التجارة الخارجية بالجزائر خلال العهد العثماني

 التجارة الخارجية بالجزائر خلال العهد العثماني


كانت معظم المبادلات التجارية الخارجية تتم مع الدول الأوربية، ولاسيما فرنسا، التي كانت من أوائل الدول الأوربية التي تربطها علاقات تجارية مع الجزائر، إذ يرجع تاريخ وجودها في سواحل شمال إفريقيا إلى القرن 13م، وعرفت المبادلات التجارية بين البلدين تطورا ملحوظا بعد أن ألحقت الجزائر بالدولة العثمانية في مطلع القرن 16م. فالجزء الكبير من التجارة الخارجية كان تحت سيطرة التجار الفرنسيين، الذين وجودوا كل التسهيلات لدى حكام الجزائر، وبناءا على معاهدة سنة 1535 أسس تاجران من مرسيليا في عام 1561 مؤسسة تجارية، ومركزا لصيد المرجان في القالة، التي عرفت فيما بعد، بحصن فرنسا « Bastion de France » وعرف النشاط التجاري الفرنسي في فترة لاحقة، تطورا كبيرا في القرن 17م، فكانت المؤسسة الفرنسية في الجزائر تصدّر المرجان والحبوب، والصوف والجلود، والشمع، والزيت، والحيوانات، وتستورد الخوخ والأقمشة، والمواد الغذائية، والمصنوعات الأوربية، وقد حققت فرنسا أرباحا طائلة من هذا النشاط، نظرا للأسعار المنخفضة التي كانت تدفعها مقابل حصولها على الإنتاج المحلي، في حين كان الأهالي يدفعون أثمانا باهظة لاقتناء المصنوعات الفرنسية.     

وقد توسعت التجارة الجزائرية الخارجية، لتشمل الدول الأوربية الأخرى، فكانت تستورد من مرسيليا، وليفورنة الأقمشة، والحرير، والبن، والسكر، والمناديل، والقرنفل، والمخمل،  والبلور، والزجاج، والمرايا، والحديد، والورق، والخردوات الحديدية، أما من الدول الأوربية الشمالية، هولندا والسويد والدنمارك،  فكانت تستورد منها الصواري والحبال والبارود والأخشاب . وكانت تصدّر المواد الزراعية الأساسية. إلا أن مادة الحبوب كانت تتنافس عليها فرنسا وانجلترا واسبانيا وهولندا. لأن الدولة الجزائرية كانت تحتكر تجارة المواد الأساسية لحماية اقتصادها من الاستغلال الأجنبي. إلا أن القنصل الأمريكي في الجزائر "شالر" اعتبر: " أن نظام الاحتكار الذي اعتمدته الحكومة الجزائرية في جميع المرافق، ومنعها تصدير المنتوجات المحلية إلى الخارج، قد أدّى إلى خراب التجارة الخارجية وقضى على الزراعة قضاء مبرما ".

ويرجع سبب فشل الحكومة الجزائرية في سياستها الاحتكارية إلى اقتصار دورها على الإجراءات الإدارية والتنظيمات الجمركية. وقد تخلت الدولة الجزائرية عن تجارتها الخارجية لصالح بعض التجار اليهود في أواخر القرن 18م، وهذا ما جعل القنصل الفرنسي "تانفيل" « D.THANVILLE » يقول عن هؤلاء اليهود ولاسيما بوشناق وبكري: " هي الأسرة الوحيدة التي كانت تتميز بطموح واسع وتتمتع بثقة حكام الجزائر، فإنهم شركاء في كل مكان، وامتدت علاقاتهم إلى باريس، مرسيليا ،عنابة، جنوة، ليفورنة، مدريد وكل الموانئ الإسبانية ولندن، لشبونة، هانبورغ وفيلادلفيا، استولوا على كل تجارة المغرب ".

ومن أهم الصادرات الجزائرية إلى أوربا تتمثل في الصوف، وتقدّر الكمية المصدرة بسبعة إلى ثمانية آلاف قنطار سنويا، وكان معظم الإنتاج يأتي من بايلك التيطري الذي اشتهر سكانه بتربية المواشي، بينما قدّرت صادرات الشركة الملكية الفرنسية من مادة الصوف من ميناء عنابة في سنة 1787 بخمسة وعشرين ألف قنطار. أما كمية الجلود المصدرة من ميناء مدينة الجزائر، فكانت تتراوح ما بين عشرين وخمسة ألف قطعة، وبلغت مداخيل الجلود المصدرة إلى مرسيليا حوالي مائة ألف ريال. أما بالنسبة لمادة الشمع، فكان يصدّر من ميناء الجزائر نحو أوربا ثلاثمائة إلى أربعمائة قنطار سنويا، وتقريبا نفس الكمية تصدّر من ميناء عنابة. 

