محاضرات الحداثة في الأدب العربي
قسم اللغة والأدب العربي
المقياس: الحداثة في الأدب العربي.
محاضرات: الحداثة في الأدب العربي.
المحاضرة الأولى: مفهوم الحداثة.
الحداثة لغة: هي من مصدر:حدث، التي تعني الجديد ونقيض القديم، وهي أيضا: أول الأمر وابتداؤه، وهي الشباب وأول العمر.نقول : شاب حدث صغير، حيث قال الشاعر الأندلسي يحيى بن الحكم الغزال في مقطوعة له:
وخيرها أبوها بين شيخ كثير المال أو حدث صغير.
فقالت خطتا خسف وما إن أرى من حضوة للمستخير.
ولكن إن عزمت فكل شيء أحب إلي من وجه الكبير.
وبهذا المفهوم اللغوي سطعت شمس الحداثة في عالمنا العربي الحديث والمعاصر، وتوافقت مع ما يحمل العصر من قضايا ومشاكل، وقلق ذاتي من القديم الموروث، ومحاولة الثورة عليه، والتخلص منه، والبحث عن كل ما هو جديد يتوافق مع روح عصر التطور العلمي والمادي، ويواكب الإيديولوجيات الوافدة على عالمنا العربي.
الحداثة اصطلاحا: تعتبر الحداثة مصطلحا إيديولوجيا نشأ تبعا لظروف وملابسات وسياق حضاري عاشه الغرب الأوروبي، وهو في الوقت نفسه مذهب أدبي وفكري، والبعد الفكري فيه جلي لأنه لا يستهدف الجانب الأدبي الإبداعي فحسب بل ينسحب على كل جوانب الواقع الإنساني ومتغيراته الطارئة، إنه دعوة للتمرد على هذا الواقع بمختلف أشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي أدت إلى التغيير الجذري للراهن وزعزعة مقوماته وجذوره الأصيلة.
إنه كما يقول محمد هدارة نقلا عن بعض الباحثين الفرنسيين: " زلزلة حضارية عنيفة، وانقلاب ثقافي شامل، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارة بأكملها، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة".
وقد عرف رولان بارت الحداثة بأنها انفجار فكري معرفي سيطر على الإنسان المعاصر، فيقول:" في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة، وتتحرر شهوات الإبداع، فالثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة وكثافة مدهشة أفكارا جديدة، وأشكالا غير مألوفة، وتكوينات غريبة، وأقنعة عجيبة، فيبق بعض الناس منبهرا بها، ويقف بعضهم الآخر خائفا منها..."
ويرى الباحث جوس الفرنسي أن مصطلح الحداثة مترسخ في تقاليد أدبية عريقة، تعود إلى الثقافة اليونانية واللاتينية على السواء حيث كان الصراع بين الثقافتين متمثلا في ( الصراع بين أنصار الحديث وأنصار القديم) تبعا لرغبة كل جيل في الاعتراف بزمنه، وهو ما تكرر مع مرور الزمن وأثبت الوعي الجديد لحظته الزمنية بجمالياته.
أما مصطلح المعاصرة فقد حددته مدرسة فرانكفورت النقدية بالشروط الثلاثة:
1 –الحرية ( الفردية والجماعية).
2 –الحق( حقوق الإنسان، بما فيه حق اللجوء السياسي).
3 –التضامن.
إذا فالحداثة بهذا المفهوم هي انزياح فكري وحضاري يقتضي هدم كل ماهو قديم من لغة وتراث وتاريخ، أما أدبيا فهي تمردا على النظم الكلاسيكية وتجاوزا للنمطي السائدة شعرا ونثرا، تواقة للتغيير بناء على ظروف ومتغيرات العصر.
*الحداثة عند الغرب:
بدأت الحداثة الغربية الفنية والأدبية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر واستمرت حتى الآن، وهي فترة قدمت للتراث الأدبي والفني في الغرب اتجاهات عديدة مثل: الرمزية والتعبيرية والدادية والسريالية والعبثية،... وغيرها من المدارس الأدبية التي انطلقت من موقف الرفض الحداثي لمعطيات الحضارة الغربية، وإحداث قطيعة تامة بالماضي والتراث، تدعو إلى التحرر من قيود دينية وفكرية وعقائدية.
