الرحلات الجزائرية في العهد العثماني

 

 الرحلات الجزائرية في العهد العثماني

رحلة أبو راس  الناصر المعسكري أنموذجا

 

 

توطئة:

تعتبر الرحلة من بين الأساليب الكتابية التي برع فيها العلماء المغاربة عموما، وعلماء المغرب الأوسط خصوصا. في العهد العثماني، وذلك نظرا لتعلقهم وشغفهم الكبير بها، كما كان لهم فيها نصيب أوفر ومتميز. ولعلّ مردّ ذلك إلى حبّ التطلّع الذي كان لدى هؤلاء العلماء من جهة، والاستزادة في طلب العلم من جهة ثانية، والقيام بفريضة الحج إلى بلاد الحجاز من جهة أخرى، كل هذا كان من شأنه أن يكون وفق خريطة طريق مدروسة مسبقا، بغية الاستراحة والاستفادة العلمية والمعرفية.

وعليه عوّل العلماء المغاربة عموما على هذه الرحلات سواء أكانت حجازية أو علمية أو اطلاعية، وسواء قصرت مدتها أو طالت، بغية تحقيق جملة من دوافع كثيرة حفزتهم للقيام بتلك الرحلات داخلية كانت أم خارجية.

           ولقد عرف العهد العثماني عدة رحلات مثل رحلة أبو راس الناصر وأبو حامد العربي المشرفي وابن زرفة الدحاوي، ومسلم بن عبد القادر. ونظرا لأهمية هذه الرحلات حاولنا قدر المستطاع نفض الغبار عمّا خلفه أجدادنا من تراث رحلي هام، من شأنه أن يفتح الباب أمام الباحثين والمؤرخين والمهتمين بهذا التراث، إلى الالتفاف حول موضوع الرحلات ضمن مشاريع علمية بحثية، تولي اهتماما بالغا لذلك الموروث الثقافي الذي تزخر به بلادنا.

      إنّ رحلة أبي راس المسماة" رحلتي للمشرق والمغرب" كتاب في السير والتراجم الشخصية؛ حيث لم يخصصه المؤلف لرحلته فحسب كما قد يتبادر إلى الذهن عند الاطلاع على العنوان، بل أورد فيه أبوابا وأسئلة فتوى، ضمنها فوائد جمّة فيها من الأدب ما فيها، واللغة والنحو والتاريخ، والفقه والنوازل والفتاوى. وعليه فرحلته هاته إنما هي جزء من كتابه " فتح الاله ومنته في التحدث بفضل ربي ونعمته". ونظرا لأهمية رحلته حاولنا أن نسردها لوحدها حتى تعم الفائدة، وتزداد الأنظار إمعانا وتدقيقا.

 

 

مولده:

ولد أبو راس محمد بن أحمد بن الناصر الراشدي، عام 1150هـ/1737م ، بقلعة بني راشد قرب مدينة معسكر بالغرب الجزائري، بين جبل كر سوط وهونت، في منتصف القرن الثني عشر للهجرة، وفي هذا يقول أبو راس عن مولده:"ولما ولدت بالموضع المار حملتني أمي، ووالدي إلى الشيخ الصالح الولي، الذي كاد أن يكون كالشيخ الجيلي، شيخ بعض شيوخي الشيخ بن موسى اللبوخي  فبارك عليه وأخبرني بغيب خوارق وعادات تكون لي مودات من علم وعمل وصلاح، وغنى وحفظ وإصلاح، وشيخ طلبة، لفيف ودرس وخطابة وقضاء وتصنيف" .ولأبي راس أخوين وأخت، فالأخوين هما: السيد عبد القادر ، والسيد بن عمر ، وهو الأخ الأكبر لأبي راس، وأخت اسمها حليمة .