وتم تصدير من موانئ مدينة الجزائر وعنابة وأرزيو ودلس سنة 1787م، مائة وخمسين ألف حمولة من القمح والشعير والخضر، وقدر عدد السفن الفرنسية المحملة بالحبوب  من ميناء عنابة بثلاثين سفينة، ويكاد نفس العدد بالنسبة للسفن الأوربية الأخرى، وتم تصدير أيضا خمسة وعشرين حمولة من ميناء أرزيو، وثلاثة إلى أربعة من ميناء دلس، ونفس الكمية خرجت من ميناء بجاية إضافة إلى حمولتين من الزيت

وتوضح هذه الجداول جانبا من الصادرات والواردات الجزائرية:

-قائمة البضائع المصدّرة والمستوردة من وإلى الجزائر من أوربا سنة 1755

-قائمة البضائع المصدّرة والمستوردة من وإلى الجزائر من أوربا سنة 1755.  الصادرات	الواردات


وما يمكن أن يلاحظ من هذا الجدول أن الصادرات قليلة، أما الواردات فهي كثيرة ومتنوعة، وهناك مواد مثل التوابل والقطن والعطور كان بإمكان الجزائر أن تتحصل عليها دون المرور بالأسواق الأوربية والاحتكارات اليهودية، من أسواقها بالمشرق العربي. ومن أهم الواردات كانت المنسوجات والأصباغ والمواد المصنعة، والتوابل، أما أهم الصادرات فهي الأصواف.


-قيمة الواردات ف يأواخر القرن الثامن عشر: سنة 1789 منطقة الاستيراد	قيمة الاستيراد



يلاحظ على الجدول أن ليفورنة (إيطاليا) كانت تحتل الصدارة في قيمة الواردات، تليها مارسيليا (فرنسا) ثم الشرق الأوسط.

-قائمة للتجارة الخارجية وردت في كتاب "وليام شالر" الذي نقلها بدوره من سجلات التجارة بمدينة الجزائر لسنة 1822:



 

يلاحظ على جدول "شالر" للواردات والصادرات ما يلي:

·      أن بريطانيا كانت تحتل الصدارة في الواردات في فترة أخذت فيها العلاقات التجارية والسياسية تتوتر بين الجزائر وفرنسا، وفيها كانت تتهيأ فرنسا لاحتلال الجزائر.

·      أن مجموع قيمة الواردات بلغت حوالي 1.200.000 دولار اسباني سنة  1822، وأن مجموع قيمة الصادرات بلغت في نفس السنة 273.000 دولار اسباني، ومعنى ذلك أن الميزان التجاري للجزائر سجّل عجزا قدره 927.000 دولار اسباني وهو عجز ضخم ظلّت تعانيه التجارة الخارجية منذ أن قلّلت الحكومة نشاط القرصنة وارتبطت باتفاقيات مع الدول الأوربية التي كانت كفاءتها الإنتاجية أحسن بكثير في الكمّ والكيف من الكفاءة الإنتاجية للجزائر، وكثير ما أدّى العجز الجزائري في الميزان التجاري للمدفوعات بحكومة الأتراك العثمانيين إلى رفع الضرائب على المواطن وزيادة الاحتكارات بغية الوصول إلى حلّ المشاكل الاقتصادية.

·      انخفاض القدرة الشرائية لدى المستهلكين الجزائريين، إذ أن قيمة مجموع الصادرات والواردات كانت ضعيفة إذا ما قورنت بمدينة مرسيليا مثلا التي كانت قيمة تجارتها تفوق قيمة التجارة الخارجية للجزائر بكثير، وقد ظلّت هذه الحالة حتى سنة 1830.

·       لم يورد "شالر" في قائمة البضائع المصدّرة العبيد المسيحيين الذين أدرجهم من قبله " مورقان، والسبب في ذلك، هو أن عدد العبيد بمدينة الجزائر أصبح قليلا في عهد "شالر"، ثم أن الدول الأوربية قد اتفقت على منع هذا النوع من التجارة ومعاقبة من يتعاطاها بمقتضى معاهدة 1815.