يتفق بعض الباحثين على أن إرهاصاتها الأولى بدأت على يدي "شارل بود لير" الفرنسي صاحب ديوان أزهار الشر. فهوأولمن قدم في مجال الأدب صياغة نظرية للحداثة.لكنها لم تنشأ من فراغ بل هي امتداد لإفرازات من المذاهب.
وقد تميزت الحداثة الغربية بمجموعة من الخصائص منها:
1-التمرد على القوانين وطرق التعبير اللغوي والتقاليد الفنية المألوفة.
2-تحرير الفرد من سلطة المؤسسات بكل أنواعها، ومن ضمنها مؤسسة الأسرة التي تعد في نظره صورة من صور القهر.
3-اعتبار الدين تجربة بشرية قابلة للتجاوز ضمن ما تتجاوزه الحداثة. وإلغاء سلطته من خلال علمنة المجتمع، وإلغاء سلطة الأخلاق في مجال الإبداع.
4-إعلاء قيمة الفرد وتحريره من القيود الدينية ومنحه حرية مطلقة، يصبح معها مدار الكون ومحوره.
5-يعد الغموض سمة أساسية من سماتها، فهي ترفض الواضح المبتذل.
*انتقال الحداثة إلى الأدب العربي:
يؤرخ الغالبية لانتقال الحداثة إلى الأدب العربي بنكسة 1967 التي أحدثت هزة عنيفة في نفوس أفراد المجتمع العربي، فضلا عن النكبة الفلسطينية التي أغرقت العديد من الأبرياء في دمائهم، هذه الرجة أحدثت عند بعض أفراد النخبة العربية ولاسيما في المشرق شكا في كل معطيات الثقافة العربية، ومواكبة الثقافة الغربية، وما ساعد على انتقالها إلى الوطن العربي، حركة الترجمة والمحاكاة، حيث بدأ الإعجاب بهذا الوافد الجديد واضحا، كما ظهر مع رفاعة الطهطاوي الذي ألف كتابه الشهير " تلخيص الإبريز في أخبار باريس" والذي يستوضح فيه معالم الحضارة الغربية المتطورة.
اتخذت هذه النسخة العربية للحداثة الأدبية عدة أشكال، حيث كان أهم مظاهرها تبني الشعر الحر أو شعر التفعيلة، كما أحدثت تغييرا جذريا في مختلف الصور الشعرية والخيالية تركيبا ودلالة وفكرا، حيث كانت محملة بصور الكفاح.
نظرا للظروف الاجتماعية السائدة، فهو" كفاح ضد الأجانب المستعمرين الذين امتصوا أقوات الشعب وخيرات البلاد ومنافعه، وكفاح ضد الأمراض الاجتماعية المتعددة"، حيث تتحول مهمة الشاعر العربي "من فنان يخلق الصور ويجري وراء الألفاظ إلى مفكر يرسم الطريق لأبناء أمته"، كما اتخذت شكلا أكثر تطرفا يتمثل في قصيدة النثر.
بناء على ما سبق نستنتج أن الحداثة في الأدب العربي اتخذت منحا تحرريا يرفض الواقع المرمغ في شظايا الحرب والدمار والعنف السياسي والاجتماعي.
يقول الغذامي في كتابه تشريح النص:" الحداثة هي رؤية اجتهادية للفرد المتحدث، وهي بمثابة الموقف الخاص أكثر مما هي تصور معرفي مشترك." أي أنها تنم عن إحساس فردي نحو التغيير والرفض لتعبر عن كيان اجتماعي مشترك، أي تنطلق من ذات الفرد لتعبر عن الضمير الجماعي للمجتمع.
ويضيف قائلا:" هي معادلة إبداعية بين الثابت والمتغير، أي بين الزماني والوقتي، فهي تسعى دائما إلى صقل الموروث، لتفرز الجوهري منه فترفعه...، فهي حينئذ الفعل الواعي أخذا بالجوهري الثابت وتبديلا للمتغير المتحول."
وذلك بواسطة اللغة التي من خلالها يعبر الفرد عن المتحول في عصره المتمثل في هموم الإنسان المتجددة وقضايا مجتمعه المختلفة.
إن الزمن لدى العرب القدماء، كان معيار تصنيف الحداثة والقدامة، ولنأخذ قول ابن رشيق الذي يؤكد أن " كل قديم من الشعراء هو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله فالربط بين كل شاعر، بدون استثناء عصره أو زمانه يترك الزمن هو الحد المعين للقدامة والحداثة..."
