نظرة إلى قرنين من تاريخ التجارة بشمال الصحراء

 نظرة إلى قرنين من تاريخ التجارة بشمال الصحراء

الحسين باتا


تعتبر منطقة وادنون من أقدم المناطق تعميرا في الصحراء، فقد عرف سكانها الاستقرار منذ عدة قرون، والشواهد على ذلك كثيرة، وقد مارس سكانها العمل التجاري وأجادوه، إذ استغلوا الموقع الجغرافي المتميز لمنطقتهم المتموضع بين ميناء الصويرة وبين أسواق إفريقيا جنوب الصحراء عموما وأسواق تينبكتو على الخصوص، فاشتغلوا في ممارسة الوساطة التجارية بين المدينتين المذكورتين، مما خلق دينامية اقتصادية واجتماعية خاصة في وادنون، وتسعفنا وثائق عديدة في التوقف على بعض تفاصيل هذه الحركية، وعلى بعض تفاصيل هذه الوساطة، من حيث أنواع السلع المتاجر فيها، وأسعارها، ووسائل الاتصال والمواصلات المستعملة في الربط بين المدينتين، وغيرها من الموضوعات التي تحاول هذه الورقة التطرق إليها.

1_ نماذج لعائلات مارست التجارة بوادنون 

 إنه لمن الصعب الإحاطة بمعرفة أخبار كل من مارسوا التجارة في منطقة مارست التجارة بشكل أساسي، لذلك فإنني سأكتفي بثلاث نماذج فقط، الأول هو عائلة بيروك محاولا إبراز دورها في حركة تجارية دائبة بالمنطقة، أما الثاني فهو عائلة أهل عبد الواسع اللمطي، والأنموذج الثالث هو عائلة أهل لعريبي، متوخيا إلقاء حزم ضوئية على جوانب العلاقة  التجارية بين وادنون وتينبكتو التي استمرت ردحا من الزمن خلال إسهامات هاته العائلات.

أ_ عائلة أهل بيروك:

 يبدو أن يوسف بن عبد الله كان أول أجداد عائلة بيروك الذين وصلوا إلى وادنون قادما من توات وأتخذها مستقرا له ، وحدث أن أحكم فال عبيد الله أوسالم القبضة على وادنون منذ حوالي 1750م لتستمر هذه السيطرة من بعده حيث تمكن من دفع كلميم في اتجاه التجول إلي قطب تجاري يجمع البضائع القادمة من الشمال ويضخها جنوبا والعكس مما يؤهله للاستفادة من هامش الربح الذي تدره عملية الوساطة هاته إضافة إلى ما تضفيه المنتوجات المحلية المتاجر فيها مع أسواق الجنوب من قيمة مضافة إلى المداخيل  المالية للمدينة القطب، وما يعنيه ذلك من تنامي مطرد للرأسمال الذي يعمد إلى استثماره من جديد وفق دورة تجارية محددة، مما يساعد على خلق نوع من الرخاء ومواصلة الانخراط في دينامية خاصة بدأت تدب حرارتها في شرايين البؤرة كلميم في اتجاه أطراف منطقة وادنون، وفي الاتجاهين الكبيرين الشمال و الجنوب.

 ولم يكن الشيخ بيروك لينجز هذه المهمة التاريخية دون نقل السوق من أسرير إلى كلميم وما يستوجبه ذلك من ضرورة عقد عدة اتفاقات لضمان أمان السوق  البقعة الأكثر قداسة عند التجار وكذا الاهتمام بتوسع شبكة المتعاملين سواء بالصويرة أو بتنبكت أو غيرها، وعلى عكس والده عبيد الله أوسالم فإن بيروك نوع من صادراته ووارداته متفاديا ما يشبه التخصص في تجارة الرقيق الذي  مارسه والده، والذي كان يمتلك حوالي 1500 عبد ، والمهم عموما هو التأكيد على أن أبناء بيروك قد امتثلوا إلى حد كبير لنصيحته الخالدة الواردة في تصريح نسب إليه "... يجب ألا ننتظر الثروة بالبيت، بل من الواجب البحث عنها عبر نقل منتوجات بلادنا لمبادلتها بمنتوجات الأجنبي، فقد شاء الله لحكمته البالغة أن ما يوجد عند قوم يفتقد عند الآخرين، ليجبر بذلك البشر على إقامة علاقات توحدهم بدافع المصلحة وتطرد إلى الأبد روح الحرب لديهم..."  والأدلة على هذا الامتثال نستشفها من مجموعة من الوثائق التي تلامس هذه العائلة من قريب أو بعيد، وسأعمد في هذه النقطة إلى الحديث في البداية عن المكانة السياسية، مع التأكيد على أن هذه الوضعية السياسية ما هي إلا انعكاس للوضع الاقتصادي الهام الذي أعطى العائلة شهرة ومكانة في وادنون، بل تجاوزتها إلى مناطق أخرى، ومن ثم فمن المنطقي أن يختارها السلاطين كممثلة لهم بالمنطقة في تلك الفترة.

      وقد توقفت على عدة وثائق تدل على هذه العلاقة من قبيل رسالة سلطانية  من السلطان محمد بن عبد الرحمان إلى الحبيب بن بيروك الوادنوني سنة  1872م، ومناسبة الرسالة هي قضية أسر لحبيب أحد الإسبان بسبب خلاف بينهما، وتعقيبا على رسالة سبق أن بعثها لحبيب إلى السلطان يؤكد له فيها أنه طوع أمره في شأن هذا الاسباني الموجود رهن الاعتقال، فأكد السلطان على أن دار أهل بيروك "... إنما كبرت وعرفها أهل تلك النواحي وانتشر صيتها..."  بسبب عدة أمور أهمها "...شدة المحبة في جانب أسلافنا الكرام..."  يقول السلطان ولا يخفى على الباحث ما لهذا التصريح من دلالة، فالسلطان يقر بقوة وشهرة عائلة أهل بيروك في وادنون وما حولها من مناطق، ويقر كذلك ضمنا بأن هناك عدة عوامل ساعدتها على تقوية نفوذها، لكن ما يصرح به أيضا، وبشكل مباشر، هو أن أهم عامل ساعدها هو محبتها لعرش العلويين، هذه المحبة التي يقابلها الرضى من طرف العرش، والرضى تأشيرة البقاء في مصاف الحظوة، والرسالة واضحة جدا هنا، فالمحبة تستلزم الطاعة، والطاعة تستلزم احترام التزامات السلطان قبل رغباته.

      فالقبض على ذلك الاسباني هو مخالف لاتفاقاته مع الدول الأوروبية، هذه الاتفاقات التي تشمل أيضا المراكب المتكسرة بساحل وادنون و التي لابد من جمع حمولتها وإرسالها إلى السلطان الذي يتولى تسليمها لأصحابها بعد دفعهم عملية الجمع والنقل، وبعد أن وضح السلطان للشيخ لحبيب خطأه بنبرة معاتبة هادئة فقد وجهه إلى إطلاق سراح الأسير وتوجيهه إلى الصويرة أو تارودانت، مع ضمان تعيين السلطان لمن يقف على دعواه على الإسبان ل "ينظر فيها و في حججها" .

   ويظهر من خلال رسالة أخرى بعث بها السلطان المذكور إلى لحبيب بن بيروك بتاريخ 18_02_1873م أن القائد المذكور قد راسل السلطان معبرا عن طاعته للسلطان، واستعداده لتنفيذ ما يطلبه بشأن الأسير الاسباني .

 وفي رسالة أخرى بعث بها السلطان الحسن بن محمد إلى الحبيب بن بيروك سنة 1881م، فإن مواضيع أخرى لها نصيبها من المداولة بين السلطان و"خديمه" لحبيب، فالمصالح في هذه الرسالة ثلاثة، غير أن الوثيقة لا تفصح عن كنهها، ورغم ذلك فإن الوثيقة تدلي بمعطيات هامة عن الحالة الاقتصادية لوادنون في هذه السنة، فالسلطان يملك معلومات عن الأوضاع بوادنون من حيث  "...حبيس الأمطار وقلة الخصب..." وارتفاع الأسعار، وهي مؤشرات دالة على الحالة الاقتصادية العامة، ويؤكد السلطان أنه نفذ مطالب لحبيب بن بيروك التي أوردها في رسالته، لكن الوثيقة تصمت مرة أخرى حيال المسألة، لكن مما هو معلوم هو أن الحسن الأول كان قد عين الحبيب قائدا في السنة الموالية لتاريخ هذه الرسالة، أي في العام 1882م .

 أما في رسالة سلطانية أخرى فإن عائلة بيروك تثبت مرة أخرى أن لها أدوارا كثيرة فالسلطان محمد بن الحسن يبلغ القائد دحمان بن بيروك التكني بأنه قد توصل برسالته وما احتوته من أخبار عن مراسلة قنصل الاسبان للحبيب بن بيروك بشأن "...القبض على الخارجين منهم في الساحل..."  وكذا قضايا حساسة أخرى تضمنتها الرسالة المذكورة ، وعموما فإن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى الدور السياسي الذي مارسته العائلة، وقد أوردت بضع نماذج فقط لعلاقة أهل بيروك بالسلاطين المغاربة خلال القرن 19م، أما في القرن العشرين فقد وقفت على عدة وثائق بمثابة رسائل سلطانية إلى مجموعة من الشخصيات المنتمية إلى عائلة أهل بيروك، التي تؤكد  أن هذه العائلة هي التي تمثل السلطان في وادنون، مثلها مثل عائلة الحسين  أوهاشم الشهيرة بإليغ.