ولذا فإن مولد أبي راس يعد بمثابة إشعاع علمي ظهر بمعسكر خصوصا وبالجهة الغربية عموما، إن لم نقل للعالم العربي كله، وهو ما دفع ببعض الباحثين والمؤرخين من أن يفردوا فصولا عن سيرته الذاتية، مثل: محمد بن عبد الكريم الجزائري الذي أقدم على تحقيق واحد من نفائس مخطوطات أبي راس  المندسية والنادرة في نفس الوقت. بالإضافة إلى عدة أجانب مثل: الجنرال فوربيقي، والباحث: أرنود الذي ترجم فصولا عن رحلته. 

شيوخه وإجازاته:

إنّ شخصية أبي راس شخصية فذة؛ تعتز بها الدولة الجزائرية على وجه العموم والجهة الغربية من البلاد على وجه الخصوص، لما تمتاز به من دقة وتحريات للتواريخ الهامة ولا سيما فترة التواجد العثماني بالجزائر من جهة وصراعها مع الأسبان من جهة أخرى وممّّا لا شكّ فيه فإنّ هذه الشخصية الكبيرة في أذهان المؤرخين والباحثين، والصغيرة بالنسبة للمنكرين والغير المبالين.

فإنّ أبا راس كسابقيه من العلماء تتلمذ على يد عدة شيوخ كان لهم الفضل الكبير في بروز شخصية فريدة من نوعها استطاعت بذكائها وكتاباتها التاريخية أن تحظى باهتمام الخلفاء في عصره ثم المؤرخين والباحثين من بعده. وقد أخذ أبو راس العلم على يد مجموعة من الشيوخ والعلماء والفقهاء الأجلاء الذين أثروا في ملكة أبي راس الفكرية والمعرفية، فأجيز وأجاز.

شيـوخه :

لعلّ من أبرز الشيوخ والعلماء الذين كانوا مصدر معرفة أبي راس الناصر، والذين كانوا بمثابة الحصن الحصين لتكوين ملكة أبي راس العلمية والمعرفية، هؤلاء العلماء الذين تفانوا في تعليم أبي راس والحرص على تكوين شخصيته، والذي بلغوا حوالي واحد وأربعين عالما، أخذ عنهم فنونا مختلفة، ولعل من أهمهم نذكر منهم على سبيل المثال:

1- والده الشيخ أحمد بن أحمد: كما تقدم ذكره هو الشيخ احمد بن احمد بن الناصر ينتهي نسبه إلى السيدة فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم(عبر خمسة عشر جدا)، أخذ عليه–أبو راس- معظم المصحف الشريف بداية من سورة الانفطار "إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَت"  إلى غاية الآية:253 من سورة البقرة، والتي مطلعها "تِلْكَ الرُّسُلُ" . وما شد انتباهي هنا وأنا أتفحص سيرته الذاتية، أن تواجده وسط أسرته القرآنية هو الذي جعله يختصر المراحل الأولى من تعليمه حتى الحروف منها، فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب .

2- الشيخ عبد القادر المشرفي: هو الشيخ عبد القادر بن عبد الله المشرفي الذي كان يدعى بشيخ الجماعة وإمام الراشدية، ولد ونشأ بقرية الكرط قرب ولاية معسكر، تثقف على يد علماء المنطقة وبعدها عين مدرسا بمعهد الشيخ محيي الدين في زاوية القيطنة بوادي الحمام مدة من الزمن، وقد شارك في مقاومة نصارى الإسبان بوهران ، والف رسالة شهيرة كما عدد وندد بالقبائل المتعاونة معهم، توفي رحمه الله سنة 1192هـ/1778م بضواحي معسكر.

3- الشيخ السيد العربي بن نافلة: هو الشيخ بن العربي بن نافلة الذي أفنى عمره بين تلاوة القرآن ودراسة العلم ، صاحب الأصول والفروع، حافظ امعاني شيخنا سيدي خليل بن إسحاق المالكي، قرأ عليه المختصر ثلاث ختمات في ثلاث سنوات كما درس شيخنا على يد ابنه السيد أحمد بن نافلة، فكان هذا الأخير يفهمه كل ما أشكل عليه من فهمه في مجلس أبيه .