أما في العصر الحديث، فإن الشعر سمى حداثته بمفهوم التقدم، كمفهوم محوري يتكامل مع مفاهيم الحقيقة والنبوة والخيال( التخييل) مع الناقد أدونيس وبهذه المفاهيم حققت الكتابة الشعرية الجديد.
أما بالنسبة للناقد محمد بنيس، فالحداثة لديه ارتبطت بالإبدال الشعري والذي هو التطور والتغير والتحول والتجاوز والتخطي.
إذا فالحداثة هي مفهوم فرضته الظروف الحاصلة ومتغيرات العصر التي أصبحت بحاجة ماسة إلى من يمتلك القدرة على تسخير هذه المعطيات في الكشف عنها بطرق فنية تنم عن ابتكار المعاني بلغة فيها إيحاء ومغزى، تتدفق منها الدلالات التي تتخفى وراء آليات جديدة منها الرمز/ التورية/القناع/الغموض/الانزياح... كلها مصطلحات جديدة تداخلت في الشعر العربي الحديث والمعاصر. وعليه تصبح الحداثة العربية صقلا للحداثة الغربية واستغلالها لخدمة الإبداع الأدبي.
أهم من حمل لواء الحداثة العربية يوسف الخال،أدونيس وزوجته خالدة سعيد، وعبد الله العروي، وكمال أبو ديب، ومحمود درويش، صلاح عبد الصبور، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، وغيرهم. وفي الأخير ننوه إلى أن الحداثة شملت مختلف الأجناس الأدبية كالرواية والقصة والمسرح، غير أنها كانت في الشعر الأبرز والأكثر جدة كونه أكثر استهدافا للغة وتفننا بها.
المحاضرة الثانية: الصراع بين القديم والحديث أبو نواس/ابو تمام
لقد أعطى قدامى بن جعفر ت 337ه تعريفا للشعر بقوله: "قول موزون ومقفى يدل على معنى". كما أعطى تصوره لمواصفات اللفظ باعتباره عنصر بنائي في العملية الشعرية فقال فيه:
1-أن يكون سمحا
2-سهل مخارج الحروف من مواضعها.
3- عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة ويأتلف اللفظ مع المعنى في عد أنواع منها: المساواة والإشارة والأرداف والتمثيل والتطابق والمجانس.
4-غلبة النزعة التقريرية والحسية المباشرة في تفسير الجمال.
5-غلبة الموسيقى.
كان الشعر فيالعصر الجاهلي" إرضاء لحاجات الإنسان السيكولوجية والبيولوجية كذلك بما فيه من إيقاعات موسيقية".
وبما أن البيئة الجاهلية متشابهة الصور ومكررة المناظر كان الشاعر الجاهلي يتغن بها ويصف أطلالها وبمجد بطولات قبيلته بإحساس ذاتي رفيع " لاستعاب تجربته الخاصة" حيث يقول قدامى بن جعفر:" إن الشعر شأنه شأن الصياغة والتصويروالنقش."، حيث ينظر الناقد العربي القديم إلى الشعر " باعتباره متعة بصرية تستخدم فيه الصور كالأصباغ الزائدة تستعمل للحلية والزركشة والتزيين.."، فرسخت قيم الفن منظومة قيم الصحراء والطبيعة القاسية، ولم تكن الاهتمامات الأسلوبية بعيدة عن ذهن الشاعر، لكنه صاغها وفق بساطة ثقافته وحسيتها.
ثم يليه العصر الإسلامي أين خمدت جذوة الشعر نظرا لانشغال المسلمين بالفتوحات الإسلامية ما ناقض قيم الفن على حساب العقيدة، لذا لاحظ الأصمعي ضعف شعر حسان في الإسلام.
أما في العصر الأموي فكان لعودة البلاطات ومجالسها وتوسع الرقعة جغرافيا وسياسيا وكذا التطلع على الأجنبي، أدى إلى تطور الظاهرة الأدبية ما أحدث المواءمة بين جيل الجاهلية وقيم الإسلام خاصة على يد شعراء النقائض الفرزدق وجرير والأخطل.
ومع قيام الدولة العباسية بزغت شمس التجديد في الساحة الأدبية، وكان ذلك نتاجا لبذخ الملوك فأصبح الشعر رمزا للكسب والعطاء، إذ غرق الشعراء في شعر المجون والمدح، أمثال والبة بن الحباب ويحيى بن زياد وكذلك أبان بن عبد الحميد اللاحقي.. مبتعدين في كثير من الأحيان عن الصياغات الشعرية القديمة وبعضهم تربى وتتلمذ عليه أبو نواس..