 ومما هو غير خاف، أن الدخول على السياسة من باب الثروة والنفوذ الاقتصادي هي مسألة يلمسها الباحث في تاريخ العديد من الشعوب إلى يومنا هذا، غير أنه من الأكيد أيضا أن هذا النفوذ الاقتصادي يتقوى بفضل هذا الدخول إلى عام السياسة، ذلك أن مجموعة من الصعاب تدللها آلة السلطة، وكذا مجموعة من الامتيازات التي تضمنها، الأمر الذي يضمن هذا التحكم المتميز في التجارة الذي أظهرته هذه العائلة إلى درجة أنهما أصبحا كالمترادفين، لا يذكر أحدهما إلا ويتبادر الأخر إلى الذهن، ومن ثم فإن الإشارات  المحلية على الدور الاقتصادي الهام الذي قامت به العائلة بوادنون كثيرة جدا، وما سأورده بهذا الخصوص في هذا المقام لا يتجاوز صرف الإشارة دونما تفصيل، ذلك أن هذا الدور الاقتصادي سيتوضح أكثر فأكثر فيما يأتي من صفحات قادمة من هذه الدراسة، وتركز هذه الإشارات على مجهودات العائلة في تنشيط الحركة التجارية بين وادنون وتنبكت ، وعليه فان أولى الإشارات تحيل على دور العائلة فيما عرفه وادنون وتينبكت من انفتاح على أوربا، هذا الانفتاح الذي يسهل تصريف البضائع المجلوبة من تبكت ويساعد على توفير ما يحتاجه التجار الوادنونيين من سلع لنقلها إليها، وذلك بالسعي إلى التعامل مع التجار الأوربيين الموجودين بميناء الصويرة، وهذا ما تدلل عليه المعطيات التي تذكرها رسالة من تاجر انجليزي  إلى دحمان بن بيروك سنة 1806م على سبيل المثال لا الحصر، وفي اتجاه أخر فإن العائلة تقدم عدة مساعدات لتجار وادنونيين آخرين إما على شكل سلف كما هو مبين في احدي الوثائق حيث يقدم محمد بن الشيخ امبارك مبلغ " مائتان وخمسة وعشرون مثقالا وستة واق وقنطار من العلك ونصف القنطار..."  ولم يكن من شرط على قابض هذا السلف سوى وجود ضامن، والضامن هنا هو المدعو " لود بن محمد" ، أو على شكل حماية كما هو الحال بالنسبة لحماية العائلة ليهود كلميم ، أو على شكل توفير رؤوس أموال لتجار آخرين على صيغة القراض مثلا .

ب- عائلة أهل عبد الواسع اللمطي

 أخذت اسمها من التاجر محمد العربي بن أحمد بن عبد الواسع اللمطي الوادنوني ، وقد رصدت تعاملات العائلة التجارية في عدة وثائق، مع أني لم أقف على أي ذكر لها في أي من الدراسات المتوفرة في المكتبات المغربية فيما أطلعت عليه، والحقيقة أن جل الكتابات التي اهتمت بوادنون تركز على عائلة أهل بيروك خصوصا وتغفل بدون قصد أو بقصد العائلات الوادنونية  الأخرى التي اهتمت بالتجارة بل  وتميزت فيها، وعليه فإني سأحاول إعطاء لمحة عن مكانة هذه العائلة التجارية بالمنطقة، وتوضيح مشاركتها في تنشيط الحركة التجارية بين وادنون وتينبكتو، وأول إشارة صادفتها بخصوص هذه العائلة وثيقة تعود إلى سنة 1879م  وهي رسالة من يعقوب المفتالي، ومن خلالها شكلا ومضمونا نتثبت بأنه يمارس التجارة منذ مدة، ذلك انه يتعامل مباشرة مع احد التجار المعروفين بميناء الصويرة، بل وعلى علاقة جيدة به، فصاحب الرسالة يبدأها بعبارة " ... فعلى صاحبنا ومحبنا المربط البركة سيدي محمد بن احمد بن العربي بن عبد الواسع اللمطي الوادنوني رعاكم الله وحفظكم وسلام عليكم..."  وذلك بعد الحمدلة والتوحيد وما إلى ذلك من مقدمات وافتتاحيات دينية كلاسيكية، وبعدها يدخل إلى صميم ما بينهم من معاملات تجارية من مطالبة بدين وعرض للأثمان إلى جانب عرض ما تيسر من خدمات و " السلام" كما تختتم عادة مثل هذه الرسائل، والملاحظ أن نوع السلع التي تذكرتها الوثيقة  يؤكد على  عميق العلاقة بحركة المبادلات بين تنبكت وادنون فالصويرة، فالتاجر الصويري يستفسر عن أثمان الريش، والريش كما هو معلوم يجلب من أسواق تنبكت، وكذا الذهب الذي يشير يعقوب بن المفتالي إلى كون سعره بميناء الصويرة يصل إلى 86 و 87 أوقية ، وتشير هذه الرسالة إلى جزئية لها أهميتها مفادها النقص الكبير في السلع بميناء الصويرة، ذلك أن المراكب لم تجلب سوى الحبوب ، وهي مادة ليست لها أهمية كبيرة بالنسبة لمحمد العربي، فمنطقة وادنون توفر كميات مهمة من هذه المادة، غير أن هذا لا يمنع من كونه يتاجر بها محليا، هذا ما تثبته وثيقة أخرى ، ففي العام 1902م رصدت تعاملا تجاريا من هذا النوع وكان هو البائع أما المشتري فهو محمد بن احمد عثمان، والسلعة هي الشعير( الزرع ).

 في إشارة أخرى تلمح إلى وجود علاقات له بأحد الأشخاص بالسينيغال، ذلك أن الرسالة هي تأكيد لأشعار سابق بقدوم احد الأشخاص والمسمى لمعلم عبد الكريم " ... ولا زائد على ما كنا قدمناه لك قبل هذا  وأعلمناك بالمعلم عبد الكريم الذي بسينكال بأنه كان كتب لنا بالقدوم كما علمت..."  غير أن هذا القادم "... لازال لم يحل بالصويرة...: ، كان ذلك سنة 1903م.

 تبين وثيقة أخرى أن محمد العربي هذا تاجر أيضا في جلد السبع  وربما في العبيد كذلك، فهناك ما يشير إلى عبد هارب في ملكيته .

        ج_ عائلة أهل لعريبي

 توجد مجموعة من الإشارات عن هذه العائلة في عدد من الوثائق، وتنتمي هذه العائلة إلى قبيلة الركيبات، فخذة أولاد الشيخ،  ومن بين أفرادها الذين مارسوا التجارة "... الأخ الفاضل عال بن محمد العربي..."  ويمكن للباحث أن يرصد وضعه التجاري الجيد، والمستشف من أهمية معاملاته التجارية مع صاحب الرسالة وهو عبد الوهاب محمد عثمان الوادنوني وصاحب وكالة تجارية بتينبكتو الذي يخبره في رسالته هاته أن الملابس قد أرسلها للصباغة " ...في يامن قرية في أقصى السودان، وان ظهر لي إرسالهم مع  عبد الله وإلا ففي البوسطة"  ومما لا شك فيه أن  هذه الملابس أو " اللباس"  كما تسميه الرسالة هو احد أنواع السلع التي يتاجرون بها إلى جانب " القلائد"  و "الدباليج"  التي يحصل عليها عبد الوهاب بطلبها من تجار آخرين بولاته، إضافة إلى الذهب الجيد  والى جانب  علي جانب علي بن محمد نتعرف على " السيد ابراهيم بن محمد بن العربي"   وأخيه المتوفى حديثا " المرحوم احمد" وهما الاثنان يمارسان التجارة، غير أن الأخ المتوفى كان تاجرا كبيرا وصاحب عقارات ويملك محلا تجاريا بتنبكت، إلى جانب اشتغاله في تجارة الملح المذرة للأرباح، أنه يجلب سنويا " أزلاي"  من تاودني مكون من مأتي جمل، وهو رقم له دلالته.

      وبعد عامين من هذه الرسالة فقد سجلت و الضبط سنة 1916م تطورا كبيرا في أداء إبراهيم بن محمد العربي، فقد أصبح "... لله الحمد وله المنة أشهر اسمي- يقول إبراهيم – من اسم عبد الوهاب عند النصارى وعند غيرهم وفي البلدان..."  وعبد الوهاب هذا هو نفس  الشخص الذي قال عنه قبل عامين من تاريخ رسالته هاته"... فهو أوسع مني لأنه يعمل عند النصاري ويصرف في كثير من المال وأنا ليس بين يدي إلا هذا..." ، وإذا ما حذفنا ما يمكن أن يكون قد أضافه صاحب الرسالة من مبالغات بخصوص وضعه التجاري الذي  يقول أنه فاق مستوى عبد الوهاب المذكور صاحب المحل الشهير بتينبكتو، وقلنا بأنه بلغ مستواه فقط باعتبار القدر الجيد من المال الذي ضخه في رأسماله، والذي وصل إلى نصف ثروة المتوفى ، والذي لا شك في كونه قد وظفه في تجارته، مما مكنه من الارتقاء بسرعة خلال عامين فقط، وهي دلالة على الأرباح الهامة التي كانت تذرها هذه التجارة.