4- الشيخ محمد الصادق بن أفغول: كان من أجلاء أشياخي شيخنا، خبيرا بعلم الشريعة جامع بين العلم والدين، صاحب مدرسة مازونة الشهيرة، يقول عنه أبو راس: "انتهت إليه رئاسة التدريس، وشدت إليه الرحال من زواوة وغريس". كان جامعا للفنون وعلومها، وبارعا في معرفة الحديث على أهله منفردا بهذا الفن النفيس في زمانه.

5- الشيخ محمد بن جعدون قاضي مدينة الجزائر: هو شيخ الجماعة بالجزائر ابن عبد الله محمد، يقول عبد الحي:"وقفت على إجازة الشمس له الحنفي له بالطريقة بتاريخ 1171م، وله ثبت نسبه له الشيخ السنوسي" .

6- الشيخ القاضي عبد الرحمن التلمساني: هو الشيخ محمد بن عبد الرحمن التلمساني القاضي من نسل عالم المذاهب الأربعة الشيخ أحمد بن الحاج المانوي، رحل إلى مصر أخذ عن السّمان ومحمود الكردي .

7- الشيخ المفتي أحمد بن عمار: هو الشيخ  أحمد بن عمار بن عبد الرحمن بن عمار الجزائري، اشتغل بالحديث و التاريخ، ولد ونشأ بمدينة الجزائر وولي الافتاء بها، له الرحلة الحجازية وغيرها من المؤلفات .

تلامذته:

بحكم ثقافته الموهوبة وهو الذي كان يلقب كما أسلفنا بالحافظ، لا جرم أنه ترك للمجتمع الجزائري المثقف تراثا غنيا عن التعريف والمتمثل في جملة من التلاميذ درسوا وتعلموا على يد شيخنا سيدي أبا راس ليتحولوا إلى علماء عظام ممتطين بساط شيخهم ومنوهين بعلمه وفضله، وهذا بطبيعة الحال فضل المتعلم على المعلم، ومن جملة هؤلاء التلاميذ نذكر على سبيل المثال لا الحصر طائفة منهم:

1- الشيخ أبو حامد العربي المشرفي: هو العربي بن علي بن عبد القادر المشرفي الحسني الغريسي حفيد عبد القادر المشرفي شيخ أبي راس الناصر المعسكري  وصاحب الكتيب الموسوم بـ "بهجة الناظر"  ولد العربي المشرفي بغريس بنواحي معسكر.

2- الشيخ العربي بن السنوسي: هو محمد العربي بن السنوسي، كان يدرس القرآن الكريم برواية ورش، وسائر الفنون، أخذ عنه محمد بن علي السنوسي وولده سيدي محمد.

3- الشيخ محمد السنوسي (1202هـ/1276م): هو أبو عبد الله محمد بن علي السنوسي الخطابي الحسيني الإدريسي مؤسس الطريقة السنوسية، ولد في مستغانم، ونشأ في بيت علم ودين وفضل فدرس علوما متنوعة  من بين تآليفه: الدرر السنية في أخبار السلالة السنوسية (مطبوع)، والمسائل العشر المسماة: بغية المقاصد وخلاصة المراصد (مطبوع)، والشمس الشارقة في أسماء مشايخ المغاربة والمشارقة . ولذا نجد محمد بن عيسى السنوسي يقول: "...ومنهم شيخنا وشيخ مشيختنا الهمام والحافظ، الإمام سيدي محمد أبو راس (الناصر المعسكري) المعسكري البلد، الناصري المحتد رحمه الله، كنت اتردد إليه" .

4- الشيخ محمد المصطفى بن عبد الله (ت 1215هـ/ 1800م): هو الشيخ محمد المصطفى بن عبد الله بن زرفة الدحاوي من شرفاء غريس، وكان كاتبا للباي محمد بن عثمان، ومساعدا لرئيس رباط غيفري للطلبة قرب وهران وشارك بنفسه في الهجوم الشامل وتحرير مدينة وهران التحرير الثاني والنهائي عام1792م كما عين ابن زرفة قاضيا بها (وهران) إلى غاية (1800-1801م) .

