هل الحرية حالة شعورية أم هي عمل على التحرر ؟ (جدلية)

 مقالة فلسفية رقم 1، خاصة بدرس الحرية والمسؤولية


الأقسام المعنية: ثالثة علوم تجريبية/ ثانية آداب وفلسفة


* هل الحرية حالة شعورية أم هي عمل على التحرر ؟ (جدلية)


طــــــــرح الــــــــــمشـــــكــــــلـــ ــــــــة:


       تعتبر  الحرية من أكثر القضايا الفلسفية  والانسانية الشائكة التي شغلت حيزا واسعا من اهتمام الفلاسفة منذ فجر تاريخ الفكر الفلسفي، ولا يزال الاهتمام ذاته إلى يومنا هذا. وقد طرحت الكثير من المشكلات المتعلقة بماهيتها وكيفية تحقيقها وامتلاكها وعلاقتها بالانسان والواقع المعاش، غير أن ما أثار النزاع أكثر بين الفلاسفة والمفكرين خاصة في الأزمنة الحديثة هو الكيفية أو المعيار الذي نتعامل من خلاله مع هذه القيمة الوجودية السامية فمنهم من تعامل معها من حيث هي حالة شعورية تنبع من داخل الذات البشرية، ومنهم من اعتبرها التزام اجتماعي وسعي نضال دائم نحو التحرر، وعليه وجب طرح الإشكال التالي:

        هل الحرية حالة شعورية أم التزام اجتماعي؟

وبصيغة أخرى:

        هل الحرية موضوع للتأمل الميتافيزيقي أم سعي نحو التحرر الإجتماعي؟


عرض الموقف الأول (أنصار الحرية ) الحرية حالة شعورية            ويتزعم هذا الاتجاه كلا من المعتزلة، ديكارت، كانط ، سارتر، برغسون بحيث ذهبت المعتزلة وهي فرقة كلامية إسلامية شهيرة  إلى القول بأن الإنسان حر في اختيار أفعاله سواء كانت خيرة أو شريرة فهو مخير لا مسير وهو حر التكليف وفي ذلك يقول واصل بن عطاء: " إن الإنسان ينصرف حسب الدواعي والقصد فهو يدرك القدرة على الإدراك فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن". إلى جانب ذلك نجد ديكارت الذي يرى أن الحرية هي حالة وجدانية تحدث على مستوى الشعور حيث اعتبر أن كل فعل إرادي أو هو فعل مقترن بالشعور والوعي ، يقول ديكارت في هذا الصدد: "إننا جد متأكدين من الحرية الموجودة فينا بحيث ليس هناك شيء نعرفه أكثر مما نعرفها"؛ فوجود الحرية لا يختلف كثيرا من حيث بداهته عن وجود الكوجيتو "أنا أفكر إذن فأنا موجود". كما أقر كانط أن الحرية بدون أخلاق ليست حرية حيث يقول " إذا كنت تريد فأنت تستطيع" لأن الحرية مصدرها الواجب الأخلاقي أو الإرادة الخيرة المنزهة والكامنة في داخل الانسان من حيث هو كائن يملك ضمير يقِظ على الدوام. ويرى برغسون أن الحرية الحقيقية تتمثل في تلك الحياة الشعورية الباطنية التي لا تخضع لأي ضغط أو تأثير وفي ذلك يقول "إن الحرية ليست موضوعا للتحليل بل هي معطى مباشر من معطيات الشعور"، إلى جانب ذلك نجد سارتر يقول: " لا يوجد غيري، أنا أنا وحدي أقرر الخير وأخترع الشر " فمادام للإنسان عقل فهو يستطيع التمييز بين الخير والشر ومادام يستطيع التمييز بمحض إرادته.


* مناقشة:

        لقد ركز أنصار الموقف الأول على إثبات الحرية وأهملوا الأداة والوسيلة التي يتحرر بها الإنسان من مختلف القيود، إنهم بمعنى آخر تعمقوا كثيرا في التنظير للحرية والتعامل معها بطريقة ميتافيزيقية مجردة عن المعطى الواقعي، وأهملوا الأهداف العملية يسعى إليها الإنسان في موقفه من الحرية، فالرهان الحقيقي يتمثل في كيفية التحرر واقعيا وليس الاكتفاء بطرح الأسئلة الوجودية والفلسفية التي لا علاقتها لها بِدُنيَا الواقع المعاش .


عرض الموقف الثاني (أنصار التحرر) إن الحرية عمل على التحرر، ويمثل هذا الموقف كلا من إنجلز، ماركس، إيمانويل مونييه، فرانسيس بيكون .