وكان لهذه البيئة العباسية أثر خطير في توجيه الشعر العباسي من البيئة العربية القديمة التي رافقته ورافقت صوره وعباراته إلى بيئة جديدة صورت حياة الحواضر وما بها من رقي وترف وقصور.. ومن هنا سجل النقد نقاشا حول معنى الإتباع والمحافظة على الموروث فكان النزاع بين القدماء والمحدثين( المحافظين والمجددين) خاصة حول مجموعة من القضايا كبنية القصيدة ومراحلها من طلل وحول مستوى العبارة واللغة نفسها، بل وحول القيم الفنية المتوارثة في بنية المعنى والأغراض الشعرية، فالأول يتمثل في الخروج على عمود الشعر، والثاني يتمثل في رفض القيم السائدة رغبة في العدول إلى مصطلح الحداثة.
لذا ضعفت الصلة بين الشاعر المحدث الذي نشأ في بيئة جديدة مغايرة وبين البيئة العربية القديمة التي بدأت تختفي وتنحصر في الموروث فقط.
وقد أكثر أبو نواس من التهجم على البدايات الطللية ودعوته إلى تركها، وكثير من الشراء استبدلوها بمقدمات أخرى، رغم استمرارها في قصائد كثير من الشعراء المحافظين.
إن الإقبال على هذه البيئة الجديدة أضعف الصلة بالموروث من صور البيئة القديمة وفتح الباب أمام التساؤل والرفض والشك والتمرد على نهج القصيدة العام ( عمود الشعر)، وظهرت نزعة الاهتمام بالذات قوية وهي تقابل تماما ما نلقاه من تغني القدماء بالقبيلة على حساب الفرد، حيث قال صالح بن عبد القدوس يرثي عينه:
عزاءك أيها العين السكوب ودمعك إنها نوب تنوب
وكنت كريمتي وسراج وهجي وكانت لي بك الدنيا تطيب
على الدنيا السلام فما لشيخ ضرير العين في الدنيا نصيب
وهذا ينم على روح التمرد لدى الشاعر المجدد الذي يرغب في استكناه أعماقه والبوح بدخائله الذاتية خلافا لما كان عليه الشعار الجاهلي من حمية قبلية.
إن الاتجاه الشعبي في شعر المحدثين بارز جدا، حيث نجد بشار بن برد موجه التجديد في الشعر يطلق العنان للأغاني الشعبية، فكان لرغبة الشعراء في الانتشار الأوسع لأدبهم، أثرا كبيرا في بلورة هذا الاتجاه، وقد نستطيع التمييز بين أدب رسمي يعيش في البلاطات وبين أدب آخر أخذ يتكون في الأوساط الشعبية وشعرائها. وإن قصة بشار مع خادمته ربابة وقوله:
ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت
وقد أجاب حين لاموه في هذا الشعر:" إنه أحب إليها من قفا نبك"، أي أقرب إليها وأنسب مع اهتماماتها وإدراكها.وهذا التوجه هو ميزة من ميزات الصياغة الشعرية العباسية التي فرضتها بيئته وظروفه. وامتدت إضافة إلى الأغراض إلى العبارة والمعاني والصور، فبيئة المجون والغناء والسمر لا تتقبل الصياغات الرفيعة بل تستثقلها وتتطلب صباغات بسيطة شعبية بل عامية.
ويلاحظ توجه آخر في أكثر الشعر وهو الاتجاه الترفيهي، فقد تم تحويل الشعر من الاكتفاء بالمواقف الرسمية والأدبية الموروثة( الكلاسيكية) إلى التسلية والترفيه. فالدكتور عبد الحميد يونس يلاحظ أن الخمريات والغزل بالمذكر تتضمن عنصر التسلية والترفيه. كما نقرأه في قصيدة بشار على لسان حماره بعد موته، قال إنه رآه في المنام، وسأله لماذا مات رغم الإحسان إليه فقال:
سيدي خذ بي أتانا عند باب الأصفهاني
تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان
وبغنج ودلال سل جسمي وبراني
ولها خد أسيل مثل خد الشيفران
فلذا مت ولو عشت إذن كان هواني
وهذا يدل على بروز الاتجاه الجديد الذي هجر الصياغة القديمة والأسلوب الجزل الرصين وسار خطوة نحو التغيير الأسلوبي المتمرد على القيود الشعرية جانحا إلى البساطة والترفيه والرقة والغناء وذلك نتيجة ترف الحياة الاجتماعية وتطورها.
