأمراض التي كانت تفتك من حين لآخر بأعداد عائلة من البشر. 

         إنّ المتمعن في كتاب " أقوال المطاعين" للمشرفي هو في الحقيقة صورة واضحة المعالم لمدونات ومصنفات النخبة العالمة خلال تلك الفترة، تعبر من خلالها عن الواقع المعاش آنذاك، كما تصور عقليات وذهنيات المجتمعات المغاربية إزاء تلك الأوبئة والأمراض وتمثلاتها في الماضي والحاضر. وباعتبار المشرفي ابن بيئته وعصره فقد استطاع إلى حد ما في إبداء تصور أولي لكتابه من خلال تصنيفه إلى مقدمة وسبعة فصول فخاتمة، وهي الطريقة التي دأب عليها من سبقوه ومن عاصوره، من خلال ربطه للمضامين السياسية بالسياق التاريخي العام الذي كتبت فيه تلك المصنفات(أقوال المطاعين). فالمؤلف في بداية كتابه يستعرض الوباء الذي عايشه انطلاقا من مناسبتين وباء الكوليرا في موجته الأولى 1834م، والموجة الثانية 1850م. قبل يقسّم العربي المشرفي كتابه إلى:

الفصل الأول: معنى الوباء لغة واصطلاحا.

الفصل الثاني: هل له وقت يغلب وقوعه فيه أو لا وقت له، والأمكنة التي يدخلها الوباء ولا يدخلها الطاعون؟.

الفصل الثالث: في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة فيد الدالة على الشهادة به، وعدة الشهداء، وتفاوت مراتبهم، وخصائص الشهيد وما يشترط لتحصيل الشهادة به، والجواب عن عدم دخوله مكة والمدينة مع كونه رحمة وشهادة.

الفصل الرابع: في ما تعل جبه أنواعه والرُّقى التي ترقى بها تلك الأنواع، والأدعية المأثورة عن العلماء فيه وبها يدعو الداعي.

الفصل الخامس: في ما يقع الحِجر به للصّحيح في وقته.

الفصل السادس: في عدم الفرار من أرض حلّ بها والإقدام لأرض هو بها، والأسباب الداعية له.

الفصل السابع: فيما يذكر حول الجنازة في التشييع للمقابر أو تحمل بالسُكوت، وهل هذا الوباء من أشراط الساعة؟.                                  

         لقد تطرق المشرفي في كتابه " أقوال المطاعين" إلى جلّ الآراء التي شكلت مرجعية أساسية في الموضوع، وذلك من خلال التعريف بالوباء من الناحية واللغوية واشتقاقاتها، مرورا بالتعريف الطبي المتعارف عليه علميا ووصولا إلى آراء الفقهاء العلماء فيه استنادا على أدلة من الكتاب والسنة يدعم بها قوله. بعدها يتعرض المشرفي إلى مسألة موسمية ظهور الأوبئة، وهي مسألة في غاية الأهمية، حيث نجده يعرض لنا عدة نظريات لأطباء وفلاسفة(النظرية الهوائية) ويناقشها ويرفضها مرجِّحًا رأيه انطلاقاً من وقائع عايشها هو نفسه خصوصا خلال تعرض مصر لوباء الكوليرا عام1849م(7).

         ويذكر لنا المؤلف نقطة مهمة جدا متمثلة في إقراره بالانتشار الجغرافي الواسع "الذي يميز الطاعون إلاّ أنه يستثني من ذلك بلاد الحجاز(مكة والمدينة). وهو الاستثناء الذي نكاد نلمسه في العديد من الكتابات العربية، التي استأثر بها عدد من العلماء والإخباريين منذ فجر الإسلام، والتي ترى في بلاد الحجاز مكانًا مقدسًا. وهي المسألة المهمة التي تطرق لها المشرفي في كل من الفصل الثاني والثالث من كتابه، مرتكزا في مناقشته لتلك المسألة على جملة من النصوص(كنصوص ابن حجر والحطاب) خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر؛ مبرزا الفرق بين الوباء والطاعون وعلاقة الكفار بالأماكن المقدسة، لينتقل بعدها إلى ذكر شهادته ومعاينته لإقامة النصارى بمكة سنة 1849م، مدعما في ذلك شهادته برواية أحد أقاربه الذي كان مقيما بمكة آنذاك(8).