مع مطلع العصر الحديث والمعاصر تحولت النظرة للحرية من اعتبارها ليست مجرد حالة شعورية بل هي عمل مستمر للتحرر وذلك من حيث أن الحرية أن الحرية تتجلى في تلك الممارسة اليومية من خلال تلك المواقف التي يمر بها الإنسان فيتخذ  من أجلها قرارات حاسمة ويعمل على تنفيذها سعيًا منه إلى تجاوز الحواجز والعقبات التي تواجهه وتحدّ من حريته واستقلاليته،  وهذا ما يتجسد في العمل على التحرر  الذي يتحقق بتجاوز ثلاثة أنواع من الحتميات النفسية والاجتماعية والطبيعية، وهنا يظهر الدور الكبير الذي يلعبه العلم  والعمل في توسيع هامش حرية الإنسان والتضييق قدر الإمكان من هامش القيود والضرورة على حد تعبير كارل ماركس، وقد ذهب الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون إلى  اعتبار الحرية في نضال علمي من أجل تغيير الواقع والسيطرة على الطبيعة وإخضاعها لإرادتنا حيث يقول "إن الحرية لا تُكتسب إلا بصراعنا مع الطبيعة الانتصار عليها "، وهي الفكرة ذاتها التي أكدها هيغل من خلال القول بأن الحرية ليست أكثر صراع جدلي بين الإنسان الواقع أو بين الوعي والطبيعة من اخضاعها والسيطرة عليها حيث يرى بأن العصر الحديث هو عصر حرية لأن الناس " اخضع الطبيعة" ولم تخيفه وتتفوق عليه كما في السابق.

وذهب الفيلسوفان الألمانيان ماركس وإنجلز إلى اعتبار كل تقدم حضاري وعلمي وتقني هو تقدم نحو الحرية، وكذلك إلى التأكيد على أهمية المعرفة في تحقيق الحرية وفي ذلك يقول إنجلز: " إن قوام الحرية هو في هذه السيطرة القائمة على أساس معرفة القوانين الطبيعية التي نمارسها اتجاه أنفسنا واتجاه العالم".


*مناقشة:

            يمكن القول أن الطرح الذي تقدم به انصار هذا الموقف يتميز بالكثير من الواقعية وهو متأثر بروح العصر الحديث وما ميزه من تطور علمي ونزوع نحو الواقع والابتعاد عن التأملات المجردة، ولكن  المبالغة في ربط الحرية بالتحرر قد يجعل الإنسان/ الفرد أو الجماعة يتجاوز الكثير من الحدود ظنا منه أنه يتحرر فتنقلب أفعاله إلى أنواع من الفوضى فتدخل حريته في إطار ما يسمى بحرية اللامبالاة التي تكون خطرا عليه وعلى من يحيط به لذلك يجب توفر الوعي الدقيق أي بمعنى الحرية ومعرفة حدودها لذلك قيل "تنتهي حرية الإنسان حينما تصل إلى حرية الغير".


*التركيــــــــــب :


إن الحرية شعور عفوي نابع من صميم الذات البشرية أولا، وتعبير عن رأي وموقف ثانيًا وذلك لأن الشعور بإمكانية التحرر ضروري جدًا ولأنه يمثل الخطوة الأولى للتحرر والانعتاق، وشعور الإنسان باستحالة التحرر يجعله عبدا ولا يبذل أي جهد في التحرر من قيوده المتعددة ( النفسية والطبيعية والاجتماعية) لنيل حريته واقعيا لا الاكتفاء بالأحلام والتأملات أو الخيالات التي تحرك في الواقع شيئا .

فالحرية حالة شعورية وعمل على التحرر بحيث أن الإنسان يشعر بأنه حر وذلك الشعور يساعده على التحرر كشعور المجاهد بضرورة بضرورة تحرير وطنه.


*حــــــــــــــل الــــمــشــكـــلـــة : 


        مما سبق ذكره نستنتج أن الحرية ليست بشعور عفوي فحسب بل هي عمل مستمر للتحرر وذلك يتجلى في أنه كلما كانت أمام الإنسان الحواجز والعوائق كلما تحفز أكثر وبذلَ جهودًا كبيرة لتجاوزها والتحرر من ضغوطاتها وإكراهاتها، فالحرية ليست معطى جاهزًا نجده بل هي ممارسة يومية ونضال دائم في هذه الحياة، وفي ذلك يقول أحد الفلاسفة: "ينال المرء دائمًا الحرية التي هو أهل لها والتي هو قادر عليها".

ليست هناك تعليقات