جدول السفن التجارية الجزائرية التي دخلت ميناء  ليفورنة:




 

إذا كانت الجزائر تتعامل أساسا مع أوربا فإن هذا لا يعني أنها لا تتعامل مع الأقطار الأخرى، بحيث عرفت التجارة مع الأقطار المغاربية نشاطا واسعا، إلا أن  أكثر المبادلات كانت تتم بين الواحات الجزائرية والتونسية الواقعة في منطقة الجريد، من أهم الواحات الجزائرية، وادي السوف وتوقرت، وورقلة، متجهة إلى المدن التونسية، نفطة، وغدامس، ومدينة تونس، وكانت المواد المصدّرة من الجزائر إلى تونس، تتمثل في الأقمشة الصوفية، والتمور الجيدة، من وادي السوف، وقبعات من سعفة النخيل، ونبات الفوه المعروف  بعروق الصباغين، القادم من تقورت، الذي يستعمل في الصباغة والأدوية. أما المواد المستوردة، فكانت تشمل مواد البزازة، والعطور، والأقمشة الحريرية والشالات، والقطنيات الأوربية، والحياك المنسوجة في منطقة الجريد، والأسلحة والكبريت.

أما المبادلات التجارية مع المغرب الأقصى، فإنها ضعيفة نسبيا، فمعظمها كان يتم بين وادي ميزاب، والبيض سيدي الشيخ، وتلمسان، ووهران من الجانب الجزائري، وفاس ومكناس وتيطوان، من الجانب المغربي. أما عن طبيعة المبادلات التجارية، فهي نفس المواد المتبادلة بين تونس والجزائر، يضاف إليها كمية من الجلود والأحذية كانت تأتي من المغرب الأقصى.

وتتم التجارة بين هذه القطار من طرف الخواص، الذين يسلكون بقوافلهم المسالك البرية، كما أن هناك رحلات بحرية بين مدينة الجزائر، وتونس، وتيطوان، يقوم التجار خلالها ببيع وشراء السلع المختلفة. أما دور الدولة، فكان مقصورا على جمع الضرائب والرسوم الجمركية، فكانت كل القوافل التي تدخل مدينة الجزائر، والخارجة منها تدفع ضريبة محددة.

وامتد نشاط الجزائريين إلى المشرق العربي، فأخذوا من المدن المشرقية مراكز نشاطهم التجاري، وتعدّ مدينة الإسكندرية محطة رئيسية لهم، نظرا لموقعها الذي يتوسط الشرق والمغرب، فأنشئوا، واستأجروا بها الوكلات والمخازن لتخزين السلع القادمة من مختلف الجهات المشرقية ولم يكن نشاطهم مقصورا على الإسكندرية بل امتد إلى القاهرة وإزمير، فكانوا يستوردون من القاهرة البن، والأرز، والأقمشة، وكانوا يصدّرون إلى أزمير الحياك الصوفية والمواد الغذائية أثناء توفرها في الجزائر. كما عرفت الأحزمة المصنوعة بالحرير رواجا واسعا في المشرق والمغرب نظرا لجودتها العالية . 

كما للجزائر علاقات تجارية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، مثل النيجر، ومالي، ونيجريا، التي كانت تعرف بالسودان الغربي. فكانت القبائل الجزائرية هي التي تتولى التجارة مع تلك الأقطار. وقد أنشئت عدّة محطات تجارية عبر الصحراء. فكانت المواد تنقل من شمال البلاد إلى متليلي في الجنوب الجزائري، ومنها تنقلها قبائل الشعابنة إلى أسواق المنيعة ثم يحملها الطوارق والخنافسة إلى تمبوكتو في مالي. وكانت المواد المصدّرة تشمل المصنوعات الأوربية، والزيت، وغيرها، ويستورد من الدول الإفريقية العبيد، وريش النعام، وجلود البقر الوحشي والعاج، والبخور وغيرها.

ويبدو أن حجم المبادلات التجارية بين الأقطار المغاربية بصفة عامة والسودان الغربي كان قليلا، فهناك من أرجع أسباب ذلك إلى عدم إدخال العملة النقدية كوسيلة في المبادلات التجارية، فكان يغلب عليها طابع المقايضة إضافة إلى أن القوافل كانت تقوم برحلة واحدة خلال سنتين أو ثلاث سنوات، لصعوبة المسالك وبعد المسافة، وأيضا الصراعات القائمة بين القبائل العربية والطوارق، مما أدّى إلى افتقار محلات مدينة تلمسان للسلع السودانية بعدما كانت مركزا رئيسيا لها. وبالرغم من تواضع هذه التجارة، فإن يهود الجزائر تمكّنوا في القرن 18م، من السيطرة عليها والتحكم فيها.