5- الشيخ عثمان الموسوي الهزاري (ت1238هـ): هو ابو عمرو عثمان بن محمود الهزاري نسبا، القادري طريقة، البغدادي منشأ و موطنا، قدم من بغداد و استقر بمدينة تازة المغربية فعرف ب:"التازي"،أجازه أبو راس بثبته "السيف المنتضى فيما رويته بأسانيد الشيخ المرتضى" والمرتضى الزبيدي أيضا من شيوخ أبي عمرو، ولكن أغفل عن ذكره في كتابه :"المعجم المختص"، و ممن أخذوا عن أبي عمرو العلامة الصوفي أبو عبد الله محمد الهاشمي بن الحاج علي بن أحمد الصادقي الرتبي الفاسي، وقد أجازه بسنده، وأسانيده مذكورة في الثبت الذي جمعه تلميذه وسماه:" الفتح الوهبي فيمن أجاز لأخينا الحاج الهاشمي الرتبي" وفي هذا الثبت مجموعة من اسانيد تتصل بأبي راس المعسكري بواسطة تلميذه عثمان بن محمود الموسوي المتوفي سنة 1238هـ .

6- الشيخ عبد القادر بن السنوسي: هو العلامة السنوسي بن عبد القادر بن السنوسي  بن عبد الله بن دحو بن زرفة، ومما مدح به شيخه أبي راس:

         ذاك"أبو راس" ناصر الدين       الناصري طلاع الثناي

        ان صعد الكرسي تعرف سموه     فاطلبه قبل طلب المنايا

        ولاتسر   اليه ذا تــوان        كم متوان حرم العنايا

        بل لاتسر اليه الا جـدا         تفد وتكسي حلل الهنايا

        فهو المجدد من غير مـين         أصلح ما كان من الجنايا

        عوضنا الله به السيوطـي         فاعتدنا منه شيما سنايا

آثـاره العلـمية:

لقد خلف أبو راس كتبا كثيرة في مجال التاريخ وغيره، بعضها موجود وبعضها مفقود، وقد ذكر أن مجموع تآليفه بلغت نحو الخمسين كتابا في التفسير والتاريخ والأدب والتراجم والرحلات. وهناك من قال أن ما ألفه بلغ نحو 63 كتابًا، ونسب اليه 137 مصنفًا في مختلف الأغراض، بين كبير وصغير، وبين تأليف وشرح وتعليق وتلخيص منها ما نشر ومنها ما زال محفوظا، ومنها ما يعتبر في حكم المفقود.

ففي علم التفسير وعلوم القرآن مثلا:كتاب مجمع البحرين في ثلاثة أسفار، وتقي على نظم الخراز في الرسم، والدرر اللوامع، وفي الحديث:كتاب مفاتيح الجنة وأسناها في أحاديث اختلف  العلماء في معناها، والسيف المنتضى فيما رويت بأسانيد الشيخ مرتضى، والآيات البينات في شرح دلائل الخيرات، وفي الفقه: حاشية عقد الحواشي على جيد شرحي الزرقاني والخرشي في ستة أسفار، المدارك في ترتيب فقه الامام مالك، والأحكام الجوازل في نبذ من النوازل.

وفي علم الأصول: تشنيف الاسماع في مسائل الاجماع وحاشية على شرح المحلى لجمع الجوامع، وقاصي الاوهاد في مقدمة الاجتهاد، وفي علم الكلام والتوحيد:كفاية المعتقد ونكاية المنتقد، وهو شرح العقائد الكبرى للامام محمد بن يوسف السنوسي، وأنوار البرجيس بشرح عقد الجمان النفيس لأبي زيد عبد الرحمن التجيني.

