تعريف الأنثروبولوجيا الاجتماعية‏

 الأنثروبولوجيا الاجتماعية   


أولاً- تعريف الأنثروبولوجيا الاجتماعية‏


تعرّف الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّها : دراسة السلوك الاجتماعي الذي يتّخذ في العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة، ونسق القرابة، والتنظيم السياسي، والإجراءات القانونية، والعبادات الدينية، وغيرها. كما تدرس العلاقة بين هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية، التي يوجد لدينا عنها معلومات مناسبة من هذا النوع، يمكن معها القيام بمثل هذه الدراسات. (بريتشارد، 1975، ص13)‏

ولذلك، فمن الضروري في دراسة الإنسان وأعماله، أن نميّز بين عبارة ” ثقافة ” وعبارة ” مجتمع ” المرافقة لها. فالثقافة – كما في تعريفاتها – هي طريقة حياة شعب ما، أمّا المجتمع فهو تكتّل منظّم لعدد من الأفراد، يتفاعلون فيما بينهم ويتبعون طريقة حياة معيّنة .. وبعبارة أبسط : المجتمع مؤلّف من أناس، وطريقة سلوكهم هي ثقافتهم .‏

وهنا تعدّ تصنيفات المؤسّسات والأنظمة الاجتماعية، أدوات نافعة للأغراض الوصفية، كما أنّ التعميمات بالنسبة للعلاقات المتداخلة والمتبادلة بين النماذج والمؤسّسات، تساعد في الاهتداء إلى نوع من النظام وسط أوضاع تبدو مشوّشة وغامضة، وفي زيادة الفهم الحقيقي للعمليات الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، يعتمد هذا الفهم على دراسة النسق الكلّي الذي يؤلّف النظام الاجتماعي جزءاً منه. ويضمّ هذا النسق ثلاثة عناصر متميّزة، هي : شخصيّات الأفراد الذين يؤلّفون المجتمع، والبيئة الطبيعية التي يتعيّن على المجتمع أن يكيّف حياته وثقافته معها، وأخيراً المجموعة الكاملة من الوسائل الفنيّة اللازمة للمعيشة، التي تضمن استمرار بقاء المجتمع عن طريق نقلها من جيل إلى جيل. (لينتون، 1964، ص 357 )‏

ولكن، هل يمكن أن نفصل على هذا الشكل بين الإنسان كحيوان اجتماعي، والإنسان كمخلوق ذي ثقافة؟ أليس السلوك الاجتماعي في الواقع سلوكاً ثقافياً؟ ألم نرَ أنّ الحقيقة الكبرى في دراسة الإنسان ، هي الإنسان نفسه أكثر ممّا هي مُثُل الإنسان أو نظمه، أو حتى الأشياء المادية التي نجمت عن ارتباطه بتكتّلات نسمّيها ” مجتمعات “؟‏

فالنظام الاجتماعي إذن، هو التعبير التقني الأنثروبولوجي الذي يدلّ على المظهر الأساسي في حياة الجماعة الإنسانية، وهو يشمل النظم التي تؤلّف إطاراً لأنواع السلوك جميعها، سواء كان فردياً أو اجتماعياً. (هرسكوفيتز، 1974، ص 20-21)‏

إنّ اللغة والحياة الاجتماعية المنظّمة، زوّدتا الإنسان بأدوات لنقل الثقافات، مهما بلغت من التعقيد، والمحافظة على تراثها بصورة غير إيجابية. وعملت الحياة الاجتماعية أيضاً على جعل الإنسان في حاجة إلى إرث اجتماعي، يفوق في ثروته ما تحتاج إليه الحيوانات. وتمّت المحافظة على المجتمعات البشرية، بتدريب أجيال متلاحقة من الأفراد .. ولذا كانت المجتمعات، هي نفسها، حصيلة الثقافة. (لينتون، 1964، ص 119 )‏

وبناء على ذلك، تهدف دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى تحديد العلاقات المتبادلة بين هذه النظم، سواء في المجتمعات القديمة التي تدرس من خلال آثارها المادية والفكرية، أو في المجتمعات الحديثة والمعاصرة، التي تدرس من خلال الملاحظة المباشرة لمنجزاتها وتفاعلاتها الخاصة والعامة.‏