         وفي الفصل الثالث نرى المشرفي في كتابه "أقوال المطاعين" يفصّل في تاريخية الطاعون وأصله الديني خلال مراحل الفكر العربي الإسلامي. وذلك من خلال اعتباره عقابًا إلهيًا على الكفار، ورحمة وشهادة على المسلمين، معتمدا على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكتب السنة. مبرزا مختلف الاجتهادات التي كتبت حول الموضوع. كما نجد المشرفي يذكر بإسهاب كبير مفهوم الشهادة ومراتب الشهداء ومختلف أحكام المذاهب الأربعة في ذلك(9).

         لقد خصصّ المشرفي في الفصل الرابع حديثه عن الأدوية الفعّالة لعلاج الطاعون، مبسطا تفصيله في الإشكال الفقهي انطلاقا من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بالفناء بالطاعون،  وذكر مختلف التفسيرات التي اجتهد فيها العلماء، متطرقا إلى الأعراض التي تظهر على المصاب بالطاعون، مستندا في ذلك على الأقوال المأثورة لدى الفقهاء والأطباء القدامى، مع ذكر فاعلية أنواع العلاج المتداولة آنذاك من عدمها، مثل الحجامة والفصد والتعوذ بالأحجار الكريمة، وتلاوة بعض الأدعية والآيات القرآنية المأثورة عن السلف الصالح. كما نجد المشرفي يناقش مسائل أخرى مهمة منها رفضه لمبدأ العدوى وكيفية عيادة المريض، إلى جانب تعرضه لمسألة جواز الدعاء برفض الطاعون وتفصيله فيها استنادا إلى أقوال الأئمة وأصحاب المذاهب الأربعة(10).

         وفي الفصل الخامس ينبّه المشرفي إلى قضية جوهرية، وهي قضية "الإرث ذات الصلة بالمصابين أو المفقودين خلال فترات الأوبئة. منطلقا من إمكانية اعتبار الطاعون من الأمراض المخوفة، وما تقتضيه القاعدة الشرعية" في هذا المجال. ثم الآثار الجانبية التي يخلفها مرض الطاعون على نفسية المريض(11).

         أمّا الفصل السادس فقد طرح فيه المشرفي مسألة جوهرية عن ظهور الوباء، ألا وهي مسألة الفرار من الطاعون إلى أراضي ليست موبوءة، وهو الحلّ الذي يراه الكثير ممن حلّ بهم وباء الطاعون، وربط المشرفي ظهوره بانتشار المعاصي(12).

         وفي الفصل السابع يذكر المشرفي لنا جردا عاما لأهم أوبئة الطاعون المشهورة في تاريخ الإسلام، كما نقل ما كتبه الحطاب وابن حجر حول شرح الألفاظ المبهمة والأعلام الواردة في كتبهم الأصلية، كما نجد المشرفي في آخر كتابه يذيله بموضوع الجنازة والتشييع والدفن، وهي إشارة من المؤلف إلى ظاهرة اكتظاظ المقابر وعدم استيعابها لأعداد الموتى خلال فترات الأوبئة(13).

5-           أهمية كتاب" أقوال المطاعين":

         تكمن الأهمية التاريخية لكتاب" أقوال المطاعين" لأبي حامد العربي المشرفي، كونه يجمع بين النقل من المصادر الكلاسيكية في موضوع الطاعون واحتوائه على شهادات حية من معايشة أوبئة فتاكة، فهو بذلك يعكس رأي فئة من النخبة العالمة ببلاد المغارب خلال القرن التاسع عشر، من مجموعة من القضايا المرتبطة بالأوبئة، ولعلّ أبرزها إشكالية تحديد الوباء ومسألة العدوى والاحتراز.

         بالإضافة إلى ما تضمنه كتاب " أقوال المطاعين" من وصف للأحوال الاجتماعية خلال فترات الوباء وتذبذب الواضع الديمغرافي، وهو ما يعكس تعاطي المغاربة مع مثل هذه القضايا. وما يزيد من قيمة الكتاب هو إيراد المشرفي لمجموعة من الإشارات التاريخية المهمة نذكر على سبيل المثال منها(14):

-  رصده للموجة الثانية من وباء الكوليرا خلال منتصف القرن 19م منذ ظهوره بالحدود الغربية للجزائر، والبلاد الشرقية للمغرب الأقصى.