وفي التصوف: الزهر الأكم في شرح الحكم أو فتح الاله في التوصل إلى شرح حكم ابن عطاء الله، كتاب الحاوي لنبذ التوحيد والتصوف والأولياء والفتاوي، وله في النحو:الدرة اليتيمة، الحاشية الكبرى على شرح المكودي،و النكت الوافية بشرح المكودي على الألفية، وعمدة الزاب في اعراب" كلا شيء وجئت بلا زاد"، نفي الخصاصة في احصاء تراجم الخلاصة، وله في اللغة:كتاب ضياء القابوس على كتاب القاموس، وله ضابط اختصره من الأزهري على قواعد القاموس والجوهري.

وله في الأدب: شرحان على مقامات الحريري اطلعنا عليهما بالمكتبة الوطنية الجزائرية، البشائر والآسعاد في شرح بانت سعاد، ونيل الارب في شرح لامية العرب، وله في علم البيان: كتاب الأماني على مختصر سعد الدين التفتزاني، وفي المنطق: كتابالقول المسلم في شرح السلم، وفي العروض: شرح مشكلة الأنوار التي يكاد زيتها يضيء ولوم لم تمسسه نار.

أما في ميدان التاريخ فهي كثيرة ومتنوعة، منها:زهر الشماريخ في علم التاريخ، كتاب الوسائل إلى معرفة القبائل، كتاب المنى والسول من أول الخليقة إلى بعثة الرسول، شرح عقد الجمان النفيس في ذكر الأعيان من أولياء غريس، در السحابة فيمن دخل المغرب من الصحابة، درء الشقاوة في جروب الترك مع درقاوة، ذيل القرطاس في ملوك بني وطاس، مروج الذهب في نبذة من النسب ومن إلى الشرف انتمى وذهب .

رغم كل هذا تبقى مؤلفات أبي راس كثيرة في شتى ميادين المعرفة المختلفة، إلاّ أنّ ما اشتهر منها في مجال التاريخ: عجائب الأسفار ولطائف الأخبار، والحلل السندسية في فتح ثغر وهران والجزيرة الأندلسية، والخبر المعرب الحال بالأندلس وثغور المغرب، وهي المؤلفات التي حأول الباحث تسليط الضوء عليها، ومحأولة التعرف على موضوعات كتابات الشيخ أبي راس وعلى نوع المنهج التاريخي المتبع فيها، فجاءت كمساهمة من الباحث في إخراج مخطوطات أبي راس إلى النور، فضلا عن تحقيقها ودراستها دراسة تاريخية علمية.

وفاتــه:

لقد كانت وفاة هذا الشيخ العلامة أبي راس الناصر، يوم الخامس عشر من شعبان من سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف هجرية 1238هـ/1823م عن عمر يناهز التسعين سنة، ولقد صلى عليه خلق كثير من الناس يؤمهم تلميذه أحمد الدايج الملقب بالخرشي الكبير عند الراشدية، وقد أحصاحهم بعضهم بـ: ألف وخمسامئة (1500) نسمة، ودفن قرب داره بعقبة بابا علي بمعسكر أين يوجد ضريحه حيث أقيمت عليه بناية قائمة إلى اليوم هي مزارا للناس.

يقول الآغا المزاري:" توفي يوم الأربعاء15خمسة عشر شعبان 1238هـ/1823م. وصلى عليه العلامة الأسد الهايج فريد وقته المعبر عنه بالراشدية بالخرشي الكبير السيد أحمد الدايج ودفن بعقبة بابا علي من معسكر، فنسبت له تلك  التي اشتهر بها، وعلى ضريحه قبة، نفعها الله به وأورثنا منه محبة وقربة.

وفي تلك السنة رفع المطر في العباد بعد ما فرغوا من الحراثة إلى أن بقي للصيف شهر واحد في القول الذي ليس من أقوال الرثاثة، فأرسل الله مطره النافع للعباد وأزال بهم من التخمين والكساد، ونبت الحبّ وتمت الصيانة وحصدوا قسمين تلك السنة بصابة الشهر" .