ثانياً-نشأة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وتطوّرها‏

يعدّ اهتمام الأنثروبولوجيا عامة، والأنثروبولوجيا الاجتماعية خاصة، بدراسة المجتمعات الإنسانية، وعلى المستويات الحضارية كافة، منطلقاً أساسيّاً من فلسفة علم الأنثروبولوجيا وأهدافها، ولا سيّما دراسة أساليب حياة المجتمعات المحلية، إلى جانب دراسات ما قبل التاريخ، ودراسات اللغات واللهجات المحلية .. وهذا ما يميّز الأنثروبولوجيا من العلوم الإنسانية / الاجتماعية الأخرى، ولا سيّما علم الاجتماع .‏

ويوصف علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية بأنّه علم حديث العهد، لا بل من أكثر العلوم الاجتماعية حداثة. فقد استخدم مصطلح (الانثروبولوجيا الاجتماعية) للمرّة الأولى في عام /1980/ عندما كرّمت جامعة ليفربول في بريطانيا السيد / جيمس فريزر/ ومنحته لقب الأستاذ.‏

ومماّ يدلّ على حداثة هذا العلم الذي يدرس الجانب الطبيعي / التطبيقي، من البنى الاجتماعية، ذلك الاختلاف الذي ما يزال قائماً بين علماء الاجتماع حول هذه التسمية : (الأنثروبولوجيا الاجتماعية ). ولكن على الرغم من حداثة هذا العلم، فقد مرّ بمراحل متعدّدة أسهمت في نشوئه وتطوّره واستكمال عناصره إلى حدّ بعيد، بدءاً من القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر.‏

1_ القرن الثامن عشر :‏

تعدّ الدراسات التي أجريت في القرن الثامن عشر حول الأبنية الاجتماعية، وأنساق القيم السائدة فيها، من أهمّ الدراسات التي مهّدت لظهور الأنثروبولوجيا الاجتماعية. وكان في مقدّمتها كتاب ” روح القوانين ” الذي ألّفه / مونتسيكو / عالم الاجتماع الفرنسي، والذي أكّد فيه أنّ المجتمع البشري وما يحيط به، يتكوّن من مجموع نظم مترابطة، بحيث لا يمكن فهم القوانين عند أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درست العلاقات التي تحكم هذا النظام أو ذاك، بما فيها البيئة والحياة الاقتصادية، والسكان والمعتقدات والأخلاق السائدة، حيث ميّز الفيلسوف الفرسي /مونتسيكو/ بين البناء الاجتماعي والنظام القيمي، على الرغم من العلاقة بينهما. وأوضح أنّ المجتمع ذاته وما يحيط به، يتكوّن من نظم يرتبط بعضها ببعض ارتباطاّ وظيفيّاً، وبالتالي لا يمكن فهم القانون العام لدى أي شعب من الشعوب، إلاّ إذا درسنا العلاقات بين هذه القوانين كلّها، ومن ثمّ دراسة علاقة تلك القوانين بالبيئة الطبيعيّة والحياة الاقتصادية، وعدد السكان والأعراف والتقاليد السائدة أو التي كانت سائدة .( الجباوي، 1982، ص101)‏

ولكن / سان سيمون / عالم الاجتماع الفرنسي أيضاً، يعدّ أول من رأى ضرورة إنشاء علم للمجتمع، واقترح إنشاء علم وضعي للعلاقات الاجتماعية. واعتبر أنّ مهمّة علماء الاجتماع لا تقتصر على دراسة المفاهيم والتصوّرات الاجتماعية فحسب، وإنّما يجب أن تشمل تحليل الوقائع والحقائق التي تعزّزها.‏

وإذا كان/ سيمون / لم يقصد تماماً إنشاء علم / الأنثروبولوجيا الاجتماعية/ وإنّما قصد إيجاد علم خاص يدرس النظم الاجتماعية وعلاقاتها دراسة موضوعيّة، فإنّ ذلك تحقّق فعلاّ بجهود تلميذه / أوغست كونت / .‏