       ولابد أن أشير كذلك إلى أن هناك إشارة تقول بوجود ابن لإبراهيم هذا يمارس التجارة باعتراف من أبيه وهو بصدد الحديث عن استغلاله لقدوم الملح لاستخلاص بعض ديون أخيه إذ يقول"...ومما أخذنا من الدين سبعين رأسا ملحا، وكان أيضا واحد من ابني امحمد قارضه أخينا الهالك..."  وعليه فإننا نكون أمام فرد آخر من هذه العائلة المشتغلة في صمت ودون اهتمام بعالم السياسة، فإلى حدود 1930م  فإن الوثائق تردد اسم محمد العريبي وهو منهمك  في تجارته، وتكشف هذه الوثيقة إلى جانب أخرى  عن مواد جديدة شملتها تجارته وهي السكر والشاي والثوب والإبل والعلك والملابس، والحق يقال أن هذه الشخصية تثير الإعجاب فعلا، فالفترة التي رصدتها هذه الوثائق المتوفرة تشير بوضوح إلى مسيرة تجارية قدرها واحد وخمسين سنة من العمل التجاري، ومسيرته اكبر من هذا بدون شك، لكن 51 سنة وحدها كافية لتكوين انطباع متميز عن هذا الشخص و عن محوريته في العلاقة التجارية التي ربطت بين وادنون و تينبكتو، و تبين دوره و دور عائلته في إغناؤها بحيوية و خبرة متميزتين تشهد عليها الوثائق السالفة الذكر و أخرى عديدة تكشف عن حجم معاملاته التجارية و نوعية السلع المتاجر فيها.

 2_ اليهود و الحركة التجارية بين وادنون و تينبكتو: أي علاقة؟

 "...لم يجد التاريخ جوابا شافيا لحد الآن لبدايات استقرار اليهود بالمغرب، و لا لأصولهم العرقية و ما زال تاريخهم ضربا من الأساطير..."  التي تحتاج إلى العديد من الدراسات و خصوصا الأركيولوجية منها قصد الوصول إلى إحلال الحقائق مكانها، غير أن ما هو شبه ثابث عند مجموعة من الدارسين هو كون اليهود هم أول مجموعة غير بربرية تفد إلى المغرب، و أن الديانة اليهودية هي إحدى أقدم الديانات بالغرب الإسلامي ، و قد اختلفت في أسباب هجرتهم إلى المغرب، ما بين قائل أنهم وصلوا إليه كجنود تحت إمرة أحد قواد الملك داوود أو ابنه سليمان  أثناء مطاردتهم للفارين من فلسطين عند قتل ملكهم جالوت في القرن 10 ق.م، أو بحثا عن الذهب بأمر سليمان  و قائل بأن هجرتهم إنما كانت بسبب البطش الذي لا قوه في المشرق ، و هي آراء تحتاج إلى الدراسة و التمحيص.

 و ما يهم هذا البحث حقيقة هم يهود وادنون الذين يتخذ موضوع وصولهم إليه في القديم طابعا ملحميا، أشرت إلى أنموذج له عند حديثي عن أصل تسمية المنطقة، لكن الملاحم لا تعنينا في سياق هذا الدراسة، بل ما نتغياه هو الحقائق التاريخية مع التأكيد على نسبة هذه الحقائق، و من هذه القناعة فقد حاولت الحديث عن يهود وادنون من خلال وثائق محلية لا تقدم الكثير، لكن ما تقدمه عنهم خلال القرنين 19 و 20 الميلاديين على بساطته اقرب إلى الذهن من تلك الحقائق الافتراضية التي يعطيها بعض الباحثين عنهم خصوصا إذا تعلق الأمر بالعصر القديم.

 أ- التوافق الاقتصادي و التعايش الاجتماعي

 لا أعتقد أن هناك تاجرا يهوديا قد يتعرف على منطقة وادنون خلال الفترة المذكورة دون أن يفكر في الاستثمار والعمل التجاري بها، ذلك أن موقعها الجغرافي أهلها لكي تكون نقطة التقاء برية بين السلع القادمة من الشمال وتلك القادمة من الجنوب، وما يعنيه ذلك من استفادة كبيرة من الأرباح الناتجة عن عملية التبادل تلك، وهذا الأمر هو بمثابة خادمات موجودة على سطح الأرض، فما يلزم للوصول إلى الربح هو امتلاك رأسمال مناسب، وإذا ما أضفنا الخبرة التاريخية في التجارة المشهود بها لليهود فإن حجم استفادتهم سيكون هاما، ولضمان أهمية هاتين المسألتين كان لابد من إجراءات معينة، فالتاجر بشكل عام والتاجر اليهودي خصوصا يضع نصب عينه دائما توفر إجراءات الأمن المفضي إلى الأمان، وأي أمان، أمان النفس ورأس المال، وبالنسبة لهذه الحالة فإن من سيوفر هذا الشرط هو المخزن أو من يمثله هنا هي عائلة أهل بيروك، وعليه فقد "...عقد أبناء الشيخ مبارك على يهود ملاحهم، جميع ما يعطونهم من الجزية مائة وخمسون مثقالا ويعطونهم ستون اكليميم من الحديد وخمسة عشر رطلا من الهند، ويعطونهم ريالا لكل رطلا من الريش، ويعطونهم خمسة عشر أوقية مثقال لكل جمل من قرية اجليميم من جلد وصوف وعلك..."  وقد كان هذا الأمر في العام 1864م حسب ما تدلي به الوثيقة، ولا نعلم في حقيقة الأمر إذا ما كان عقد الجزية هذا هو الأول من نوعه، أم إنه مجرد تجديد لعقد سابق، وإن كنت لا أرجح هذا الافتراض الثاني من داخل هذا العقد ذاته، فالملاحظ أن الطرفين الملزمين بالعقد، أي أبناء بيروك ويهود ملاح كلميم لم يحددا مدة صلاحية معينة للعقد، وما يعنيه هذا الأمر من استبعاد مسألة العقد السابق.

 ومقابل هذه الواجبات التي أملاها العقد على اليهود فقد ضمن لهم الأمان وحرية التجارة إلى جانب مجموعة من الحريات والحقوق الدينية والثقافية المحترمة قبل توقيه هذا العقد، فسكانهم في حي خاص هو الملاح سابق على عقد الجزية هذا، ولا يخفى على أحد مدلولات السكن في حي خاص والتي تشمل أغلب الحريات الأخيرة السالفة الذكر.

 ولتوضيح كيف يضمن العقد الأمان لهؤلاء اليهود فلا بد من العودة إليه، وذلك أنه بموجبه يكون "...التآلف في الملاح أثاثا، على محمد ثلثين وعلى الحبيب ثلث..."  بمعنى أن أبناء بيروك ملتزمون بتعويض اليهود عما قد يلحقهم من خسائر في الملاح، وبلغة حديثة أقرب من هذا المعنى، فإن من يدفع بوليصة تأمين خسائر اليهود سواء المادية أو الجسدية هم أبناء بيروك، غير أنه لابد من ملاحظة صعوبة تقبل فكرة تعويض أي خسارة مهما كان سببها، على أن الأقرب إلى الذهن أنه كان هناك وعي مشترك بحدود هذا "التآلف" إلم نقل بوجود اتفاق غير معلن عنه في هذا العقد، ومن وجهة نظري فإن هذه الخسائر المحتملة هي تلك التي يحتمل أن تأتي من خارج الملاح، وبعبارة أوضح فإن التجار اليهود في حاجة لحماية ذواتهم الفردية كتجار يكدسون ثرواتهم في بيوتهم ومحلاتهم بالملاح، وكذات جماعية يهودية ديانة و ثقافة في وسط مسلم ينظر إليها بارتياب وتنظر إليه بشك، غير أن هذا الواقع التاريخي الذي يعود إلى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين لا يعطينا الحق بأي حال من الأحوال كي نصدر حكما من الأحكام، والتي لن تعدو أن تكون سوى أحكام قيمة، خصوصا فيما يتعلق بأشكال التعامل الإنساني الاجتماعي الغير المادية  والمرتبطة بالبنيات الدينية والثقافية للذوات الفردية المؤسسة لجماعة أو شعب أو أمة، هذه الأشكال التي يندرج ضمنها هذا الشكل من التعامل اليومي – بجميع المستويات – المشوب بالحذر، ولكل أسبابه التي يرجح أن تكون نفسية بالدرجة الأولى، غير أني لا أريد أن يفهم من كلامي هذا أن الوضع كان سيئا بين يهود وادنون وساكنة المنطقة، فلم أقف على قرائن تقول بهذا الأمر، بل على العكس من ذلك كله فإن اليهود كما سأبين ذلك قد أفادوا المنطقة واستفادوا من إقامتهم بها.

 ب- الحضور اليهودي في علاقات وادنون التجارية:

 من خلال عقد الجزية دائما، هذا العقد الموقع في العام 1864م، فإن مجموعة من المواد التي يتاجر فيها اليهود تصبح بالنسبة لنا معروفة، فقد كانوا يجلبون الريش، و إلا فلماذا يؤدون عنه "...ريالا لكل رطل من الريش..." ، كما أنهم يحملون "...الجلد والصوف والعلك..." ، ويتاجرون أيضا بالحديد ومعادن أخرى .

 والواقع أن مساهمتهم في اليوميات التجارية لوادنون كان سابقا على عقد الجزية الذي ذكرته، فقد رصدت قيام أحد التجار اليهود بدور وساطة بين دحمان بن بيروك وتاجر إنجليزي، وهي وساطة تروم تدشين تعامل تجاري بين التاجرين المذكورين، إن الباحث في هذه الحالة يجد نفسه وجها لوجه أمام معطيات عن خدمات ذات طابع دولي فالتاجر الإنجليزي هو نفسه قنصل إنجلترا وهي الدولة المسيطرة على نصف المبدلات في مرسى الصويرة  كان ذلك في العام 1806م.