وفي هذا الشأن يقول صاحب دليل الحيران وأنيس السهران:" وفي تلك السنة نفسها رفع المطر عن العباد في ابانه، فتركت الناس الحرث في وقته وأوانه، ولفما بقي للصيف نحو الشهر الواحد، أمطر الله العباد بالمطر النافع المتزايد فحرثت الناس فيه وحصدوا، وبلغت مناهم فشكروا مولاهم وحمدوا، فسميت السنة بصابة شهر، وتعاطى اسمها في البدو والحضر" .

1- الباعث على تأليف الكتاب وهدفه:

         لعلّ الباعث على تأليف أبي راس الناصر المعسكري لكتابه السالف الذكر، والذي نجده يذكره ضمن مقدمته قائلا:"وإني عزمت على تأليف عظيم الجدوى، بليغ الفحوى، يحتوي على أبواب وأسئلة فتوى، الباب الأول في ابتداء أمري، الباب الثاني في عدة أشياخي، الباب الثالث في رحلتي للمشرق وغيره وهي محور الدراسة، الباب الرابع في معارضة العلماء وأجوبة عن أشياء مختلفة، الباب الخامس في تأليفي في كل فن".

ونجده قبل ذلك يذكر من سبقه في مجال التأليف الرحلي قائلا: "وأسوتي في ذلك رحلة الجهابذة النحارير، والأسانيد الجماهير: كرحلة الإمام ابن رشيد السبتي[1]، والخطيب ابن مرزوق[2]، ورحلة الشيخ أبي سالم عبد الله بن محمد العياشي[3]، نسبة لقبيلة" آيت أعياش" من البربر، بارزا" تافلالت[4]". وقد سمي ابن رشيد رحلته "ملء العيبة، في طول الغيبة، إلى مكة وطيبة" في ستة أسفار. وكذا رحلة الشيخ أحمد بن الناصر[5]، وغيرهم.

         والواقع أن أبا راس الناصر أبدى في كتابه هذا سعة اطلاعه بالعلوم الشرعية والأدبية والتاريخية، مما ينم على موسوعية الرجل وحافظته القوية حتى لقب بحافظ المغرب الأوسط. غير أننا نلمح بأن القسم الخاص برحلته للمشرق والمغرب يحرز قيمة تاريخية كبيرة. وهي ما سنلحظها من خلال ما كتبة في هذا الشأن.

2- أهمية رحلة أبي راس الناصر:

         تعد رحلة أبي راس الناصر من أهم الرحلات المغاربية نظرا لتعدد قضاياها، وتنوع موضوعاتها وطروحاتها التي تجمع بين علوم شتى من تاريخ وفقه وتصوف ونحو ولغة و...كما أنّ هذا التنوع من العوامل التي أدت بصاحبها إلى اختيار أسلوب التعليق والمناظرة والاستشهاد بالشعر والأمثال والحكم والاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف. كل هذا من شأنه أن يكشف البعد الفكري والفني للرحلة.

         وقد حاولنا جاهدين أن نخرج هذا النص الرحلي في الحلة التي جاء عليها مساهمة منا في إغناء وإبراز تراث أبي راس الناصر المعسكري الغزير، وإن كنت في دراسات سابقة قد عقدت العزم على إخراج تراثه لاسيما المفقود منه. ونقصد بذ لك كتبه " أقوال التأسيس فيما وقه أو سيقع من الفرنسيس"، و" إسماع الأصم وشفاء السّقم في الأمثال والحكم" والتي نعكف منذ مدة على دراستها وتحقيقها وسترى النور بإذن الله تعالى.

3- أهم المصادر المعتمدة في الرحلة:

         من أهم المصادر المعتمدة في الرحلة نذكر ما يلي:

·      كتاب المصنف للشيخ خليل

·      كتاب" كفاية المحتاج للشيخ أحمد بابا التنبكتي

·      كتاب في حواشي البيضاوي للشيخ زاده الحنفي

·      كتاب حاشية على تفسير البيضاوي، للشيخ عبد الحكيم بن شمس الدين الهندي السيالكوتي البنجابي.