هذا في فرنسا .. أمّا في إنكلترا، فقد ظهرت دراسات تمهيدية لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما أبحاث / دافيد هيوم وآدم سميث/ حيث نُظر إلى كلّ مجتمع إنساني على أنّه نسق طبيعي ينشّأ من الطبيعة البشرية، وليس عن طريق التعاقد. ولذلك انتشرت مفاهيم جديدة، مثل : الأخلاق الطبيعية والدين الطبيعي. واعتبر المجتمع (أي مجتمع إنساني) ظاهرة طبيعية، لا بدّ من استخدام المنهج التجريبي والاستقرائي، عند دراسته بدلاّ من المناهج العقلية / الفلسفية .‏

وظهرت في هذه المرحلة التمهيديّة بوادر الاهتمام بالمجتمع البدائي، اعتماداً على رحلات الاستكشاف للآثار والمتاحف والمصادر المختلفة. وقد نُظر إلى الإنسان البدائي على أنّه متوحّش في مجتمعه، وهمجي في سلوكاته .. يتناقض كليّة مع إنسان المجتمع المتمدّن والمتقدّم. وخير مثال على ذلك، ما كتبه / جون لوك / عن الهنود الحمر في أمريكا، حيث أصدر أحكاماً عامة وغير دقيقة، عن هذه الشعوب البدائية .‏

والخلاصة، إنّ علماء القرن الثامن عشر وفلاسفته، مهما تكن آراؤهم، مهّدوا بشكل أساسي لظهور علم دراسة الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وذلك نتيجة لاهتمامهم بالنظم الاجتماعية من جهة، واعتبارهم المجتمعات الإنسانية أنساقاً طبيعية، في إطار (الطبيعة البشرية) من جهة أخرى يجب أن تدرس من خلال المناهج التجريبية، على الرغم من أنّ دراسات هؤلاء المعنيين كانت بعيدة عن طبيعة هذه المناهج، وكانت تعتمد على التحليل الصوري (الشكلي ).‏

2-القرن التاسع عشر :‏

يعدّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فترة نشوء الأنثروبولوجيا كعلم معترف به .. وقد أسهم في ذلك صدور العديد من الدراسات والكتب التي بحثت في هذا العلم وحدّدت معالمه الأساسية، ولا سيّما مؤلّفات كلّ من (تايلور وماكلينان) في إنكلترا، و (بافوفين) في سويسرا، حيث اهتمّ هؤلاء بجمع المعلومات عن الشعوب البدائية، وأبرزوها بصورة منهجية منظّمة، من خلال دراسة النظم الاجتماعية، وفي حدود الأبنية الاجتماعية لهذه المجتمعات، وليس في حدود الفلسفة وعلم النفس. فوضعوا بذلك أسس علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية.‏

فقد فسّر / ماكلينان / مثلا : تحريم زواج المحارم في بعض هذه المجتمعات البدائية (نظام الزواج الأكسوجامي )، استناداً إلى ظواهر اجتماعية أو عقائد خاصة بتلك المجتمعات، رافضاً إرجاعه إلى أسباب بيولوجية أو نفسية. كما أنّ طريقة الزواج التي تتمثّل في عملية خطف العروس، لم تستند إلى نظريات نفسية أو فلسفية، وإنّما ترجع إلى عادات مترسّبة من الماضي في ممارسة السبي والاغتصاب. (لطفي، 1979، 82)‏

ولم يكن رواد الأنثروبولوجيا الاجتماعية في القرن التاسع عشر، يستخدمون الدراسات الميدانية، بل اعتمدوا على أقوال الرحالة والمستكشفين ورجال الإدارة .. ولذلك، تعدّ هذه المرحلة فترة نشوء هذا العلم، وليست فترة كماله ونضجه، لأنّ الدراسات الميدانية / التطبيقية تعدّ من الركائز الأساسية لتكامل هذا العلم، بطبيعته ومنهجيّته .‏

وقد تميّزت هذه المرحلة بظهور مدرستين متداخلتين، هما : النشوئية والتطوريّة. ويعود تداخلهما إلى أنّ العالِم الأنثروبولوجي، أو العالم الاجتماعي عندما يقوم بتفسير عمليّة التطوّر في أي نظام اجتماعي، من الماضي إلى الحاضر، لا بدّ أن يعمد إلى تحديد نشأة هذا النظام، وذلك بالعودة إلى المجتمعات البدائية لدراستها واستخلاص صفاتها وعلاقاتها، باعتبارها تمثّل التاريخ المبكر للجنس البشري .‏