بعد هذه النظرة الإجمالية عن التجارة الجزائرية الخارجية علينا معرفة العوامل التي اعترضت سبيل تطورها خاصة مع أوربا.

جلّ المصادر تؤكّد على أن التجارة الجزائرية لم تكن لها أهمية بالنسبة للحكام الأتراك، ذلك أن الدايات في الجزائر همهم الوحيد فرض الضرائب على عمليتي استيراد البضائع، أو تصديرها، فكانت ضريبة الاستيراد تقدّر بـ 12,5% وضريبة الصادرات تقدّر بـ 2,5%، وهناك ضريبة أخرى كانت تفرض على كل سفينة ترسو على السواحل الجزائرية، وكانت قيمتها تساوي 10 دولارات اسبانية.

كما كانت السفن التجارية الجزائرية تتعرّض للتفتيش من قبل الدول الأوربية، قصد إلقاء القبض على ربانها، بحجة أنهم أعلاج، ارتدوا عن ديانتهم المسيحية، لهذا فضل الملاحون أو التجار الجزائريون الإبحار على أساطيل حربية لحماية أنفسهم من الأخطار، التي كانوا يتعرّضون لها وأرغموا على ترك التجارة لبعض الأهالي يتولون أمرها، إلا أنهم لم ينجوا من المضايقات التي مارستها ضدّهم الدول الأوربية. فلم تكن تسمح لهم بممارسة التجارة في مدنها والرسو في موانيها بحجة أن الجزائريين قراصنة، ويؤكد القنصل الفرنسي في الجزائر: "فاليير" هذه الحقيقة فقال:  " كانت غرفة مرسيليا التجارية تتبع عن كثب نشاطات الجزائريين في مدينة مرسيليا، وكانت تلجأ إلى استعمال الذرائع المختلفة لإفشال مجهوداتهم، وكانت تكثف مساعيها لدى البلاط الملكي من أجل هذا الغرض ".

وقد استعملت غرفة مرسيليا كل الحيل والعراقيل لإبعاد الجزائريين ومجهزي المراكب من مياهها، وهذا ما دفع الجزائريين إلى التنازل عن التجارة الخارجية لصالح الأوربيين. لذلك ليس من السهل للجزائر أن تطور تجارتها الخارجية وحتى وإن كانت لها الرغبة في ذلك، فإن الدول الأوربية لن تسمح لها بذلك. ففي نظر الأوربيين، فإن الجزائر ما هي إلا مصدر تموينهم، كما أن الجزائر لم تتوفر على الإمكانيات المادية التي تؤهلها لمنافسة الشركات التجارية الأوربية. 

وحسب القنصل الفرنسي "فاليير" دائما  أن الجزائر لا تملك المصنوعات التي تمكنها من التصدير، والقيام بالمبادلات التجارية مع الدول الأخرى، مقابل النقود، وأن كل التجارة التي تمارس هنا، كانت مخصصة للاستهلاك المحلي، أما السلع المستوردة من الخارج فهي ضئيلة جدا، ويعود ذلك إلى طبيعة معيشة السكان المتواضعة، ولبساطة لباسهم، فهم يكتفون بالقليل، فالسلع التي كانت تأتي من مرسيليا، كانت في يدّ الأوربيين أما ما كان يستورد من ليفرونة، فهو تحت سيطرة اليهود . بينما " ديستري "  D’ESTRY » ينفي وجود التجارة إطلاقا في الجزائر، بل كان يدّعي أن الاقتصاد الجزائري، كان قائما على مداخيل القرصنة.

وما تقدّم، يمكن القول: أن نشاط المجتمع الجزائري في المجال التجاري داخليا تميّز بالانتشار والتنوع، فقد شمل مختلف مناطق البلاد، إلا أن دوره في التجارة الخارجية كان محدودا نظرا للعراقيل والحصار الذي فرضته عليه الدول الأوربية، كما أن إمكانياته المادية المحدودة، لم تكن تسمح له بمنافسة الشركات العالمية، ولهذا، فإن معظم الأرباح كان يستفيد منها التجار الأوربيون واليهود.

 

 


ليست هناك تعليقات