لذلك يزعم أدونيس أن بشار بن برد هو أول المحدثين لأنه أعطى للغة أبعادا مجازية وتصويرية غير مألوفة ، كما انه رفض بعض العادات والتقاليد وبعض الأفكار الدينية السائدة ، وامتد هذا التغيير في الحساسية الشعرية في شعر أبي نواس وشعر أبي تمام اللذان أحدثا ثورة على مذهب الجاهليين والإسلاميين في نواح كثيرة.
باعتبار أن الشعر هو مرآة صافية تتمثل في الحياة نجد أبو نواس الزعيم الفعلي للشعراء المجددين في عصره حيث كان يريد أن ينهج منهجا جديدا لم ينهجه المتقدمون، ويرى بأنه ما دامت الحياة تتغير حتما لابد أن يتغير الشعر تبعا لروح العصر ومتغيراته، وتبرز سمة التجديد عنده- كما تحدثنا سالفا- في الثورة على المقدمات الطللية واستبدالها بمقدمات خمرية حيث حملت الخمرة معاني جديدة خلافا في لما كانت عليه في العصر الجاهلي من زهو ونشوة وإسراف، حيث أصبحت مع أبو نواس" تحمل معاني جديدة لا صلة لها بالواقع العربي الإسلامي فأبو نواس ينسب إلى مجلسها الوقار والخشوع والرهبة وينسب إلى طلابها الأدب في الشرب وينعتها نعوتا تخرج بها عن حدودها.."، إلى أن وصلت إلى حد التقديس حيث يقول عنها أبو نواس:
لو عبد الخمر قبلنا أحد ممن مضى عبدناها
وهناك من النقاد من يرجع ثورة أبو نواس على القديم بدافع الشعوبية و هي اهتمامه بأمجاده الفرس وتمجيدهم نظرا لتمكنهم في العلوم والتنظيم، فكان يسخر من العرب ويمجد غيرهم ويشيد بمناقبهم لذا كان يرفض كل قديم ينتمي إلى العرب ويمجد كل فارسي محدث.
وكانت سمة الغموض بارزة في شعر المحدثين خاصة عند أبي تمام الذي تنحو معانيه جنح الخفاء والإبهام في كثير من المعالم خاصة في الاستعارة التي لم يألفها النقد القديم، حيث توجه إليه أحد خصومه بقوله:" لما لا تقول من الشعر ما يفهم؟ فيجيبه: وأنت لما لا تفهم ما يقال. وتعتبر مقولة شهيرة في تاريخ الأدب الحديث.
وهنا يقيم الشعر بمدى عمق معانيه بغض النظر عن المتلقي، فهذا الأخير هو من يرتقي إلى الشاعر ليفهم ما يقوله دون أن يضطر الشاعر لقول ما يفهم متجاوزا القارئ العادي إلى القارئ الحصيف الملم بشمل اللغة والمتعمق في معانيها وصورها.
لقد تجلت التجربة الشعرية الجديدة عند الشعراء القدامى تجليا نابعا من متغيرات العصر وظروفه فكانت عبارة عن إرهاصات وبوادر بزغت منها الحداثة العاصرة وانطلقت سفينتها منها.
المحاضرة الثالثة: التجديد في الشعر العربي القديم(الموشحات والأزجال)
- الموشحات الأندلسية: اشتقت كلمة الموشح " من المعنى العام للتزيين، سواء كان ذلك وشاحا أن قلادة مرصعة أم غير ذلك"، وسمي بالموشح لما فيه من ترصيع وتزيين تشبيها بوشاح المرأة المرصع بالجواهر.
عرف على مر الأيام باسم الموشحات أو التوشيح أو الموشح، وعرف الناظم فيه باسم الوشاح، تتسم لغتها بالرقة والعذوبة والصفاء وهي لغة صحيحة تتفق مع قواعد اللغة العربية، حتى ليمكن قراءة مجموعة كاملة منها دون أن يصادف فيها لفظة تستعص عليه. وعرفه ابن سناء الملك:" الموشح كلام منظوم على وزن مخصوص".