مثال ذلك : (نشأة الأسرة وتطورها) من حيث الإباحية الجنسية، وتعدّد الزوجات وصولاً إلى وحدانية الزوجة. وكذلك الانتساب إلى الأم ومن ثمّ إلى الأب. وهذه العودة إلى الشعوب البدائية، لا تقتصر على الأنثروبولوجيا فحسب، بل تشمل سائر فروع المعرفة الخاصة بالعلوم الإنسانية .‏

وقد تأثّر رواد هذه المدرسة، وفي مقدّمتهم / إدوارد تايلور/ بنظرية / داروين، في تطوّر الحياة الطبيعيّة للكائنات البشرية، وتستند هذه النظرية إلى أنّ العناصر المركبّة في الحضارة الإنسانية، تتطوّر باستمرار من الأشياء البسيطة إلى الأشياء المعقّدة، وهذا ما ينسحب على تطوّر النظم الاجتماعية.‏

ويرتبط اسم / داروين / على الأقلّ في أذهان عامة المثقفين في العالم، بأنّه الرجل الذي نادى بنظرية التطوّر متحدّيا فكرة الخلق، وذهب في ذلك إلى حدّ القول بانحدار البشر من القردة العليا. ولكنّ الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك، حسب تعبير الأستاذ / كريستوفر بوكر /. فلم يكن داروين هو مؤسّس تلك النظرية، إذ سبقه إليها عدد كبير من العلماء الطبيعيين الذين كانوا يرون أنّ صور الحياة المختلفة، تطوّرت كلّها على شكل واحد بسيط، أي أنّ هذه الأشكال لم تخلق خلقاً مستقلاًّ ومتميّزاً كلّ منها عن الآخر .‏

وقد انتشرت هذه الأفكار قبل ظهور كتاب داروين عن ” أصل الأنواع ” بسبعين سنة على الأقلّ. وكان كلّ ما فعله / داروين، هو أنّه قام بتجميع تلك الأفكار والآراء المبعثرة والمتناثرة، وتحليلها بطريقة منهجية، فيها قدر كبير من محاولة الفهم والتعمّق. ومن هنا ساعد كتاب ” أصل الأنواع ” في توطيد فكرة التطوّر وترسيخها. ولكنّ الأهمّ من ذلك، هو أنّ الكتاب يقدّم نظرية متماسكة عن الطريقة التي حدث فيها التطوّر، ووضع في ذلك مبدأه الشهير عن ” الانتخاب الطبيعي ” الذي فسّر به استمرار بعض الأنواع في الحياة ، واختفاء بعضها الآخر في معركتها الكبرى وصراعها من اجل الحياة.‏

وعلى الرغم من أنّه مبدأ بيولوجي في الأصل، إلاّ أنّه كان مفيداً للأنثروبولوجيين. وفي ذلك يقول الأستاذ / ألفريد كروبر/ وهو من أكبر علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين : ” إنّ هناك نوعاً من عدم التناسب بين الإسهام المحدود الذي أسهم به داروين في العلم، والذي ينحصر في وضع مبدأ الانتخاب الطبيعي وتجسيده، وبين كلّ ذلك التأثير الهائل الذي تركه تأسيس المبدأ البيولوجي على العلم الكلّي “. فقد دفع هذا المبدأ علماء القرن التاسع عشر، إلى البحث عن أصول الأشياء. وظهرت بذلك كتابات كثيرة تتناول أصل اللغة وأصل الحضارة، وأصل المجتمع والعائلة والدين، وما إلى ذلك بالطريقة نفسها التي تناول بها داروين مشكلة أصل الأنواع. (أبو زيد، 2001، 23-24 )‏

ولذلك ركّز العلماء التطوّريون، على موضوعات معيّنة : كالدين والعائلة، والنسب، واعتبروا أنّ الحضارات البدائية المعاصرة، تمثّل شواهد دالّة على مراحل التطوّر الاجتماعي التي مرّت بها الحضارة الحالية المتقدّمة .‏

ولكن ثمّة صعوبات قابلتهم، في دراسة التطوّر في العصور القديمة جدّاً، ولا سيّما عصور ما قبل التاريخ، فعمدوا إلى دراسة علم الآثار أو التخمين والافتراض من أجل إثبات نظريتهم. (Nicholson , 1968, p.7)‏

وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، استكمل الأنثروبولوجيون وضع العناصر الأساسيّة لعلم الأنثروبوجيا الاجتماعية، عندما قام بعضهم بتصنيف المجتمعات البشرية على أسس أبنيتها الاجتماعية، وليس على أسس ثقافاتها فحسب. وهذا ما أدّى إلى تميّز الأنثروبولوجيا الاجتماعية عن الأنواع الأنثروبولوجية الأخرى، وأصبح موضوعها بالتالي، يختصّ بالعلاقات الاجتماعية وليس بالظواهر الثقافية .‏

واستناداً إلى ذلك، امتدّ منهج دراسة الأنثروبولوجيا إلى الدراسات الميدانية. واعتبرت الدراسة التي قام بها العالم الانكيزي / هادون /على منطقة مضائق (تورليس) مع بعثة علمية، نقطة تحوّل أساسية في تاريخ الأنثروبولوجيا الاجتماعية، حيث رسّخت أمرين أساسيين :‏

أولهما :النظر إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية، على أنّها علم يحتاج إلى تخصّص كامل .‏

وثانيهما:اعتماد الدراسة الميدانية منهجاً رئيسيّاً في هذا العلم .‏

ومع أنّ / مورغان و بواز / سبقا / هادون/ في دراسة بعض قبائل الهنود الحمر، وبعض قبائل الأسكيمو، فقد استطاع / هادون / أن يحدّد أساسيات منهج الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ويجذب بعض العلماء إلى ميدان هذا العلم الجديد، بعدما تخلّوا عن اختصاصاتهم الأصلية وأصبحوا من أئمّة الأنثروبولوجيا الاجتماعية في القرن العشرين، من أمثال : العالم / ريفر/ الذي كان متخصّصاً في علم النفس، والعالم / سليجمان / الذي كان متخصّصاً في علم الأمراض. بل أنّ / هادون / نفسه، تخلّى عن تخصّصه الأصلي في (الحيوانات البحرية) وتحوّل إلى الأنثروبولوجيا الاجتماعية .( لطفي، 1979، ص 96)‏

وهكذا، مثّل القرن التاسع عشر نشأة الأنثربولوجيا الاجتماعية، وإن كانت صورتها غير ناضجة وتحتاج إلى الكثير من جهود العلماء ولفترة من الوقت ليست قصيرة، حيث بدأت عناصر صورتها تستكمل وتزدهر في نهاية هذا القرن والنصف الأول من القرن العشرين.‏

3- القرن العشرون :‏

وصلت الأنثروبولوجيا مع بداية القرن العشرين إلى مرحلة التخصّص بدراسة البنى الاجتماعية للمجتمعات، ولا سيّما المجتمعات القديمة، حيث ازدادت الدراسات الميدانية، وفي مقدّمتها الدراسة التي قام بها الأنكليزي / رادكيف براون / على سكان خليج البنغال، والتي اعتبرت المحاولة الأولى لفحص النظريات الاجتماعية بالعودة إلى مجتمع بدائي. وكذلك دراسة / مالينوفسكي / لسكان جزر (التروبوبرياند) لمدّة أربع سنوات، واستخدم فيها لغة أهالي هذه الجزر. فكان بذلك أوّل أنثروبولوجي يتمكّن من فهم حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، من خلال تتبّع عاداتهم وتقاليدهم، وتحليل مدلولاتها الاجتماعية .‏

فخلال الربع الأوّل من هذا القرن، عكف الباحثون الأنثروبولوجيون على جمع الوثائق التي يحتاجون إليها من أجل إثبات ظاهرة الاقتباس بين الثقافات المختلفة. ويلاحظ أنّ العامل التاريخي، من وجهة نظر تاريخ الطريقة الأنثروبولوجية، احتلّ مكان الصدارة في دراسة المجتمعات، حتى في المحاولات المبذولة لإثبات ظاهرة الانتشار الثقافي، الناجمة عن الاحتكاك بين الشعوب. ويعود ذلك إلى أنّ هؤلاء الباحثين، كانوا يدركون جيّداً أهميّة البيانات التاريخيّة في فهم العوامل الثقافية الدينامية. (لينتون، 1967، ص 259 )‏