 وفي جانب آخر من جوانب التعامل فقد وقفت على وثيقة فريدة تسلط الضوء على طلب تنفيذ حكم قضائي  من توقيع ثلاث حزانيم ضد يهودي آخر يدعى داوود بن غانم، في حين أن صاحب الدعوى والحامل لصورة الحكم هو المدعو الياهو حتويل، والطلب للإشارة فهو موجه للقائد دحمان، فهو إذن القوة التنفيذية المضمونة  لحكم قضائي شرعي عند اليهود، و هو المفرج الوحيد بعد الله عن "...السبعة أحمال من الصوف..."  موضوع الدعوى القضائية و المحجوزة تحت يد القائد دحمان نفسه.

 وفي بداية القرن العشرين وبالضبط سنة 1902م   فيمكن للملاحظ رصد استمرارية ممارسة اليهود للفعل التجاري بوادنون من خلال الوجود الفعلي في أي شبكة تجار بينها علاقات تجارية، بل ويمكن لهذا التشارك في الفعل التجاري أن يتطور إلى حدود تمويل صفقات تجارية  ، والدليل هو حيازة التاجر أحميد بن محمد فاضل لمبلغ "...6000 ريال فرنسية..." من اليهودي إلياه بن موشي لاستثماره في نشاط تجاري، أما الأرباح فهي بالتناصف بينهما ولا ذكر للخسارة، والضامن في الصفقة هو الله تعالى، ونعم الضامن.

 هكذا كان التعامل إلى حدود سنة 1948م تاريخ الوثيقة، غير أن عدم مراعاة الشرع في التعامل تقتضي تدخل الشريعة لضبط هذا التعامل، ذلك ما يوضحه محضر عدلي  يحمل حكم قاضي محكمة كلميم السيد أعبيد بن الحرمة يقضي بضرورة أداء أحميد بن محمد فاضل مبلغ 35 ألف ريال لهذا اليهودي في "...موسم الامعيليل  القادم..." وكانوا في العام 1950م، و مذاك انقطعت أخبارهم عني طوال العقود الأخيرة، باستثناء أخبار يهودي وحيد لازال يسكن المنطقة إلى يومنا هذا مستمرا في تجارة الخمور التي عوض بها تجارة أسلافه الوادنونيين.

 3_المبادلات التجارية بين وادنون و تينبكتو

            أ_ صادرات وادنون إلى تينبكتو بين قرنين:

 "...شاء الله لحكمته البالغة أن ما يوجد عند قوم يفتقد عند الآخرين ليجبر بذلك البشر على إقامة علاقات توحدهم بدافع المصلحة..."  و بالنسبة لتجار وادنون، فإن قرب منطقتهم من الصويرة الميناء المستقبل لبضائع أوربا وفر لهم ما هو مفقود بالنسبة لأسواق توفر تينبكتو، وهذه الأسواق توفر بدورها عدة أنواع من البضائع المطلوبة في الأسواق الأوربية. وتتحدث الوثائق عن العديد من البضائع التي تحمل إلى تينبكتو ومنها الأثواب ك"الخنط الأسود وماريكان"  الحرير . ونسجل أن المتاجرة في الأثواب استمر كذلك خلال القرن العشرين، ففي سنة 1905م سجلت وجود صفقة تجارية بين محمد العربي وأحد التجار و السلعة هي 60 بيضة ، وفي عام 1930م صرح تاجر يدعى مولاي الحسن بم مولاي الأداد أنه يحمل أمانة  لمحمد العربي، ومن ضمن هذه الأمانة هناك 94 بيضة إلى جانب "...خمسة أرطال حرير أبيض وأربع بيصات كبرى، اثنين كبيرة من سبعين قالة للواحدة، واثنين وأربعين قالة لكل واحدة..."  وإلى جانب الأثواب فقد احتل الشاي والسكر مكانة هامة ضمن صادرات وادنون إلى تينبكتو منذ القرن التاسع عشر إلى حدود الفترة التي تغطيها الوثائق من القرن العشرين، وأقدم هنا إشارتين من القرن 19م وتعود الأولى إلى سنة 1881م، إذ يخبر يعقوب التاجر محمد العربي أنه أرسل إليه "...حمل من سكار ميزانه ثلاثة قناطير عود القولب، إحدى وستون قلب وعلى يده أيضا زنبيل كبير من أتاي داخله ثلاثة عشر رطلا ونصف صافي... عليه الطبع وهو جيده غاية الجودة ليس هو من السوق..."  ، وهو يخبره هنا أنه أرسل إليه حمل جمل من السكر من نوع (القالب) يصل وزنه إلى ثلاثة قناطير، إضافة إلى كمية محددة من الشاي الجيد الذي لا يوجد في السوق نوع في جودته، أما الإشارة الثانية فهي في أخر القرن وتخص مادة السكر إذ يشير ربين المليح في رسالته إلى دحمان بن بيروك الذي سبق أن أرسل إليه السكر والأرز ، أما في القرن العشرين فإن السكر لازال ضمن لائحة الصادرات نحو تنبكت، فما هو أحد تجار الصويرة يبلغ محمد العربي بسعر السكر بالميناء، وكان سعره حينئذ ثمان مثاقيل ، ويؤكد على أن هذا السعر يحصل فيه نوع من التخفيض عند حلول "البابور" بالميناء المذكور، وفي وثيقة أخرى تعود إلى العام 1931م نجد ذكرا ل "...جمل من السكر وثلاثة عشر أرطال وثلث رطل من الأتاي..."  مما يؤكد ما ذهبت إليه بخصوص استمرار السكر والشاي كمنتوجين  يدخلان ضمن صادرات وادنون نحو تنبكت، وبالإضافة إلى هذه السلع نجد مجموعة أخرى كالألبسة، والإبل، والأسلحة، والأفرشة، ويشير تقرير فيليكس ماثيوس على مواد أخرى تدخل ضمن المبادلات من مثل "...الحديد على شكل قضبان كبيرة...والملح والبارود وبضائع القطن من عدة أنواع والقطن المصبوغ..."  إلى جانب الكؤوس والمرجان وعقد الكهرمان والجوهر والمحار مسامير النحاس... وجوز الطيب المغربي والقرنفل والفص والزنجبيل وكميات ضخمة من الكيف والتبغ  والملح..."  والحقيقة أن بعض الأنواع من البضائع التي يذكرها ماثيوس تثير التساؤل من قبيل الكيف الذي اعتبر أن تصديره كان بكميات ضخمة ولا تشير إليه آية وثيقة كنت قد وقفت عليها بخلاف الملح الذي اتفق معه فيما ذهب إليه بخصوصه، فملاحة تاودني موجودة في الطريق إلى تنبكتو، ولا غرو أن يحمل منها الملح بكميات كبيرة مادام تجارة لا تبور بأسواق تنبكت، خصوصا أنه مادة أساسية في نظامهم الغذائي – أي ساكنة وما إليها من المناطق-، وقد رصدت تجار وادنونيين يحملون منه كميات ضخمة قد تصل إلى حمل 200 جمل من الملح  .

 ب_ واردات وادنون من تنبكتو:

 طغت المنتوجات المطلوبة بالسوق الأوربية على واردات وادنون من تنبكتو، فالفرق بين سعر شرائها من أسواق تنبكتو وسعر بيعها بميناء الصويرة شكل مطمحا لكل تجار وادنون، ذلك أنه ربح له نصيب محترم من الإغراء، وهو ما تثبته الوثائق المعتمدة في هذه الدراسة، و الملاحظ عموما  في هذه الدراسة، والملاحظ عموما في هذه الواردات هو استمرار المتاجرة في نفس البضائع تقريبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرون، فمادة العلك مثلا وهي المعروفة بالصمغ العربي استمرت كإحدى السلع الرئيسية في واردات تنبكتو إلى كلميم، وإلى ذلك تشير إحدى الوثائق إلى كون أحد التجار وهو مولود بن محمد بن عبد الرحمان كان قد اشترى قنطارا ونصف من العلك  من عند أحد أهم المستوردين وهو محمد بن الشيخ بيروك، وقبل تاريخ هذه الوثيقة فإن هناك إشارة إلى كون هذه المادة مطلوبة بالسوق الأوربية أو في بلاد النصاري  حسب لغة الرسالة، وهذه الملاحظة كان قد بعث بها أحد التجار من انجلترا إلى دحمان بن بيروك، وهذه الوثائق تسعف الباحث على التعرف على هذه المادة في القرن العشرين، ففي سنة 1929م، فالعلك بسعر "...سبعة و عشرين ريالا، زدنا هذا لنعلمك، فإن العلك اليوم بثلاثة وثلاثين ريالا ومازال في الزيادة..."  وهذا يوضع أن الطلب الأوربي لازال مستمرا، بل ومتناميا على هذه المادة، وهو ما يفسر استمرار التجار الوادنونيين في استيرادها من تينبكتو.