·      كتاب تفسير الجلالين

·      كتاب حاشية التتائي

·      كتاب في تفسير القرآن للشيخ شهاب الدين المعروف بالسمين

·      كتاب حاشية مصطفى الرماصي.

·      كتاب القرافي

·      كتاب اليافعي تاريخ اليافعي

·      كتاب الحلل الحريرية للحريري

·      كتاب نفخ الطيب للمقري

·      كتاب فصوص الحكم للشيخ محي الدين ابن عربي

·      كتاب عجائب الأسفار ولطائف الأخبار لأبي راس

·      كتاب الشفا للقاضي عياض

·      كتاب درة الحواشي، على شرح الشيخ الخراشي

·      كتاب شهاب الدين الخفاجي المسمة الشفا

·      كتاب تاريخ ابن خلدون

·      كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري

·      كتاب منظومة البيان للأخضري

·      كتاب حزب الشيخ النووي

·      كتاب القاموس

·      كتاب الصحيحين

·      كتاب رسالة القشيري

·      كتاب مختصر العين

·      كتاب مختصر الكنز الراقي

·      كتاب مختصر أبي شجاع

4- أهم العلماء الذين لقيهم:

·      الشيخ القاضي المفتي السيد محمد بن جعدون

·      الشيخ محمد ابن مالك

·      قاضي "قرومة" السيد الهادي

·      مفتي الجزائر وخطيبها السيد الحاج علي ابن الأمير

·      السيد أحمد بن عمار

·      الشيخ محمد بن الحفاف

·      السيد محمد بن مالك

·      السيد عبد الكريم محمد الفكون

·      قاضي الجماعة الونيسي، الشيخ الحاج الشهير السيد علي الونيسي

·      السيد محمد باي ابن عثمان

·      الشيخ حمدون

·      الشيخ عبد القادر بن شقرون

·      الشيخ محمد بن بنيس

·      أبو عبد الله، محمد بن طاهر الهواري،

·      الشيخ السيد محمد ابن المحجوب

·      السيد إبراهيم الرياحي

·      السيد مرتضى الزبيدي

·      السيد عبد الغني

·      السيد عبد الرحمان التادلي المغربي

العمل في التحقيق:

وقد اعتمدنا في هذه الدراسة على كتاب فتح الإله ومنته لأبي راس الناصر دراسة وتحقيق محمد بن عبد الكريم الجزائري، والتي تعتبر هاته الرحلة جزء منه، فارتأينا أن نعطي لها عنوانا " رحلة أبو راس الناصر المعسكري مقتطف من كتاب فتح الإله ومنته". كما فعل أبو عياد حينما عكف على تحقيق جزء من كتاب التنسي نظم الدر والعقيان، والذي اختص فيه بملوك تلمسان.

         ونظرا لتضارب الآراء واختلاف الرؤى حول رحلة أبي راس المفقودة، والتي يعتبر بعضها كتاب فتح الاله ومنته هو نفسه كتاب الرحلة، في حين هناك من يرى أن كتاب الرحلة لأبي راس فُقِد أثناء حرق المكتبة المركزية بالجزائر. وعليه حاولنا أن نستخرج من كتاب فتح الإله شبه الرحلة التي قام بها أبو راس.

         وهكذا حاولنا توثيق ما جاء في الرحلة من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم وأمثال وأشعار ومؤلفات وأعلام وأماكن وبلدان، وما إلى ذلك ممّا يقتضيه المقام في مثل هذه الدراسات التراثية. وكل ما هو بين معكوفتين من وضع المحقق لتسهيل عناء القراءة والبحث.