-  تضمن كتاب المشرفي إشارات ومعلومات مهمة عن جوانب تتعلق بموضوع الحجّ المغربي إلى بلاد الحجاز، وهي معلومات تؤصل لتاريخ ركوب السفن التجارية وعلاقة ذلك بجشع شركات الملاحة الأوربية إلى جانب خضوع ركب الحجاج المغاربة ومعاناتهم القاسية بالمحاجر والمعازل الصّحية.

-  توالي بعض الصدمات الديمغرافية (الأوبئة والأمراض والمجاعات) على بلاد المغارب والتي كانت لها آثارا مباشرة على السير الحسن للحياة الاقتصادية. مما كان لها انعكاس واضح عن حالة الركود الناجم عن انخفاض الإنتاج والتراجع المفاجئ للطلب بسبب هلاك نسبة كبيرة من الساكنة سواء بالنسبة للفلاحيين أو الحرفيين.

-  إيراد المشرفي لآراء الفقيه حمدان بن عثمان خوجة الايجابي من الحجر الصحي، وتناوله بالتفصيل هذا الإجراء من الجانبين الشرعي والطبي.

-  ذكر المشرفي لوباء الطاعون والكوليرا الذي ضرب الجزائر والمغرب الأقصى خلال الفترة الممتدة ما بين (1833-1834)، وأهم الخسائر البشرية بمدينة تلمسان ومنطقة أنجاد وجبل بني يزناسن.

-  إثارة المشرفي لموضوع أدب الجنائز ودفن الموتى خلال فترات الأوبئة، حيث خصص المشرفي حيزا هاما من خاتمة كتابه لموضوع تشييع الجنائز، حيث أنّ تكاثر عدد الموتى يوميا كان يخل بقواعد آداب الدفن والجنازة. فهذا الاضطراب الذي عمّ أحوال المجتمع، لم يكن بالإمكان لدى العامة إقامة جنازة لكل ميت وفق الأصول المتعارف عليها.

-  وكما يقال مصائب قوم عند قوم فوائد، فسبب مخلفات وباء الطاعون والكوليرا، ظهرت فئات اجتماعية أخرى استفادت من ذلك، وهم حفارو القبور، وذلك بسبب كثرة المصابين والموتى وغياب من يقوم بعملية الدفن، والسهر على إسعاف المرضى وإقامة جنائزهم.

         لقد شكلت الصدمات الديمغرافية التي عاشتها بلاد المغرب العربي من جرّاء موجات الطاعون والكوليرا، إلى جانب المجاعات وأوبئة أخرى، عاملا مهما في هشاشة البنية التحتية للمجتمع المغاربي دون تحقيق نمو ديمغرافي، وهذا من شأنه له انعكاس سلبي على الأوضاع السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية.

6-           وسائل الوقاية والعلاج على المستوى الفردي(الشعبي):

         كان الطب التقليدي من بين وسائل العلاج المتداولة آنذاك، وهي في مجملها عبارة عن مجموعة من المعارف والسلوكات، اكتسبت عن طريق التجربة المعاشة، وعلى ما كان يحكى ويروى ويكتب لدى الأطباء والحكماء الأقدمين. لقد كانت وسائل العلاج التقليدية (الشعبية) خلال فترات الأوبئة تتوزع بين علاجات موضعية آنية (بين تبخير وشم كالقطران، الكبريت، والشمع الخام،...) واستهلاك للأدوية المستخلصة أساسا من النباتات والأعشاب الطبيعية، وبين العلاجات الروحية كتعليق التمائم والتعاويذ وقراءة الأدعية والأذكار(15).

         كما نجد المشرفي يورد علاجا آخر لمرض الطاعون على سبيل المثال، وذلك من إيراده لرأي ابن سينا في هذا الشأن بقوله:" وصرّح ابن سينا بأن أول شيء يبدأ به في علاج الطاعون الشرط إن أمكن، فيسيل ما فيه ولا يترك يجمد فيزداد سمية، فإن احتاج إلى مصّه بالمحجمة فليفعل بلطف...ويعالج بالاستفراغ بالفصد لما يحتمله الوقت أو  يوخز بما يخرج الخلط،..."(16).