 أما بالنسبة للريش، أي النعام فقد كانت له مكانته في لائحة الواردات، وتفيد إشارة وردت في رسالة من أحد بإنجلترا إلى دحمان بن بيروك في التعرف على وجود هذه المادة ضمن هذه اللائحة، ورغم أن الرسالة تشير إلى كون "...الريش سوقه بارد في بلاد النصارى..."  أي أن سعره منخفض في أوربا، إلا أنها تؤكد أنه كان من الموارد المجلوبة من تنبكتو في بدايات القرن 19م و بالضبط سنة 1806م، وقبل عقدين من نهاية هذا القرن فإن رسالة من يعقوب بن المفتالي إلى محمد العربي تكشف عن المتاجرة في الريش في هذه الفترة، إذ يؤكد أنه بإمكانه الحصول على المعلومات التي يريدها عن الريش من الذمي مسان حامل الرسالة ، وهو نفس أحد مضامين إحدى رسائل تاجر يدعى محمد بن بديه إلى محمد العربي  ، وهناك إشارة أخرى عن مادة الريش، لكنها وردت في رسالة بدون تاريخ، وهي رسالة من إبراهيم بن محمد بن هموش، غير أني أرجح أن تكون قد كتبت في بدايات القرن العشرين، ذلك أني لم أقف على أية وثيقة تتحدث عن إبراهيم المذكور هذا في القرن التاسع عشر، إضافة إلى كون هذا الأخير كان مجرد مساعد لأخيه أحمد إلى حدود وفاة هذا الأخير سنة 1912م كما سبق وأوضحت قبلا، ومهما يكن من أمر، فإن الرسالة تؤكد استمرار المتاجرة في مادة الريش، إذ يوصي صاحب الرسالة مخاطبه بإبلاغ أحد التجار بأن "...يسأل عن بيع الريش لبيع تلك الأمانة التي عنده ويجعلها في الشمس لئلا تأكلها العث..." .

 هذا بخصوص الريش، وإلى جانبه نجد كذلك جلد السبع الذي وقفت على إشارة بخصوصه في بداية القرن العشرين، إذ يؤكد تاجر يدعى الحسين بن الأحمر الإبراهيمي لمحمد العربي أن جلد السبع قد وصله بأربعة عشر ريالا .

 أما الذهب فإن محاولة شرح مرتبته ضمن أي من الواردات أو الصادرات هو أمر لا معنى له، ذلك أنه جوهر العملية التجارية برمتها، وعموما فإن وجود ضمن واردات أو الصادرات هو أمر لا معنى له، ذلك أنه جوهر العملية التجارية برمتها، وعموما فإن وجوده ضمن واردات وادنون من تنبكتو أمر لا مراء فيه، ومكانته لا جدال فيها، وتؤكد إشارة وردت في رسالة من يعقوب بن المفتالي التاجر الصويري غلى محمد العربي أن سعره بميناء الصويرة "...من ستة و ثمانين أوقية إلى سبعة و ثمانين أوقية..."  ، في حين أن سعره بتنبكتو سنة 1914م هو "...ثلاث ريالات من غير مصروف سكه..."  ، غير أن هذا السعر سيصل سنة 1944م إلى حوالي 50 ريالا للغرام، وهذا ما تشير غليه رسالة من صاحب وكالة إلى Kader إلى تاجر يسمى احمد بن سيدي محمود إذ يقول "...لقد بلغني أنه يسوى إلى خمسين ريال للغرام، إن كذلك بيعها..."، ومن الطبيعي حقيقة أن يتطور سعر الذهب بمرور السنين بالنظر إلى قلته وارتفاع الطلب المتزايد عليه.

 ومن المواد الأخرى المشكلة لواردات وادنون من تنبكتو نجد مادة الملح، وبخصوص هذه المادة نسجل ملاحظة رئيسية مفادها أنها مطلوبة في الاتجاهين الشمال والجنوب، فتجار وادنون يحملونها إلى أسواق تينبكتو، كما أنها تحمل إلى الصويرة لتصديرها إلى أوربا، منذ بداية القرن 19م نسجل حاجة السوق الأوروبية لهذه المادة، ومن ثم فإن أحد التجار الانجليز يؤكد لدحمان بن بيروك أن الملح " ...يسوى حتى لعشرين ريال في بلاد النصارى..." ، ولا نعدم مؤشرات أخرى دالة على المتاجرة به مع الشمال في القرن العشرين ، ولا غرو في ذلك فملاحة تاودني على الطريق نحو تنبكتو، ولذلك فلا مانع من حمل هذه المادة في الاتجاهين مادمت توفر للتاجر ما يصبو إليه من أرباح.

والحق يقال أنه من الصعب حصر المواد المجلوبة من تنبكتو أو التطرق إلى كل تفاصيلها، فإذا كانت الوثائق تتحدث عن بعضها فإنها تصمت حيال الكثير منها، وعلى العموم فإن التجار الوادنونيين كانوا قد تاجروا في عدد من البضائع غير تلك ذكرت، من مثل الصوف  والألبسة، وهي تجلب من تينبكتو  إلى جانب النسيج القطني والحلي الذهبية  والفضية ، وكذا بعض أنواع المرهمات المصنوعة من شحم وبيض النعام، إضافة إلى أدوات إشعال النار، إلى جانب عشبة طبية تسمى تاجماخت، فضلا عن مادة القطران.

          ج- المبادلات التجارية بين وادنون وتينبكتو وقضية الرق

شكل الرقيق بضاعة مهمة إلى جانب ما يتم جلبه من سلع، وكما أسلفت ذكره عند حديثي عن عائلة أهل بيروك  فان عبيد الله أو سالم كان يملك حوالي 1500 عبد، ورقم كهذا له دلالته فيما يخص تعاطي التجارة الوادنونيين مع مسألة الرقيق، والوثائق المدروسة في هذا العمل  المتواضع يحيل بعضها إلى الرقيق والمتاجرة فيه، ففي إحداها نجد تحديدا لأسماء بعض الإماء وأثمانهن، ثم كذلك تحديدا لأسماء بعض العبيد وبيان أثمانهم  أيضا، ولا بأس من التمثيل لذلك بهذا الجدول :

أسماء العبيد والإماء الأثمان

افطيم فرج وبنتها 600

بنتها جمع 800

امسيحة وابنها 700

أم الخير 800

فطيم أكدير 500

مولودة 500

امعمر 500

محمود 500

ينس 500

بل 500

اصنيب 500

ممد 400

ابريك 400

بلل 500

امبارك الطويل 300

سويلم 388

سبر وبوجمعة 500

 وتذكر هذه المعطيات المذكورة في الجدول إلى جانب تعداد مفصل للإبل والخيل والملابس والأسلحة، ذلك أنه في تصور صاحب هذا الكناش وهو لحبيب بن بيروك مجرد أشياء أو سلع مثلها مثل السلع الأخرى المذكورة.

 ومن المعروف أن الجزء الأكبر من هؤلاء العبيد كان يوجه إلى الصويرة ليحمل صوب أوربا، غير أني صادفت عدة إشارات عن حالات الاحتفاظ ببعضهم للخدمة، ففي رسالة لعلي فال بن المقدم مبارك يطلب من السيد محمد العربي أن يرسل له كمية من السلع "...مع الوصيف أمبارك..."   وهذا يبين أن عالي فال احتفظ بعبد أو أنه اشتراه قصد الاستفادة من خدماته وخصوصا في العمل التجاري.

    وفي إحدى رسائل إبراهيم بن محمد العربي فإنه يتحدث عن الغلام كبير الذي اسكنوه في إحدى الدور الموجودة في ملكية أحمد بن محمد العربي، واستفادوا من خدماته في التجارة، يقول صاحب الرسالة عن هذا الغلام": "...فهو الذي يبيع لي و لعبد الوهاب..."  أي أنه يشتغل كمساعد للتاجر.

والحقيقة أنه باستثناء معطيات معينة كالأثمان أو الأسماء فإن كثيرا من الجوانب الأخرى تبقى مجهولة، خصوصا طبيعة التعامل من الناحية الاجتماعية وما إليها، غير أن هناك وثيقة بطلها عبد آبق  ، وإن كانت  هذه الوثيقة لا تعطينا أي إشارة عن أسباب هذا الإباق  غير المباشرة باعتبار أن السبب الرئيسي هو فقدانه للحرية وفقدانه لهذه القيمة، فإنها تلمح إلى ظروف إباقه، فيبدو أنه استغل فرصة اختلاطه بالعبيد في دار الشخص المستقبل لهذه الرسالة وهو الحاج ( اجد)، وهذا العبد كان مرسلا إلى الحاج اسعيد بن مبارك مع شخص أخر يدعى بن داود، حسب مضامين الرسالة، وكما أسلفت فإنه باستثناء مبرر طلب الحرية فإني لم أقف على أسباب أخرى لإباقهم، فهل كانوا يتعرضون للمعاملة القاسية؟ أم أن هناك نوع من الاحترام لأدميتهم؟ أسئلة لا تساعد الوثائق المتوفرة على الإجابة عنها.

4- وسائط المواصلات والاتصال

           أ_ وسائط المواصلات

      ليس من المعقول في شيء الحديث عن حركة تجارية دؤوبة بين وادنون وتينبكتو دون الحديث عن مسألة أساسية تؤثر درجة تطورها في مدى تطور هده الحركة، وهذه المسألة هي وسائل الاتصال والمواصلات، ومن وجهة نظري فإنه لا يمكن لأي باحث في علاقة وادنون بتينبكتو ألا يذهب تفكيره إلى هذه المسألة باعتبار طول المسافة بين المنطقتين والطابع الصحراوي الصادم للمنطقة المجتازة، حيث الرمال وندرة المياه والرياح، وكلها عوامل تستدعي الوقوف بجدية على هذا الموضوع، لذلك سأحاول التطرق إليه من خلال ما ورد في هذه الوثائق من معطيات، إضافة إلى عدة دراسات، والواقع أن كل الوثائق التي وردت بها إشارات إلى وسائل الاتصال والمواصلات تجمع كلها على أن هذه الوسائل ما وجدت إلا لخدمة التجارة، فموضوع المبادلات هو الموضوع الرئيسي في متونها، وأي موضوع أخر فما هو إلا افتتاحيات كلاسيكية أو أسئلة روتينية عن الحال والأحوال والعائلة.