وهو فن شعري ازدهر في الأندلس ثم انتقل إلى المشرق والمغرب، يزاوج بين الفصحى وقليل من العامية أو العجمية لا يلتزم بأوزان الشعر الخليلي إلا في غالب الأحيان، حيث يلاحظ ابن سناء الملك أن هناك "خرجات جاءت بالفصحى وذلك حين تكون الموشحة موشحة مديح وذكر اسم الممدوح روعي فيها أن تكون نظمت في ألفاظ في غاية الرقة، مشحونة بالموسيقى والمعاني الآسرة والصور الموحية."
ويرجع ابن خلدون أن من اخترع الموشح هو:" مقدم بن معافر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني ، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد."
أما رئاسة التوشيح فهي لأبي عبد الله بن الخطيب صاحب الموشحة الشهيرة "جادك الغيث" التي يقول فيها"
جاءك الغيث إذا الغيث همي... يا زمان الوصل الأندلس.
لم يكن وصلك إلا حلما... في الكرى أو خلسة المختلس.
وتحمل هذه الموشحات كثيرا من الخيال والصور الحسية والمعنوية، حيث يحدثنا ابن الخطيب في هذه الموشحة عن أيام سعيدة قضاها في غرناطة فيتحسر على ذهاب عهدها وأنها مرت سريعة " يازمان الوصل بالأندلس"
والآراء حول النشأة الأندلسية للموشحات لاتعد ولا تحصى" لكن ليس معنى هذا أن الموشحات ظاهرة مستقلة لا علاقة لها بالشعر العربي، فمؤلفوا الموشحات هم أولا وأخيرا شعراء عرب، وهذه حقيقة لم ينكرها حتى المستشرقون المنادون بأن في الموشحات عناصر إسبانية محلية."
بناء الموشح: يتألف الموشح من أجزاء مختلفة ينهجها الوشاح لتأدية إيقاعات نغمية منسجمة، وحاولوا وضع مصطلحات لأجزائها، وهذه الأجزاء هي:
المطلع- القفل-الدور-السمط-الغصن- البيت-الخرجة.
أوزان الموشحات: قسم ابن سناء الملك في كتابه دار الطراز الموشحات إلى قسمين: الأول ما بني على أشعار العرب، والثاني مالا علاقة له بهذه الأوزان."
كما نظم الوشاح جملة من الأغراض منها: الغزل/ الهجاء/ المدح/الأغراض الدينية والصوفية/الرثاء، كما كتبوا في موضوع الخمر ووصف الطبيعة.
يعد ظهور الموشحات في الأندلس من أهم ثمار التجديد في الأدب العربي.
-الأزجال الأندلسية: الأزجال الأندلسية هي فن شعري مستحدث، استحدثه أهل الأندلس، تضم مجموعة من الأغراض أولها الغزل، تلقى على شكل أغنية.
ورد لفظ الزجل في معجم لسان العرب مادة( زجل) في قول ابن منظور:" إن الزجل بالتحريك اللعب والجلبة ورفع الصوت، وخص به التطريب".ويقال أيضا "لصوت الأحجار والحديد والجماد أيضا زجل. قال الشاعر:
مررت على وادي سياث فراعني به زجل الأحجار تحت المعاول.
والزجل في الاصطلاح:" ضرب من ضروب النظم يختلف عن القصيدة من حيث الإعراب والتقفية كما يختلف عن الموشح من حيث الإعراب، ولا يختلف عنه من جانب التقفية إلا نادرا. يعد الزجل بهذه الصورة موشحا ملحونا إلا أنه ليس من الشعر الملحون، وقد كتب بلغة ليست عامية بحتة بل هي مهذبة." وقد يمزجون فيه أحيانا بعض الألفاظ الأجنبية من باب الاستطراف، وفن الزجل يكتب على شكل القصيدة العمودية، كما يكتب على شكل الموشحة.
والزجل مثله مثل الموشحات عالج كثيرا من الموضوعات التي تضم أغراض الشعر المختلفة منها: الغزل الذي ارتبط باللهو والهزل والغناء ممزوجا بأغراض أخرى كالمدح والخمر ووصف الطبيعة وهنا يكمن وجه الاختلاف مع الموشح، حيث كان يمزج الغرض الواحد في الزجل مع غرضين أو أكثر.