         كما كانت عملية الفصد التي نجدها في جلّ التآليف الطبية خلال الفترة السالفة الذكر، من بين الأشكال الإجرائية لعلاج الوباء، التي لم تكن تتعارض مع النصائح التي كانت بداية القرن العشرين. ولعلّ أنّ غالبية تلك الوسائل التقليدية بقيت عاجزة على التصدي لمثل هذه الآفات، وهو ما جعل بعضهم يعتبرون الوباء عقابا إلهيا نتيجة المعاصي المرتكبة، لذلك تتحول بعض الأدعية والصلوات والابتهالات كوسائل ناجعة لرفع الغضب الإلهي. ومن هنا اعتبر المشرفي أنّ أول ما ينبغي على الإنسان القيام به هو المبادرة إلى التوبة وردّ المظالم، والتخلص من التبعات والوصية. منبها إلى أنّ هذا السلوك مطلوب في كل وقت وحين، ويتأكد عند وقوع الأمراض. ثم ينصح بأشكال من الرقى والتعاويذ التي تحفظ المريض من أذى الطاعون.

         كما كانت حالة الحمى القوية والإسهال الحاد، توجب على المصاب بالوباء، استعمال كل ما يخفض درجة حرارة الجسم، وتطهير الأمعاء من الجراثيم بالوسائل المتعارف عليها آنذاك. ويتضح ذلك من خلال ما ذكره المشرفي بقوله:"...لم أر للوباء أنفع من البنفسج يدهن به ويشرب...يعالج الطاعون بما يبرد، وبإسفنجة مغموسة في خلّ وماء أو دهن ورد  أو دهن تفاح أو دهن آس"(17).

7-           وسائل الوقاية والعلاج على مستوى الطب الحديث(الأكاديمي):

         مما لاشك فيه أنّ استيعاب مضامين بعض المدونات الطبية المشهورة في الكتابات العربية القديمة؛ كانت من بين الحوافز الأساسية التي كانت كافية لعدد من العلماء والفقهاء الاطلاع عليها والاستعانة بها في مهام التطبيب، إلى جانب اكتساب الخبرة والتجربة. ولعلّ من أبرزهم أبو حامد العربي المشرفي الذي ذكر أنه مارس التطبيب والمداواة خلال كوليرا سنة 1868م(18).

         كما أشار  العربي المشرفي  إلى إحدى تجليات الوباء في الحركة الديمغرافية السكانية، بقوله:" ومن أجل ذلك يخرجون من البلاد المستوخمة التي لا تكون بساحل بحر كمغنية، ويقصدون المنازل البحرية، إذا دخل الخريف لعدم صحة الهواء فيه"(19).

التدابير والإجراءات الصّحية المتخذة من طرف السلطة:

         نظرا للوضع العام والسائد آنذاك كان من الضروري اتخاذ بعض التدابير والإجراءات الصحية المتعددة الأشكال؛ بغية الحدّ من انتشار الأوبئة والأمراض. وقد اعتبرت تلك الإجراءات رادعا مهما من شأنه أن يقوض مسار انتشار تلك الأمراض، التي كان لها انعكاس واضح على الساكنة آنذاك. لقد كانت هذه الحزمة من الإجراءات الصحية المتخذة انعكاسا مؤثرا على السير العادي  للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، مثلما توضحه لنا الوثيقة رقم:1(20)، والتي تهدف إلى تمديد مدة الحجر الصحي المفروض على البضائع القادمة من الجزائر وتونس والوافدة إلى المغرب وإلى الدولة العثمانية من خمسة أيام إلى عشرة أيام؛ وذلك بسبب استمرار تفشي وباء الكوليرا والطاعون.

         لقد كانت تلك الإجراءات المتخذة من طرف السلطة(الفرنسية) تتخذ أحيانا شكل العصيان والتمرد؛ وهذا نظرا لأنها كانت تعيق حرية التنقل وتحرم عددا من السكان بالقيام بأمورهم اليومية والتي كانت تشكل غالبا موارد عيشهم بالدرجة الأولى (عرقلة سير الأسواق، التضييق على الحركة التجارية، تقليص التزود بالمواد الغذائية).

         ولم يكن رد الفعل أقل نفورا بالنسبة للإجراءات الصّحية والطبية الأخرى التي أفرزتها إشكالية التعامل مع الأوبئة والأمراض. خاصة ما تعلق منها بدفن الجثث مثلاً، إلى جانب إجراء التجارب التشريحية لمحاولة فهم هذا الوباء.