    والواقع أنه من الطبيعي أن تطغى تيمة التجارة في وثائق تجارية بالأساس، غير أن ما قد يصنفه عن البعض في إطار الخوارق هو كيف يتم تبادل السلع والأخبار عن البضائع وأنواعها وأثمانها وما إلى ذلك على طول المسافة بين تينبكو وما حولها من البلدان ووادنون، ومنه إلى الصويرة في ظل ظروف قاسية ذكرت بعضها سابقا، غير أنه لم تكن ثمة أية خوارق بل أن الأمر كان واقعيا إلى أبعد الحدود، لأن من شأن عدم التقدير الجيد لهذه الحدود هو الإنتهاء إلى مأزق تكون الموت نتيجة منطقية له، فالقافلة أو قطار الصحراء كما أسميها، باعتبارها وسيلة النقل الوحيدة المتوفرة لنقل السلع من تينبكتو إلى وادنون والعكس، كانت تعترضها أخطار عدة، وليس أقلها التيه ونفاذ الماء في صحراء لا تقبل طبيعتها أخطاء بسيطة أحيانا، وحتى على أعتد الأدلاء فإن الصحراء  قادرة، ذلك أن الرياح قد تؤدي إلى هلاك القافلة.                  

 والواقع أني لم أقف في هذه الوثائق على أية إشارات بخصوص تنظيم القافلة أو خط سيرها، لكن ما هو معروف عن تنظيم القافلة في القرن التاسع عشر في المغرب  أنها كانت تضم من 1000 إلى 1500 جمل و هو ما يؤكده فيليكس ماثيوس بالنسبة للقافلة التي تربط بين وادنون وتينبكو  إذ يشير إلى أنها عادة ما تضم 1000 جمل، وأعتقد أن هذه الأرقام هي الأرجح، وإن كان هناك من الباحثين من يرى أن القوافل المغربية وصلت في أواخر القرن التاسع عشر إلى خمسة آلاف جمل وهو رقم كبير جدا في فترة عرفت تسارع الاستعمار الفرنسي في الغرب الإفريقي مما أدى إلى شل عدة محاور تجارية كتلك الرابطة بين تيندوف وتينبكتو.

 ومما هو في حكم اليقين أن أعدادا مهمة من هذه الإبل كانت تخصص لحمل العملة التي لا تقابلها عملة في بحر الرمال المتلاطم، أي الماء، بل إن أصحاب القوافل يعمدون إلى تعيين أعدادا أخرى يسقونها كميات كبيرة من الماء فوق إرادتها حتى يتمكنوا في حالة العطش الشديد أن ينحروها ويشربوا ما في بطونها من ماء . وبالنسبة لتلك القافلة المغادرة لوادنون والعائدة إليه فإن قيمة حمل كل جمل تعادل حوالي 250 دولارا أمريكيا في أواخر القرن التاسع عشر ، وتؤكد إحدى الباحثين على أن القافلة يكون على رأسها الدليل  وهو ما يؤيده باحث آخر ، والدليل هذا هو الشخص الذي يقود القافلة، وهو صاحب مهمة تتطلب الدراية الكبيرة بالمجال الذي ستقطعه القافلة من حيث مناسبته للسير بالنسبة للإبل، أو أماكن الماء، أو القرى التي يحتاجونها للاستزادة ببعض المؤن أو غير ذلك من الأمور الأساسية، و يبدو أن هذا الدليل كان يتقاضى أجرة هامة ، كما تجهز القافلة ببراج تكون مهمته إبلاغ أوامر الدليل إلى من في القافلة، ومجهزة وكذلك بمؤذن وإمام وحرس ، وفيما يخص الحرس فإن ماثيوس يشير على أن القافلة الوادنونية –إن صحت التسمية- كانت تدفع مبلغا من المال لإثنين من (الزطاطة)  المنتمين للقبيلة التي تمر القافلة من مجالها الذي تستقر أو تتنقل فيه، ويرافقونها حتى تدخل إلى مجال قبيلة أخرى، وهكذا حتى تصل بأمان إلى تنبكتو، بعد أن تكون قد اجتازت أحد طريقين رئيسيين، إما الطريق الشرقي الرابط بين وادنون وتينبكت عبر تندوف ، أو الطريق الساحلي الرابط بين المنطقتين عبر تيرس وولاتة  خلال القرن التاسع عشر، أما مع بداية القرن العشرين فإن تمكن فرنسا من بسط وجودها العسكري في الجنوب الجزائري واحتلالها لواحات المنطقة  تسبب في توقف القوافل عن إرتياد هذا الطريق مفضلة الطريق الساحلي الأنف الذكر.

 ومما تقدم يصبح من الواضح أن وسيلة النقل والتنقل الرئيسية (القافلة) التي كانت تضمن التواصل التجاري بين المنطقتين، هي وسيلة بسيطة أنتجها خليط كبير من الإجراءات المعقدة، ورهينة بظروف لا تقل تعقيدا مرتبطة بعوامل طبيعية بالأساس، فهي بساطة من النوع الخطير، وأيضا فهي من النوع الغريب، وغرابتها تكمن في كونها ضرورية في تلك الفترة لاستكمال دورة تجارية دولية، فلولاها حينئذ لما وجدت المراكب الأوروبية من يوصل سلعها، وما وجدت أيضا ما تحمله معها إلى أوروبا، إنه تعايش استمر إلى أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، عندما لم تعد القافلة تتكون من مائة جمل إلا نادرا ، وهكذا إلى أن توقفت القافلة نهائيا مطلع السبعينات ، بعد أن قررت المراكب (المبادلة)  دون وساطة مع تينبكت وما إليها من البلدان التي شملها (الفتح الأوروبي) .

 ب- وسائل الاتصال:

 هذه الوسائط كانت فعالة مهما كانت طبيعتها، فرضية أنطلق منها للإجابة على ما يمكن الإجابة عنه من أسئلة يمكن أن تتبادر إلى ذهن من بحث في هذا الموضوع، من قبيل ما هي هذه الوسائل؟ ما مدى أهميتها بالنسبة للفعل التجاري؟ وغيرها من الأسئلة.

 تشير الوثائق إلى عدد من وسائل الاتصال الموجودة في هذه الفترة، فبعض هذه الوثائق هي رسائل متبادلة بين التجار، وبديهي القول أنها نفسها وسيلة اتصال، وفي هذه الحالة فإما أنها أرسلت مع تاجر آخر أو أحد المسافرين إلى وجهة الرسالة عموما، وإما أنها أرسلت مع ساعي بريد، بالنسبة للخيار الأول فمن الوثائق ما يدل على ذلك فقد صادفت حالات لتجار معينين يحملون رسائل لأشخاص آخرين، بل يحملون بعض السلع على شكل أمانات، أنموذج ذلك رسالة من تاجر يدعى محمد بن بديه إلى محمد العربي والمحجوب ابن سويلم يخبرهما فيها أنه أرسل إليهم المسمى المختار بن الأجيب"... ستة أرطال ونصف جيرة حرا من ريش النعام..."، وهي أمانة لمحمد العربي، أما المحجوب بن سويلم فقد وصله من هذه الأمانة "...خمسة أرطال من تجكماجت..." ، بل تشير وثيقة أخرى إلى إمكانية إرسال قدر كبير من السلع مع أحد التجار، وهو هنا التاجر المسمى أحمد بن سيدي عبد الله السباعي، في حين أن المرسل هو محمد العربي، والمرسل إليه هو "... محمد مبارك بن سيدي علي الأنصاري وصهره الطالب بن سيدي اعر الولات..." ، والواضح أن هذه الأمانة تضم أنواع السلع نفسها التي تحمل إلى تينبكتو، ولا أعتقد أن هذا النوع من الخدمات مؤدى عنه بين التجار، بل الأرجح أنها نوع من الخدمات التي كان من الواجب إسدائها في ظل شبكات تجار متداخلة المصالح، ومن ثم تصبح مسألة إيصال أمانات أو رسائل إلى أشخاص في بلاد معينة أمرا واجبا وضروريا من أجل الإسهام الجماعي في تدليل مصاعب الاتصال.

أما الخيار الثاني فهو أن الرسالة أرسلت مع ساعي بريد معين، وهذه الحالة أيضا صادفت إشارات عنها، غير أن اسمه لم يكن بهذا الشكل العصري، بل كان يحمل اسم" الرقاص"  أو "الرقاس" ويجمع على رقاصة وهو الوسيلة التي أنتجها المجتمع لنقل مراسلاته ، ويضرب بهم المثل في سرعة السير ، ومن الممكن أن يكون هدا الرقاس تابع لمصلحة " البوسطة" المغربية التي هيكلها السلطان الحسن الأول وذلك بإصدار ظهير منظم، أو أنظمة البريد التي أحدثها الأوربيون، أو أن يكون رقاصا خاصا حسب ما يفهم من كلام تاجر يدعى املالي بن الصباغ إلى محمد العربي إذ يقول أن أخبره بأثمان بعض المواد: "... فإن أردت أن تسخ بهذا الثمن فانهض إلينا الرقاص ونبيعه لك بهذا الثمن..." ، وفي مثال آخر فإن أحد تجار الصويرة بعث إلى دحمان يخبره فيها بأنه أرسل أربعة رسائل "... والكتاب الموخر أرسلناها مع الرقاص لتندوف للسيد عبد الله بم العبد..." ، ومهما يكن من أمر، فإن مهمة هؤلاء السعاة أو الرقاصين بلغة تلك الفترة كانت جد صعبة، ذلك أنه حين عودته من مهمته يستغرق أسبوعا كاملا في النوم، حسب ما جاء به لوتورنو، كل ذلك من أجل أجرة تتغير حسب الفصول .