نماذج من الزجل:
يقول ابن قزمان في غرض الغزل:
هجرني حبيبي هجر
وليس لي بعد صبر
هجرني وزاد بالصدود
اختلف القدامى في من اخترع الزجل لأول مرة، لكن نظمت فيه جملة من الأقلام أمثال: ابن راشد، أبي بكر بن قزمان، ابن نمارة...
تعتبر الأزجال الأندلسية قفزة نوعية في الشعر الأندلسي نحت منحى تجديديا خارجا عن المألوف ومصورا لواقع الحياة بكل صدق و موظفا مختلف الأغراض التي تعبر عنها، ما جعلها تقترب من الذائقة الشعبية، بل تحظي قبولا وإشادة.
ملاحظة:( للاطلاع أكثر على فن الزجل والموشح الرجوع إلى كتاب محمد زكريا عناني: الموشحات الأندلسية، وكتاب محمد عبابسة:الموشحات والأزجال الأندلسية وأثرها في شعر التروبادور).
المحاضرة الرابعة: بيانات الحداثة.
انتقل مصطلح البيان،الذي تمثل مواضيع وشخصيات وأحداث ومصطلحات سياسية، من المجال السياسي التاريخي إلى مجال الأدب ليحمل معنى إظهار المقصود أو وجهة نظر حول موضوع جديد أو تجربة أدبية جديدة تنزع إلى الخروج عن المألوف وتخطي السائد.
ومن الأسماء اللامعة في هذا المجال الناقد والأديب أدونيس( الثابت والمتحول) فضلا عن محمد بنيس ( حداثة السؤال)، فقد واكبا حركة الشعر المعاصر وأفصحا عن نظرتهم الجديدة في مفهوم الشعر ووظيفته في ما عرف بمصطلح الحداثة.
1-بيان الحداثة لأدونيس: يعد أدونيس من الأسماء البارزة التي لمعت في مجال الحداثة العربية، له العديد من الكتب التي يحاول من خلالها التنظير لها، منها الحداثة والسؤال، وكتابه الثابت والمتحول ويتضمن ثلاثة أجزاء هي: الأصول، تأصيل الأصول، صدمة الحداثةـ، إلى غير ذلك من العناوين التي سخرها لهذا المجال.
إن مسألة التجديد الشعري، كانت الشغل الشاغل لأدونيس منذ انطلاقه في مسيرته الشعرية، وذلك من خلال قصيدته البعث والرماد عام 1957م، وقد اتضح بصورة أكثر من خلال قصيدة أغاني مهيار الدمشقي عام 1962م، ويرى أدونيس في الحداثة أنها:" قول ما لم يعرفه موروثنا، أو هي قول المجهول، من جهة، وقبول بلا نهائية المعرفة، من جهة ثانية."
يحاول أدونيس الجمع بين الثقافة الأصولية والثقافة المحدثة أوما يطلق عليها صفة التجديدية، حيث يقول:" أعني أن نعيد تقويم الماضي ... وأن نستوعب موروثنا الثقافي، بجوانبه كلها، ونتمثله، تحليلا ونقدا، بنظرة جديدة." أي نحو إعادة البناء والتغيير لاستشراف غد أفضل، وفق متغيرات العصر، لذا تنطلق الخطوة الأولى للفكر العربي الجديد من" مساءلة الأصول ذاتها ومن ثم مساءلة القراءات التي قام بها الأوائل، في نقد جذري وشامل لمنهجها ولطبيعة معرفتها." وهذا يعني مساءلة القديم وتقويمه لتأسيس الجديد بناء عليه، ومنه تتحقق " المسألة المعرفية."
وهكذا يتضح مفهوم الحداثة من منظور أدونيس بكونها "الاختلاف والائتلاف: الاختلاف من أجل القدرة على التكيف، وفقا للمتغيرات الحضارية، ووفقا للتقدم، والإئتلاف من أجل التأصل والمقاومة والخصوصية." ( أدونيس فاتحة لنهايات القرن ص326/327).
ويعد كتاب مقدمة للشعر العربي الدراسة الأولى لأدونيس في مجال النقد والنظرية الأدبية، حيث صرح من خلال الاستهلال الذي ورد في الصفحات الأولى،( ص11/12)،بالأهداف التي يطمح إلى تحقيقها والتي تعتبر إرهاصات أولىة للحداثة،وتكمن في أربعة أهداف هي:
1-"إعادة النظر في الموروث الشعري العربي بحيث نفهمه فهما جديدا، فنعيد تقييمه، ونمارس قراءته ودراسته، على ضوء هذا كله، في مدارسنا وجامعاتنا.