 

طنجة 1818م

الجزائر 1817م

السكان

العدد

    الموتى

 

العدد

الموتى

 

 

 

العدد

النسبة

 

العدد

النسبة

المسلمون

6.860

1.970

28

41.000

13.518

33

اليهود

1.525

257

16

7.000

1.771

27

المسيحيون

115

7

6

2.000

540

27

المجموع

8.500

2.214

26

50.000

15.829

31

         إذا حاولنا أن نقارن بين طنجة عام 1818م والجزائر عام 1817م من خلال الجدول التالي، فإنه يتبين لنا أنّ "الحصيلة الكلية للخسائر تقل عن تلك التي قدمها  لنا البعض، وتقل كذلك عن تلك التي سجلت لنا في مدينة الجزائر". حيث خلف هذا الوباء ما بين 40 إلى 60 ضحية في اليوم، ليتوسع بعدها إلى كل من بونة ووهران، ثم انتشر في كل نواحي الجزائر مع قوافل الفارين. وهذا بسبب تفاقم وتوالي الأوبئة على الجزائر، وتلمسان وإقليم وهران وحتى تونس قبل ذلك؛ فمن 1670 إلى 1700، تفشى الوباء بقوة في تونس والجزائر وفي مصر كذلك، وخلال سنوات 1738، 1740، 1741، تعرضت الجزائر وتلمسان ووهران إلى وباء الطاعون، وما أن حلت سنة 1742، حتى دفع المغرب ضريبته من الوباء. ومع سنة 1798 تفشى وباء الطاعون بتلمسان حسب رواية رينو(Raynaud).


وباء الجزائر عام 1818م

         وعن طبيعة وباء الطاعون يصفه لنا المشرفي بقوله:" فكان موته موت بغتة وفجأة، كم من واحد مات فيه بالحيرة والدهشة؛ حيث يرى الإنسان أخاه يمشي صحيحا فيسقط، وقل من جاوز في تلك المدة أربعة وعشرين ساعة...وبنفس ما ينقا سبه الإنسان فيتغير حاله وتشوه خلقته وتقع اللكنة في لسانه فيلجلج مقاله، وتزبخر أظفار يديه ورجليه، كأنها صبغت بنيلة. ولما يرى الصحيح تشويه خلقة المريض يحصل له الجزع والفزع ويختل عقله وتكاد النفس منه تفيض"(21). لقد أحس معاصيرو هذا الوباء على أنهم يواجهون وباء جديدا، ذو أعراض مخيفة فتاكة. ولعل تلك الأعراض التي ذكرها المشرفي آنفا؛ إنما هي في الحقيقة أوصاف رئيسية مميزة، لا تختلف كثيرا عما تصفه لنا الدراسات الحديثة اليوم عن وباء الطاعون هذا من جهة.



من خلال هذا الرسم البياني يتبين لنا حجم وباء الطاعون والكوليرا ببلاد المغارب ابتداء من سنة 1717 إلى غاية 1732، وهي مرحلة مهمة من تاريخ الوباء بهذه البلاد؛ نظرا للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي آلت إليه المنطقة ككل. إلى جانب الاضطرابات المناخية والطبيعية.

         ولعلّ من جهة ثانية يذكر المشرفي أنه كان لتزامن ظهور الكوليرا بالجزائر سنة 1833 مع تقدم قوات الاحتلال الفرنسي أثره الواضح في تعميق الشعور بأنّ اجتماع المصيبتين في آن واحد هو من علامات الفناء، حيث عبّر المشرفي عن تفضيل أهل الجزائر الموت على الخضوع للاحتلال بقوله:"يود أهل الواسطة لو يموت منهم كل يوم كذا وكذا فجأة وهم تحت راية الإسلام، ولما عاشوا أصحاء وهم تحت أحكام عبدة الأصنام...وفي المثل السائر: أتى الوادي فطمّ على القري. ويحهم اجتمعت عليهم مصيبتان: تملك عباد المسيح، وافتتانهم بهذا الموت كل سنة لافتتانهم"(22).

         كما يشير المشرفي إلى التذمر الحاصل من الأخبار الرائجة حول مدينة تلمسان خلال وباء الكوليرا لعام 1850-1851، حول منع السلطات الفرنسية الخروج في الجنائز لدفن الضحايا بهدف تفادي الاحتكاك بين السكان خلال هذه التجمعات وبالتالي انتقال الوباء وانتشاره، كما اعتبر المشرفي هذا الإجراء مسا خطيرا بقدسية الواقع الديني للجزائريين، ومحاولة فرنسة وطمس الهوية الإسلامية، بقوله:" وحدثنا من يوثق بهم، وقد حضر لهذا الوباء بتلمسان أعادها الله كما كانت قبل دار إيمان وإحسان سنة 1267ه، أنّ الكفرة  أخزاهم الله ودمرهم، نهوا المسلمين عن إخراج موتاهم للقبور بـ:" لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: أرعبتم النصارى بمقالتكم هذه وقطعوها عنهم، ولا زالوا يخرجون موتاهم ولا يذكرون أمامهم الشهادة". كما استنكر المشرفي قيام الأطباء بتشريح جثة إحدى ضحايا الكوليرا من منطلق عدم احترام حرمة الميت والإسراع بدفنه كما جرت به العادة. 