وإلى جانب الرقاس فقد وفقت على وسيلة اتصال تسمى " الدبيش" ، والحقيقة أني لم استطع الوصول إلى ماهية الدبيش هذا، ذلك أن الوثيقة لا توضحه، ولم أقف عليه في موضع أخر، ففي معرض تبرم إبراهيم بن محمد العربي من إرسال الدبابيش على غير اسمه وضح لوالده قائلا: "... وأيضا نخبركم أن هذا الرجل الذي في الصويرة وتأمروه بأن يرسل الدبابيش وهو صاحب عبد الرحمان، ولم يبعث لي   دبيش إلا على اسم عبد الوهاب خاصة..." ، وأكد على ضرورة إرسالها باسمه هو "... ولا تبعثوا جوابا ولا كتابا ولا خطابا و لا دبيشا إلا على اسمي...".

وإلى جانبه رصدت استعمال أحد التجار للتلغراف، وهذا التاجر هو عبد الوهاب محمد عثمان، ويشير إلى أن عنوانه التلغرافي هو : بن عثمان الوادنوني بتنبكتو ، والتاريخ الذي تحمله هده الوثيقة يعود إلى سنة 1912م وهو تاريخ يأتي بعد أزيد من عقدين من ارتباط المغرب عبر خطوط التلغراف بأوروبا، هذا الارتباط الذي يعود إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر .

تأسيسا على ما سبق يمكن القول أن وسائل الاتصال والمواصلات عرفت تنوعا لا بأس به، كما عرفت نوعا من التكاملية، وامتازت بالجدية، كما عرفت تعايشا وتجاورا بين وسائل قديمة ووسائل حديثة بمقاييس تلك الفترة، وهي نفس الملاحظة التي لاحظها الباحث محمد بوكبوط قبلي في أواخر القرن التاسع عشر .

      وجدير بالذكر القول أن هذه التكاملية التي يحققها التنوع تخدم العلاقة التجارية بشكل كبير، فبهذه الوسائل يتعرف التجار على السلع وأثمانها، ويرسلون طلباتهم منها، ويتنقلون بها وغير ذلك من الخدمات التي لا يستقيم الحديث عن التجارة دونها، وتبعا لدلك فان ما عرفته هده العلاقة التجارية بين وادنون وتينبكت من حركية ملحوظة يدلل على ما ذهبت إليه في البداية من فعالية كبيرة لوسائل الاتصال والمواصلات هاته.

5- المعاملات المالية ومسألة العقار عند التجار الوادنونيين بتنبكتو

              أ_  المعاملات المالية

تفيد هده الوثائق المدروسة في التعرف على مجموعة من المعاملات المالية بين التجار، هذه المعاملات كان لابد منها لتدليل جملة من الصعاب التي تعوق الحصول على أكبر ربح ممكن في وقت لازالت فيه الحركة التجارية في وضع لابأس به، فبخصوص الشركة فإنه من الواضح جدا أن توحد الرساميل الصغيرة في إطار رأسمال كبير يكون أكثر مردودية عكس البقاء في وضع التناثر المؤثر على  الأرباح التي تحققها تجارة القافلة، خصوصا في القرن التاسع عشر حيث كان من الممكن أن تصل الأرباح إلى 400 في المائة  ، وربما دل هذا التعامل المالي على وجود روح التعاون في حركية المجتمع بمنطقة وادنون، وذلك أنه من الممكن الوقوف على حالات لا يهدف فيها أحد المشتركين من دخوله لشركة معينة سوى تقديم العون لتاجر صغير قصد التمكن من الارتقاء في ظل دينامية اجتماعية نشطة كتجسيد موضوعي لدينامية اقتصادية لا بأس بها على  كل حال،  على أن هذا الأمر ما هو إلا  احتمال يبقى متعايشا مع احتمالات أخرى تنتظم إلى جانب الاحتمال الغالب وهو رغبة الشريكين المشتركة في الربح.

وضمن الوثائق المدروسة صادفت نماذج لهدا النوع من المعاملات المالية، الأولى يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وبالضبط سنة 1890م، وهو التاريخ الذي تحمله الوثيقة، إذ يصرح فيها المدعو محمد بن أحمد بن عثمان أنه اشترك مع أحمد بن مبارك بن علي امحمد الموسوعلي في "... إحدى وعشرين مائة ريال..." ، غير أن من سيدفع المبلغ كله لن يكون سوى أحمد بن مبارك، ذلك أن محمود بن عبد الرحمان دخل  إلى هده الشركة بسلف من شريكه، وهذه الحالة تلمح إلى ما ذهب تاليه بخصوص روح التعاون التي تحدثت عنها آنفا، وقد كان الاتفاق على شراء"... سلعة مختلفة وإبل..."   والتوجه بها إلى بلاد السودان، والتزموا بالمتاجرة في أي نوع من السلع"...نفعل ما شئت من جيهة البيع والشراء والمعاملة مع الغير كمثل العرب وغيره من دين وقيراض وأنواع البيع كله..." ، أما فيما يخص اقتسام الأرباح فإن "... ما أفاء الله به من الربح..." فهو لهما "... على التناصف..."  .

أما الأنموذج الثاني لموضوع الشركة فهو وثيقة  تتحدث عن فظ شراكة بين أحمد بن محمد بن سيدي محمود ومحمد سنة 1932م، ولم تتحدث الوثيقة عن سبب إنهاء هذه الشركة، غير أنها تشير إلى حدوث مشكل عند تصفيتها، ذلك أنها تقول :"... إدعى البشير المذكور أنه خلص مائة ريال للسيد أحمد بن محمد بن برك..." و"... أن أحمد المذكور لم يسلم ذلك لمحمد البشير حتى يأتي عبد القادر..."  وعبد القادر هذا هو صاحب وكالة تجارية بتينبكتو، ولا نعلم في حقيقة الأمر علاقة عبد القادر هذا بالشركة المنتهية صلاحيتها وأصحابها الذين انتهيا إلى الانسجام إلم يكن السبب وليس النتيجة، وكل ما نعلمه من هذه الوثيقة هو أنه إذا سمح لمحمد البشير بأخذها فهي له، وإلا فهي لعبد القادر نفسه، وما يثير الإنتباه بالنسبة لمحمد بشير أنه كان قبل عدة أعوام من سنة 1907م قد اعتزل التجارة نهائيا حسب إشارة وردت في تقرير سري بعث فيه حاكم السنغال والنيجر إلى الحاكم العام لإفريقيا الغربية الفرنسية، يقول التقرير:"... كان ولمدة طويلة على رأس أكبر مؤسسة تجارية بتينبكتو لكنه أهمل التجارة وانسحب منذ عدة أعوام من ميدان الأعمال..." ،  وإذا ما وضعنا جانبا احتمال وجود تشابه في الأسماء فإن تبرير  ذلك بسيط جدا باعتبار سحر الأرباح الذي ميز التجارة القوافلية بين وادنون وتينبكتو إلى حدود منتصف القرن العشرين، وبذلك يمكننا تفهم سبب عودة محمد البشير إلى قطاع التجارة بعد انسحاب سابق.

    أما الأنموذج الثالث فهو لتاجرين اثنين هما الحاج الحبيب بن أحمد التهالي الوصيري والتاجر سلام بن الحاج محمد بن مبارك الصويري اللذين "... تحاسبا فيما بينهما حسابا صحيحا فيما تصرف سيدي عبد السلام المذكور في سنة أربعة وخمسين ومائتين وألف..."  ، ومرت عملية فظ الشركة هاته بهدوء ودون مشاكل بين التاجرين فقد"... اعترف الحاج الحبيب المذكور العدة التي حصلت لهما ربحا في تلك السنة المذكورة... وبلغ ربحهما... تسع ماية مثقال وزيادة ستون مثقال سكة التاريخ..." .

      أما موضوع القراض فقد وقف على حالتين له، الأولى في رسالة من ابراهيم بن محمد العربي إلى محمد بن هموش، يطلب منه فيها إخبار لمعلم عبد الكريم أن ما وعد به من مال على وجه القراض سيفي به عند لقاؤهما  ، أما الحالة الثانية فيه تقديم الشيخ بيروك بن عبد الله مبلغ "... سبعة عشر ومائتان بالتثنية وتسعة وثلاثين مثقالا وخمسة وجوه دراهم فضة سكة التاريخ..." الذي هو عام 1845م للتاجر الطيب النومر الذي يتاجر بهذا المبلغ ويقتسم معه الأرباح "... ثلثين لرب المال الشيخ المذكور وثلث للطيب المذكور..." .    

وبخصوص السلف فالإشارات عنه عديدة بل إن هناك وثائق عديدة يعتبر السلف موضوعها الرئيسي من مثل تلك التي تبتدئ بصيغة " ... ثبت في مال وذمة..."  وقد أدرجت منها حوالي 8 وثائق، فمثلا في إحداها وهي مؤرخة بتاريخ 1842م سلم بيروك سلع مختلطة بين"... الخنط الأسود وماريكان..."   لمحمد بن عبد الرحمان بن سيد الكور والشيخ احمد بن عبد النبي التهاليان على وجه السلف، مع تحديد وقت التسديد وذلك في ذي القعدة وكانوا في شهر جمادى الثانية، والواضح من خلال نوع السلعة المشتراة عن طريق السلف والموزعة بين الخنط الأسود وماريكان، المنتوجان المجلوبان من أوروبا أن هده  السلعة موجهة إلى أسواق تينبكتو في الجنوب، وهذين النوعين من الثوب يعرفان إقبالا كبيرا، وذلك يتضح من خلال إقبال التجار على شرائهما من ميناء الصويرة أو من التجار الكبار بوادنون مثل الشيخ بيروك وحملها إلى تينبكتو.