أمّا في الربع الثاني من القرن العشرين، فقد أصبحت للأنثروبولوجيا الاجتماعية فروع مستقلّة تدرّس في الجامعات الأوروبية، ولا سيّما في الجامعات البريطانية .. وانتشر تطبيق منهج الدراسة الميدانية نتيجة لتأثير علم / مالينوفسكي / الذي بدأ منذ عام 1924، بتدريب الأنثروبولوجيين على القيام بالدراسات الميدانية .‏

وفي عام 1937، أعاد / براون / تنظيم معهد الأنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد، وطوّر مناهجه. وبفضل جهود / مالينوسكي وبراون / وتلامذتهما من ذوي الخبرة في الدراسات الأنثروبولوجية الميدانية، أجريت دراسات متعدّدة على مجتمعات صغيرة في أفريقيا (دراسة نظم القرابة والطقوس والسياسة )، وأحدث المعهد الدولي الأفريقي في جامعة أكسفورد، تصدر عنه مجلّة متخصّصة في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية .‏

وتابعت الأنثروبولوجيا الاجتماعية دراساتها المتقدّمة، في النصف الثاني من القرن العشرين، مماّ أدى إلى اتّساع هذه الدراسات وازدهارها، وبالتالي إلى التقارب بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية .. وتمّ اعتماد تطبيق المنهج التجريبي بدلاً من المنهج المقارن، حيث يستند كلّ باحث أنثروبولوجي – في تطبيق المنهج التجريبي – إلى نتائج دراسة باحث آخر لمجتمع معيّن، ويقوم بدوره بالتأكّد من صحّة هذه النتائج من خلال قيامه بدراسة مجتمعات أخرى. وبذلك، تصبح الفرضيّات المتفق عليها مبادئاً عامة في نهاية الأمر، أو معارف متداولة في مجال الأنثروبولوجيا الاجتماعية .. وهذا ما عزّز من علم الأنثروبولوجيا في العصر الحديث .‏

ثالثاُ- أهداف الأنثروبولوجيا الاجتماعية‏

تحديد نماذج عالية للأبنية الاجتماعية :‏

إنّ التوصّل إلى نوع من التصنيفات والنماذج للأبنية الاجتماعية، يعدّ أمراً صعباً بالنظر إلى عدم اتّفاق العلماء على هذه النماذج من جهة، ولعدم وجود مصطلحات عالمية لمفاهيم الأنثروبولوجيا الاجتماعية من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى المشكلة الأساسيّة، التي تتمثّل في عدم وجود الدراسات الميدانية الشاملة للمجتمعات الإنسانية جميعها، على الرغم من محاولات الكثير من العلماء الوصول إلى ذلك الهدف .‏

فالإنسان وحده -من بين المخلوقات – يتمتّع بإمكانية تطوير سلوكه المكتسب ونقله بالتعلّم، وأنّ نظمه ومؤسّساته الاجتماعية، تتّصف بالتنوّع وبدرجة من التعقيد أكبر ممّا تتّصف به الأشكال الاجتماعية لأي نوع آخر من أنواع الحيوان .‏

ولذلك نجد أنّ المنطلق المنطقي لما يجرى من أبحاث حول المجتمع، هو دراسة أنظمة اجتماعية معيّنة واعتبار كلّ منها وحدة متكاملة. وممّا يسهل المشكلة بعض الشيء، اعتبار الأنظمة كيانات متميّزة عن المجتمعات، إذ يمكّننا ذلك من تجاهل المدى الواسع للاختلافات الفردية في التعبير عن نماذج النظام، ومن التركيز على النماذج نفسها وعلاقاتها المتبادلة .بيد أنّ المشكلة تظلّ معقّدة بما فيه الكفاية، وأوّل مهمّة للباحث هي التحقّق من النماذج وطبيعتها.‏

إنّ الصورة التي يرسمها باحث النظام الاجتماعي كلّه، يتكوّن من عناصر يجمعها واحدة واحدة، أي من النماذج الداخلة في تركيب النظام، ومن الملاحظات التي تتجمّع لديه عن تكيّفها وعلاقاتها المتبادلة، كما تتكشّف لـه في أثناء ممارسة الناس الفعلية لها. ولا يستطيع العضو العادي في أي مجتمع، أن يساعد الباحث في هذا العمل، إذ ما من أحد يدرك أنّ النماذج التي تنظّم التفاعلات الاجتماعية، تشكّل نظاماً إلاّ في حالة المجتمعات التي بلغت درجة عالية من التعقيد والتزمّت، كالمجتمعات في الصين وبلاد الإغريق في العصور القديمة، وأوروبا الحديثة. (لينتون، 1964، ص 345-346)‏