         ومن بين الإجراءات المتخذة أيضا من طرف السلطة(الفرنسية) أيضا، والتي تضاربت حولها الآراء، مسألة تفريق التجمعات خلال فترة الأوبئة. حيث نجد العربي المشرفي يرفض جملة وتفصيلا رأي القائلين بمسؤولية اجتماع الناس خلال الحروب والمواسم الكبرى في نشر الوباء بقوله:" كما قالوا بزعمهم الفاسد أنّ سبب الوباء اجتماع الناس للملاحم فتراهم يفرقون جيوشهم فيه...وينهون عن اجتماع الجموع للمواسم في هذا الفصل الخريفي كموسمي البداوي والدسوقي المعلومين"، ليخلص إلى الجزم بالقول:" ولا زلنا نسمع باجتماع الناس في المواسم والملاحم ولا وقع بهم ما زعم حكماء الفلاسفة من الوباء في هذه المحافل السالفة"(23).

         ومن بين أهم الإجراءات البارزة بالجزائر خلال القرن 19م، هو ما كان يعرف بالعزل الصّحي الذي  صار إجباريا على الحجاج المغاربة عند عودتهم من المشرق(الكرنطية). حيث أصبح المشرق العربي من بين المحطات الأساسية لانتقال الطاعون والكوليرا من الشرق إلى الغرب، خصوصا انتقال المرض مع الحجاج القادمين من آسيا إلى جموع الحجاج القادمين من مختلف الجهات الإسلامية ومنها دول المغارب.

         لقد "كانت القوافل البرية بمثابة محجر صحي متنقل تخمد الأوبئة تدريجيا في الصحاري مع طول مدة السفر، وكان على الحجاج المغاربة قضاء حوالي أربعة أشهر للعودة من الإسكندرية إلى بلادهم، كما كان عامل السرعة عاملا مهما في  ومساعدا على نشر تلك الأوبئة الفتاكة"(24). ومع التطور الذي شمل الإصلاحات الصحية الأوربية خلال القرن19م، أصبح الحجر الصحي عاملا أساسيا لا يستغنى عنه ضمن اللوائح الصحية، ومحاولة فرضها على الدول المجاورة لاسيما دول شمال إفريقيا.

         ولقد سجّل المشرفي استنكاره لموافقة محمد علي باشا والي مصر على إقامته للمحجر الصّحي بميناء طور عام 1849، وهو الإجراء الذي عاينه وعاين تفاصيله عندما تمّ عزل القادمين من الحجاز لتفادي انتشار العدوى بالكوليرا التي كانت منتشرة آنذاك. ولم تكن ردود الفعل من الحجر الصّحي بالمشرق العربي مخالفة لنظيراتها ببلاد المغارب، وهذا ما نلمسه عند الجبرتي من خلال تعرضه للبلبلة الاجتماعية التي سادت مع فرض الفرنسيين لهذا الإجراء بمصر خلال طاعون نهاية القرن18م.

         من خلال تلك  المواقف المختلفة والمتضاربة حول تلك التدابير الصّحية؛ نجد حمدان بن عثمان خوجة "يتخذ موقفا إيجابيا من الحجر الصّحي وتناوله بالتفصيل ضمن مؤلفه الخاص(إتحاف المنصفين والأدباء في الاحتراس عن الوباء)؛ حيث حلل فيه الإجراء السالف الذكر، مبرزا الجانب الشرعي والطبي من ذلك، حيث نجده يعرّف المحجر الصّحي وتبيان أهدافه الوقائية قائلا:" اشتهر في بلاد الفرنج الاحتماء عن الوباء، وأعدوا لذلك موضعا سموه" كرتينة" وحقيقتها؛ إنما هي الاحتماء والاحتراز وجعلوا ذلك المحل في مداخل الداخلين إليهم..." (25)، مدعما قوله بالآثار النبوية الشريفة.