     وفي اتجاه آخر حيث يمكن للسلف أن يتدخل مع الشركة كما رأينا ذلك سابقا، إذ يقول محمد بن أحمد بن عثمان الجلميمي: "... والنصف جعلته سلفا من عنده في ذمتي..."  وهنا يقصد حصته من رأسمال الشركة التي بينهما.

     وهناك وثائق أخرى تعالج موضوع السلف، غير أني سأركز فقط على تلك التي تهم العلاقة بين تجار الصويرة وتجار وادنون، وخصوصا ما سيرتبط بالمشاكل التي يثيرها التعامل التجاري والمرتبط أساسا  بتأخر بعض تجار وادنون في دفع ما عليهم من ديون لتجار الصويرة، مما يدفع بهؤلاء إلى إرسال عدة رسائل مطالبا باستيفائه لباقي مستحقاته المؤجلة الدفع محاولا في الغالب عدم تجاوز حدود اللياقة والكياسة في أسلوب مطالبته، غير أن ذلك لا يعني أن هؤلاء التجار لا يلجئون إلى أسلوب يحمل تهديدا ضمنيا أو حتى أقرب من صريح وذلك بالجهر بإمكانية إيصال القضية إلى جهات أعلى قد يكون السلطان أحدها أو قنصل دولة أخرى، أو غير ذلك، فمثلا نجد يعقوب المفتالي يؤكد لمحمد بن أحمد العربي بأنه كتب له"... كتابا أولا وزدنا لك ثانيا وما قط رأينا منك جوابا على واحدة منهما... وقد عرفت أن هذه مدة مضت وسلف الأجل الذي عملناه معك والآن نحب من الله ومنك بوصول كتابنا هذا إليك أن توجه لنا متاعنا ولأن جميع أصحابنا الذين أخذوا منا السلعة بذلك التاريخ دفعوا لنا ما عندهم وأخذوا سلعة أخرى..." ، وهنا فإن المفتالي يحتج متوددا، يحتج أولا كرد فعل طبيعي يقوم به أي تاجر يرى بعينيه جزءا من رأسماله جامدا دونما مردودية، ويتودد ثانيا طعما في إنهاء عملية التجميد هاته في أقرب وقت وبغير مشاكل، لكن إذا لم تجد نفعا فإن التهديد بإخراج القضية من إطارها الضيق إلى إطار أوسع، قد يكون القضاء أو السلطان شخصيا أو ربما تكون قنصلا، أو غير ذلك، أنموذج ذلك ما ورد في رسالة من ربين المليح وهو تاجر و قنصل إلى القائد دحمان بتاريخ 30 أبريل عام 1900م، يؤكد له فيها أنه أرسل أربع رسائل دون أن يحصل على أي رد، لا بخصوص البضاعة التي أرسلها له مع المدعو عبد الله بن العبد، ولا بشأن 435 ريال التي يدين له بها مند عام، مذكرا إياه بخسارته لمائة وتسعة وعشرون ريال في فرس كان قد باعها له، وأمام هذا الوضع فإن ربين المليح لم يجد حرجا في أن يخاطب القائد دحمان بهذه النبرة " ... بارك الله فيك تجاوبنا على هذا عزما على هذا لنكن مطمئني البال وإذا لم تجاوبنا فلا يعز عليك الحال إذا كتبنا لواحد المحال الذي هو أكبر مني ومنك..."  ،  وبعد ذلك بعام وبالضبط في 21 غشت سنة 1901م أرسل له رسالة أخرى يستشف منها أنه قد حصل على ستين ريالا من أصل المبلغ ودعاه إلى تجنيبه الوقوع في "... المحذور..."   بينهما الذي لن يكون  سوى تقديم شكاية عند كبيرهم بطنجة، وهو ربما يقصد سفير الدولة التي ينتمي إليها، لكن سنة 1902م كانت قد حلت دون أن تحل المسألة، بل  إننا نعلم أنه تسلم جزءا صغيرا من المبلغ وهو 35 ريال ولا زالت 335 ريال عبارة عن وصل ( يطرة)، وفي هذه الرسالة يقول ربين المليح بأنه لا يقبل "... صبرا أو جوابا من غير إخلاصها..."   أما في حالة عد تحصيل قيمة هذا الوصل فإن ربين يقول: "... فنحن لم يبق علينا حتى حياء إذا فعلنا... الذي لا بد منهم..."  .

      والأكيد أن أشكالا أخرى من التعاملات المالية عرفها التجار في العلاقة التجارية بمحور تينبكتو وادنون فالصويرة، وقد وقفت على أنموذج منها هو ( الإيطرة)، وتجمع على ( يطرات ) وهي خطابات الضمان، وهي عبارة عن وصولات تضمن للتاجر حقه في تعامله مع تاجر آخر يمكنه من استلام المبلغ الموجود بها من تاجر ثالث، وفي حالة تسلمه منه فان حاملها يتسلم المبلغ الموجود بها من صاحبها، وقد عثرت على وثيقة لمطالب بدين حامل لهذه الايطرة  .  

          

     ب_ مسألة العقار عند التجار الوادنونيين بتينبكو 

        من بين الوثائق التي اشتغلت عليها هناك وثيقتين تلمحان إلى هذه المسألة، وحتى إن كانتا محددتان في الزمان ما بين 1914- 1916م فإنهما توردان إشارات هامة عن وعي هؤلاء التجار الوادنونيين بها، فبعد وفاة أحمد بن محمد بن العربي ترك بتينبكتو ثلاثة منازل،  وتوضح الوثيقة أن إحدى الدور كلفت صاحبها 500 ريال، والدار الثانية كلفته 400 ريال، في حين أن الثالثة لم تكلفه  سوى 100 ريال، وإلى جانب هذه المنازل الثلاثة فهو يملك دارا رابعة في الشرق من تينبكتو، في  قرية تدعى سوفار يصل ثمنها إلى 120 ريال، وإلى حدود سنة 1912م فإن المنزلين الأولين كان يصل كرائهما  إلى خمسة ريالات في الشهر، وفي سنة 1916م فإن الدار التي كانت ب 400 ريال أصبح ثمنها يصل إلى 600 ريال فرنسي  ، وباعتبار مكان وجودها داخل السوق وتوفرها على مجموعة من المحلات  التجارية ( ابواتيك) فإن استثمارها في الكراء أفضل من بيعها حسب نصيحة صاحب الرسالة لوالده، خصوصا إذا علمنا أن كراء هذه المحلات يصل إلى عشرة ريالات في الشهر، وفي هذا الاتجاه يقول صاحب الرسالة: "... وإن امرتموني ببيعه وإن أمرتموني أن أتركهم هناك للكراء أفعله لأن الديار الذين في السوق  في تنبكت غاليين يجدون الكراء في كل شهر وكرائهم خير من بيعهم..." .

       ومن الطبيعي أن نلمس هذا التعلق بهذه المدينة من طرف هؤلاء التجار الذين اتخذوها قاعدة اقتصادية، لأنها كذلك بالفعل بالنسبة لهم وذلك  يتجسد من خلال روح السكن الأبدي التي سكنت هؤلاء فهذا التاجر الذي نتحدث عنه الآن- أي أحمد بن محمد- سكن تينبكتو حتى مات بها، وهذا أخوه صاحب الرسالتين السالفتين، ما فتئ يتعلل بنفس الحجج لأزيد من عامين كي لا يعود إلى موطنه الأصلي ويترك تينبكتو، أما عبد الوهاب الذي تذكره الرسالتين، فإن صاحبهما يؤكد استحالة مغادرته لتينبكتو قائلا: "... لا يأتيكم مادام على قيد الحياة لأنه صار من أهل الأرض وتسكن بها..."   ويقول أيضا : " ... لا تظنوه أنه منكم أو ممن يرجع إليكم..."    

ما أريد الوصول إليه هو القول أن من ارتبط بالاستقرار بتينبكتو ممارسا للتجارة، ما كان له إلا أن  يتوجه شيئا فشيئا إلى الاستقرار النهائي، الأمر الذي فعلته الحالات المذكورة وغيرها كثير استقر بتينبكتو إلى اليوم.


خلاصات

       بعد هذا السفر السريع الذي تنقلنا فيه بين عدد من الموضوعات يمكننا الاطمئنان إلى عدد من الخلاصات، لعل أهمها أن منطقة وادنون استفادت من تأسيس ميناء الصويرة في أواخر القرن الثامن عشر، وأن ساكنة وادنون قد أدركت مبكرا أهمية ممارسة العمل التجاري من حيث هو طريقة أكثر تحضرا لمراكمة الثروة.

 وقد مكنها الاحتكاك بالعديد من المجموعات البشرية ذات الثقافات المختلفة، والتي التي زادت من غنى الثقافة المحلية بوادنون، فتأثرت في جوانب كثيرة منها بالتأثيرات الأمازيغية واليهودية والإفريقية، كما أن ممارسة التجارة ومراكمة الثروة سمح لبعض العائلات بتولي مناصب سياسية مهمة، أنموذج ذلك عائلة أهل بيروك الذين كانوا بمثابة ممثلين لسلاطين المغرب طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين.

كما يمكننا الوقوف على أن الخاصية الأساسية التي ميزت المبادلات التجارية الإفريقية_الأوربية هي انعدام التكافؤ، فقد تشكلت الصادرات الأوربية من المواد المصنعة، في حين تكونت الصادرات الإفريقية من لائحة طويلة من المواد الأولية، وأن هذه المبادلات تميزت كذلك بأهميتها، الأمر الذي يفسر تزايد التنافس الامبريالي على القارة السمراء، وهو التنافس الذي انتهى باستعمار كامل لإفريقيا.

ليست هناك تعليقات