ولمّا كان الإنسان قادراً على التفاهم مع أمثاله بواسطة أشكال اللغة الرمزية والمفاهيم، فهو وحده الذي استطاع أن يوجد أنواعاً لا تحصى من المباني الاجتماعية الأساسية كبنيان الأسرة. وإذا نظرنا إلى حياة الجماعة في أي نوع من أنواع ما دون الإنسان من الكائنات الحيوانية، وجدنا أنّ مبانيها الاجتماعية أكثر رتابة من المباني الإنسانية، وبالتالي يمكن توقّعها لأنّ كل جيل من أجيالها يتعلّم السلوك المشترك بين معاصريه جميعهم، بينما يبني الإنسان على تجارب كلّ من سبقه. (هرسكوفيتز، 1974، ص 32 )‏

وقد أنفق العالم / رادكليف براون / ثلاثين عاماً في الدراسة، للوصول إلى بعض النماذج العامة للأبنية الاجتماعية. وبفضل جهوده وجهود علماء آخرين، أصبح هناك اتفاق شبه عام على بعض النماذج الأساسية للبناء الاجتماعي، مثال: ( العشيرة – القبيلة – الدولة – الأمّة –المجتمع) .‏

واستطاع هؤلاء العلماء تحديد الأشكال الأسرية الرئيسة، في المجتمعات الإنسانية. ويعدّ ذلك خطوة هامة نحو الوصول إلى القوانين الاجتماعية، التي يترتّب عليها ذلك التنوّع الملحوظ في الأبنية الاجتماعية المختلفة، وما أطلق عليه اصطلاحاً : (الدراسات المورفولوجية ).‏

-تحديد مظاهر التداخل والترابط بين النظم الاجتماعية :‏

تبدو أهميّة استخدام المنهج الكلّي / المتكامل في الدراسات الأنثروبولوجية، في تحقيق ذلك الهدف الذي يتمثّل في تحديد التأثير المتبادل بين النظم الاجتماعية، التي تدخل في نطاق البناء الاجتماعي الواحد. ويهتمّ العلماء اليوم، بهذا الهدف، إذ لا يوافقون على اقتصار الدراسة الأنثروبولوجية على الجانب الوصفي فحسب، وإنّما لا بدّ من التحليل للكشف عن الوظائف الاجتماعية للنظم الاجتماعية، عن طريق تحديد التأثير المتبادل فيما بينها.‏

وقد عرضت أمثلة كثيرة عن هذا الموضوع، حيث يطلق العالم / براون / على الدراسة التي ترمي إلى تحقيق ذلك الهدف اصطلاحاً : (الدراسة الفيزيولوجية) تمييزاً لها عن الدراسات الخاصة بالهدف السابق (الدراسات المورفولوجية ).‏

إنّ مشكلة حقيقة الأنظمة الاجتماعية، هي مشكلة فلسفية أكثر منها مشكلة عملية. والمهمّ في الأمر هو أنّ مركّب النماذج الاجتماعية التي تتكيّف بعضها مع بعض تكيّفاً متبادلاً _ وهو ما اصطلح على تسميته بالنظام الاجتماعي – يتطوّر ويعمل بارتباط مستمر مع سائر عناصر الثقافة، وأنّ النماذج يجب أن تتكيّف مع هذا النسق تماماً كما تتكيّف بعضها مع بعض. أمّا المجموع الكلّي للثقافة، فيجب أن يتكيّف بدوره أيضاً، مع البيئة الطبيعية للمجتمع، لأنّ الإنسان قد يطوّر وسائل كثيرة ومتنوّعة للسيطرة على البيئة واستغلالها، ولكنّه لا يستطيع أبداً أن يتحرّر من أثرها .‏

ولذلك، يمكن القول : إنّ كل نظام اجتماعي، هو جزء من وحدة متناسقة متكاملة، أوسع جدّاً في مداها من النظام نفسه، أمّا العناصر التي تتكوّن منها هذه الوحدة، فهي متشابكة ومتداخلة. ولا يمكن فهم النظام الاجتماعي، إلاّ إذا درس في ضوء علاقته بالوحدة المتناسقة الكبيرة، التي تضمّ عناصر أخرى تظلّ تفرض باستمرار حدوداً على نموّه وعمله. (لينتون، 1964، ص 348)‏