         إنّ من بين الآثار الديمغرافية والاجتماعية التي خلفتها أوبئة الطاعون والكوليرا ببلاد المغارب خلال القرن19م، توجب على الباحثين والمهتمين بهذا النوع من الحقول المعرفية القيام بعمليات رصد لتلك الخسائر الفادحة التي خلفتها تلك الأوبئة. رغم إقرارنا بقلة المعلومات الإحصائية في كتابات هذه الفترة. ولعلّ مخطوط  " أقوال المطاعين" يعد وثيقة أساسية ومهمة في مساعدة الباحثين على استقراء مختلف الخسائر الديمغرافية الناتجة عن الأوبئة. وهنا نجد العربي المشرفي يصف لنا قوة وبشاعة الدمار الديمغرافي بكل من المغرب والجزائر خلال الموجة الأولى لكوليرا 1833-1834 التي باغتت الساكنة الحضرية في كل من مدن معسكر، ووهران، والجزائر، التي تتميز بالكثافة السكانية الكبيرة القابلة للاحتكاك.

         تشير الباحثة فلة موساوي القشاعي عند معرض حديثها عن خصائص دورة أوبئة الطاعون وسلم حدتها؛ مفصلة كل قرن على حدى، فمثلا خلال القرن السابع عشر تقول الباحثة:" إنّ القرن السادس عشر تميز في تاريخ الجزائر بكونه فترة تأصل وتجذر لمرض الطاعون في مناطق عديدة منها مدينة الجزائر وضواحيها وجهات وهران وتلمسان وبعض النواحي من الشرق الجزائري". وتواصل الباحثة حديثها عن وباء الطاعون بقولها:" هذا وقد اصبح الطاعون ظاهرة عامة ما بين سنتي 1557 و1575، بعد أن اجتاح مناطق جديدة ظلت في منئ عن الاصابة بمرض الطاعون(26).

         وما يمكن الاشارة إليه هو أنّه  يمكن اعتبار النصف الثاني من القرن السادس عشر فترة تميزت بانتشار الأوبئة، حيث استقر خلالها وباء الطاعون ثمانية عشر سنة بوهران وتلمسان والجزائر، وكانت سنة 1572 أكثر السنوات تأثرا بالطاعون، إذ هلك من جرائه ثلث سكان إيالة الجزائر حسب بعض الروايات. وطيلة الربع الأخير من القرن السادس عشر ظلّ الطاعون ظاهرة مؤثرة في المجتمع، ليتراجع بعدها طيلة ست سنوات(1584-1590)، رغم الجفاف والمجاعات التي كانت متفشية خلال تلك الفترة السالفة الذكر(27).

         ومع بداية القرن السابع عشر تميزت هذه الفترة بتعاقب وباء الطاعون بداية من سنة 1601 إلى غاية سنة 1707 وهي فترة خموده رغم استمرارية ضرباته في كل من تونس ومصر وطرابلس. معنى ذلك أنّ الجزائر خلال هذه الفترة عانت من ويلات هذا الوباء مقارنة بوباء القرن السادس عشر(28).

         ومع القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر تكر ظهور وباء الطاعون حيث " بلغ مجموع السنوات التي اعتبرت موبوءة خلال هذا القرن 63 سنة في مدينة الجزائر وحدها" لينتشر بعدها في كامل البلاد الجزائرية شرقا وغربا(29).

         ومن هنا يمكننا أن نميز بين القرن التاسع عشر الذي كانت نسبته أكبر من أوبئة الطاعون، حيث فاقت سنوات ظهور الطاعون سبعين سنة مقابل ثلاث وستين سنة خلال القرن الثامن عشر، وأربعين سنة خلال القرن السادس عشر(30).

خلاصة:

         ما يمكن أن نخلص إليه هو أنّ وباء الطاعون أثرّ على الوضعية الصّحية للجزائر خلال العهد العثماني، ممّا جعل ظهوره يتكرر من حين لآخر عبر فترات زمنية مختلفة؛ فتارة ينقطع وتارة أخرى يزداد حدة. مما كان له انعكاس واضح على الوضع الاقتصادي للبلاد آنذاك ومن ثمّ على الوضع الاجتماعي. وهناك من اعتبره مظهرا من مظاهر البيئة الجزائرية، نظرا لتكرار ظهوره باستمرار.