         إن إيماننا الراسخ بضرورة الانكباب على موروثنا الثقافي الذي تجسده تلك المخطوطات النفيسة، إنما هو في الحقيقة مرآة تعكس هويتنا وتثبت للعالم قاطبة أن لنا تاريخا كتبه علماء أعلام وصانوه، فلم لا نكمل مسيرتهم بدراسته وتحقيقه وفهرسته وإخراجه إلى النور، حتى يعرف الخلف بما صنعه السلف.

 



[1]) ابن رشيد السبتي(657-721هـ=1259-1321م):محمد بن عمر بن محمد، أبو عبد الله، محب الدين ابن رشيد الفهري السبتي: رحالة، عالم بالأدب، عارف بالتفسير والتاريخ. ولد بسبتة، وولي الخطابة بجامع غرناطة الأعظم، ومات بفاس. رحل إلى مصر والشام والحرمين (سنة 683 هـ وصنف رحلة سماها (ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الرحلة إلى مكة وطيبة) أجزاء منه، ومن كتبه (تلخيص القوانين) في النحو، و(السنن الأبين، والمورد الأمعن، في المحاكمة بين الإمامين - البخاري ومسلم - في السند المعنعن) و(إفادة النصيح بالتعريف بإسناد الجامع الصحيح) كلاهما بتونس، و(إيضاح المذاهب فيمن يطلق عليه اسم الصاحب) و(ترجمان التراجم) على أبواب البخاري، لم يتمه. وله خطب وقصائد وكتب صغيرة كثيرة. خير الدين الزركلي، الأعلام، ج6، ص:314.

[2]) محمد بن مرزوق الأكبر:عرف بالجد، ويعرف بالخطيب، هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي من أهل تلمسان، يكنى أبا عبد الله، ويلقب بشمس الدين الإمام ، شارح البخاري، والشفا، والعمدة، والإحكام، وصاحب الأربعين المسندة في الخلافة والخلفاء، وكتاب الإمامة، وإيضاح المراشد فيما تشتمل عليه الخلافة من الحكم والفوائد، وجنى الجنتين. ينظر ترجمة ابن مرزوق الجد في شجرة النور: 436 والتعريف بابن خلدون: 49 - 54 وتاريخ ابن خلدون 7: 312 ونيل الابتهاج: 267 (بهامش الديباج) والديباج: 305 والبستان: 184 - 190 وجذوة الاقتباس: 225 وبروكلمان، التكملة 2: 335 والزركلي 6: 226 ونفح الطيب 5: 390

[3]) العياشي(1037-1090ه=1627-1679م): عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي، أبو سالم: أصله، من أهل فاس.نسبته إلى آية عياش (قبيلة من البربر تتاخم أرضها الصحراء، من أحواز سجلماسة) قام برحلة دونها في كتابه " الرحلة العياشية " في مجلدين، سماها " ماء الموائد " وله " إظهار المنة على المبشرين بالجنة " و" مسالك الهداية " بأسانيد شيوخه، و" تحفة الأخلاء بأسانيد الأجلاء ". ينظر: خلاصة الأثر 3: 70 – 80. دليل مؤرخ المغرب 1: 247.

[4]) تافلالت: يرجع تاريخ تافيلالت إلى القرن الثامن حين كانت حاضرة سجلماسة القديمة العاصمة التجارية والروحية للمغرب الأقصى، حيث تقع منطقة تافيلالت التاريخية في الجنوب الشرقي للمغرب الأقصى.

[5]) ابن ناصر الدرعي(1057-1129ه=1647-1717م):أحمد بن محمد بن محمد، ابن ناصر، أبو العباس الدرعي: صاحب (الرحلة الناصرية) جزآن في رحلته إلى الحج سنة 1121 ه.من فضلاء المغرب وصلحائه. كان شديد الشكيمة على أهل البدع، قوالا للحق. وذكر في رحلته أشياخه، وشحنها بفوائد علمية. وله كتب أخرى. ينظر: صفوة من انتشر 221 وشجرة النور 332 واليواقيت الثمينة 42، والأعلام بمن حل مراكش 2: 159 وطلعة المشتري 2: 119.

ليست هناك تعليقات