وبذلك يكون على الباحث – من وجهة النظر الوظيفية -أن يأخذ في الحسبان عاملين أساسيين يلعبان دوراً تبادلياً وفاعلاً في هذا النظام الاجتماعي أو ذاك، وهما: النموذج الذي يعرفه الأفراد ويؤثّر في سلوكاتهم من جهة، والثقافة التي ينشأ عليه هؤلاء الأفراد، والتي تعنى بتلبية الحاجات الكليّة للمجتمع من جهة أخرى، وذلك لأنّ الأنظمة الاجتماعية لا يمكن أن تؤدّي وظيفتها، إلاّ كجزء من المجموع الكلّي للثقافة .‏

3-تحديد عمليات التغيير الاجتماعي :‏

تهدف الدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية، إلى تحديد خصائص التغيير الاجتماعي وعملياته، والتي تحدث في الأبنية الاجتماعية، سواء ذات المعدّل السريع في التغيير أو المعدّل المتوسّط أو المعدّل البطيء .‏

وقد لا حظ / براون / أنّ الدراسات الخاصة بذلك الهدف، اهتمّت بدراسة أثر الحروب الاستعمارية على النظام القبائلي في أفريقيا وآسيا. ولكنّ التغيير الاجتماعي عملية معقّدة، متعدّدة الجوانب ومختلفة العوامل. ولذلك، فهي أعمق في دراستها من حيث الجمع بين عناصر حضارتين مختلفتين. فعملية التغيير أو التطوّر، تستلزم ظهور أشكال جديدة من الأنماط والأبنية الاجتماعية، كما تستلزم أيضاً، الانتقال من الأشكال البسيطة إلى الأشكال المركّبة. (وصفي، 1995، ص 174)‏

فلكلّ مجتمع طريقته الخاصة في الحياة، والتي يطلق عليها العلماء الأنثروبولوجيون مصطلح ” الثقافة “. ويعتبر مفهوم الثقافة من أهمّ الأدوات التي يتعامل معها الباحث الأنثروبولوجي. وكما هي الحال في الأبحاث العلمية الأخرى، تنحصر الخطوة الأولى في جمع الحقائق عن الأنماط الثقافية المختلفة، ويتطلّب هذا من العالم الأثنولوجي، القيام بأبحاث ميدانية في أماكن نائية، وإلى العمل في أنوع مختلفة من المجتمعات. (لينتون، 1986، ص 25 )‏

وبما أنّ الكائنات البشرية تعيش في تجمّعات (مجتمعات) وتطوّر طرقها الخاصة في الحياة بما يتلاءم مع أوضاعها الخاصة والعامة، فإنّ للثقافة هنا دوراً كبيراً في عمليات التغيير الاجتماعي، الفكري والسلوكي .‏

ومن هنا يتعيّن على الدراسات الأنثروبولوجية أن تحدّد عمليات التغيير الاجتماعي، بطريقة الكشف عن الأنماط والأبنية الاجتماعية الجديدة، وكذلك تحديد كيفيّة تطوّر الظواهر الاجتماعية البسيطة، إلى ظواهر اجتماعية مركّبة.. وهذا يتطلّب الدراسات الميدانية المركّزة، والمعمّقة.‏

مصادر الفصل ومراجعه‏

– أبو زيد، حامد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلـة العربي، الكويت.‏

– بريتشارد، إدوارد (1975) الأنثربولوجيا الاجتماعية، ط 5، ترجمة : أحمد أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الاسكندرية .‏

– الجباوي، علي (1996 /1997) الأنثروبولوجيا – علم الإناسة، جامعة دمشق .‏

– لطفي، عبد الحميد، (1979) الأنثروبولوجيا الاجتماعية، دار المعارف بمصر، القاهرة.‏

– لينتون، رالف (1964) دراسة الإنسان، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت.‏

– لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت.‏

– هرسكوفيتز، ميليفل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .‏

– وصفي، عاطف (1977) الثقافة والشخصيّة، دار المعارف بمصر

ليست هناك تعليقات