الهوامش:

1)      حسن الفرقان، أدبيات الوبئة في مغرب القرن19 نموذج اقوال المطاعين في الطعن والطواعين للعربي المشرفي، دراسة وتحقيق، منشورات دار التوحيدي، مطبعة سليكي أخوين، طنجة، ط1، ص:97.

2)   العربي المشرفي، الحسام المشرفي، لقط لسان الساب العجرفي الناطق بخرافات الجعسوس سيئ الظن أكنسوس، خ ع ضمن مجموع مخطوط خ ع، رقم: 2276ك. ص:214.

3)   العربي المشرفي، نزهة الأبصار لذوي المعرفة والاستبصار تنفي عن المتكاسل الوسن، في مناقب سيدي أحمد بن محمد وولده الحسن، خ ع، 579 ك. ص:501.

4)   حسن الفرقان، المصدر السابق، ص:98.

5)   العربي المشرفي، أقوال المطاعين، ص:19ب.

6)   حسن الفرقان، المصدر السابق، ص:98.

7)   حسن الفرقان، المصدر السابق، ص:107.

8)   المصدر نفسه، ص:107.

9)   المصدر نفسه، ص:108.

10)    المصدر نفسه، ص:108.

11)    المصدر نفسه، ص:109.

12)    المصدر نفسه، ص:109.

13)    المصدر نفسه، ص:109.

14)    المصدر نفسه، ص:109.

15)    المصدر نفسه، ص:109.

16)    العربي المشرفي، أقوال المطاعين، ص:91ب- 92أ.

17)    نفسه، ص:91ب.

18)    العربي المشرفي، نزهة الأبصار، خ ع 579، ص:56.

19)    حسن الفرقان، المصدر السابق، ص:149.

20)    الوثيقة نقلا عن الأمين بزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كلية الآداب والعلوم الانسانية الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 1970.

21)    حمدان بن عثمان خوجة، إتحاف المنصفين والأدباء في الاحتراس عن الوباء، تقديم وتحقيق: محمد بن عبد الكريم، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1968.ص ص:79- 80.

22)    العربي المشرفي، أقوال المطاعين، ص:28ب.

23)    عبد الحميد حدوش، الهدر الديموغرافي في العالم الإسلامي: وسائله وحصيلته من خلال "أقوال المطاعين في الطعـن والطواعين، للعربي المشرفي، رسالة مرقونة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة 2002، ص ص:37-27.

24)    العربي المشرفي، أقوال المطاعين، ص:28ب.

25)    حمدان بن عثمان خوجة، إتحاف المنصفين، ص ص: 79- 80.

26)    فلة موساوي القشاعي، وباء الطاعون في الجزائر العثمانية، دوراته وسلم حدته وطرق انتقاله، مجلة دراسات انسانية، كلية العلوم الانسانية، جامعة الجزائر، مطبعة دار الحكمة، الجزائر، السنة الأولى، ع1، 2001. ص:138.

27)    نفسه، ص:139.

28)    نفسه، ص:139.

29)    نفسه، ص:141.

30)    لتفاصيل أكثر عن الموضوع يراجع: برنار روزنبرجي وحميد التريكي، المجاعات والأوبئة في مغرب القرنين 16 و17م، تر: عبد الرحيم حزل، منشورات دار الأمان، الرباط، ط2010. إميل كيرن، رحلة مراقب صحي إلى المغرب 1911م، ترجمة وتقديم بوشعيب الساوري، منشورات القلم المغربي، ط1، 2011. كريدية ابراهيم، أمثلة من: مجاعات وأوبئة وكوارث ضربت آسفي وباديتها، منذ الاحتلال البرتغالي وحتى عام البون، جمعية آسفي للبحث في التراث الديني والتاريخي، مطبعة نورسفي، ط1، 2008.

Renaud ( H. P. J), La peste de 1799 au Maroc, in Hesperis, 1921, p. 167.    Marchika (j.) :La peste en Afrique septentrionale ;histoire de peste en Algerie de 1363 à 1830 ; Alger, 1927.

محمد بن أحمد أكنسوس الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا علي السجلماسي، تقديم وتحقيق وتعليق، أحمد بن يوسف الكنسوسي. ج. 1 ص:281. عبد الرحمان بن محمد الجلالي، تاريخ الجزائر العام، دار الثقافة، بيروت، 1980 ،ج3، ص ص:262-263.

 

Pdf 

ليست هناك تعليقات