2-التوكيد على أن تغير الشعر العربي ليس تغيرا في الشكل أو طريقة التعبير وحسب، وإنما هو، قبل ذلك تغيير في المفهوم ذاته.
3-تجاوز الأنواع الأدبية( النثر، الشعر، القصة، المسرحية..الخ) وصهرها في نوع واحد هو الكتابة.
4- وضع الإبداع والنتاج الشعريين العربيين في منظور التجاوز الدائم، وتقييمها استنادا إلى هذا المنظور."
يعد أدونيس من أكبر المنظرين للحداثة العريبة حيث تتضح معالمها وتبدو أكثر نضجا في كتبه الأخرى لاسيما كتاب فاتحة لنهايات القرن الصادرة عن دار العودة بيروت سنة 1980م، إذ تكتمل نظرية الحداثة بشكل متكامل وواضح من حيث الطرح والتحليل للعديد من الإشكالات والتساؤلات التي أثارها والتي تحتم عليه "إعادة النظر في في كل شيء". يقول:" أول ما ينبغي أن أعيد النظر فيه هو المفكر العربي. شاعرا ورساما وموسيقيا وفيلسوفا وكاتبا."فهو يتوق إلى التغيير، حيث يقوم المفكر في نظره "بثورة تعيد للفكر دوره وللمفكر مكانته" رغبة في "النهوض والعمل لمستقبل إنساني أفضل."
ويذهب أدونيس إلى تعريف القصيدة الحداثية بأنها رؤيا والرؤيا وهي نظرة تخترق الواقع إلى ما وراء وهذا ما يسميه ابن عربي علم النظرة ، ويوضح أدونيس الفرق بين رؤية العين ورؤيا القلب قائلا:" الفرق بين الرؤية يعين الحس والرؤيا بعين القلب هو أن الرائي بالرؤية الأولى إذا نظر إلى الشيء الخارجي يراه ثابتا على صورة واحدة لا يتغير، أما الرائي بالرؤية الثانية فإذا نظر إليه يراه لا يستقر على حال وإن بقي جوهره ثابتا." من هنا كان الشاعر الحداثي يعبر عن واقع يسوده التغيير والتجدد أو كما يقول أدونيس:" التغير لا الثبات، الاحتمال لا الحتمية."
المحاضرة الخامسة: الحداثة ومجلة الشعر ( أ- قصيدة التفعيلة)
تعتبر مجلة الشعر الحاضنة الحقيقية والأساسية لحركة الحداثة الشعرية، أسسها وأصدرها الشاعر يوسف الخال، تصدر في أربعة أجزاء في السنة في بيروت- لبنان.
ساهم في تحريرها والكتابة فيها إلى جانب يوسف الخال نخبة من الأقلام تمثلها كبار الأدباء والشعراء أمثال:نازك الملائكة، فدوى طوقان، أدونيس، بدوي الجبل، بدر شاكر السياب، أنسي الحاج، خليل الحاوي، جبرا إبراهيم جبرا، نزار قباني، ... وغيرهم كثير، فبفضلهم استطاعت ترسيخ صورة حية لحركة شعرية معاصرة جديدة أضاءت الدرب الثقافي والأدبي والشعري، كما تعتبر وسطا للتفاعل بين الشعراء والتعبير عن تجاربهم، وتهدف إلى ابتكار صور وتشكيلات فنية وإيقاعية جديدة للشعر العربي( شعر التفعيلة)، تتضمن تمردا على مألوف الشعر وتعبيرا عن القضايا الراهنة.
من ضمن شروطها:" لا يخضع اختيار القصائد لأي مذهب فني ينتمي إليه القائمون على تحرير المجلة، فالمقياس الوحيد هو ارتفاع الأثر الأدبي إلى مستوى فني لائق. التقديم والتأخير في نشر القصائد يجري وفقا لمقتضيات تنسيق محتويات العدد. القصائد والمقالات لا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أو لم تنشر."
شعر التفعيلة:
شعر التفعيلة هو الشعر الذي لا يتقيد بعدد معين من التفعيلات في السطر الواحد، ولا يلتزم بوحدة القافية، ومن أسمائه: الشعر الحر، الشعر المرسل، الشعر الجديد، الشعر المنطلق، الشعر الحديث، الشعر المعاصر، شعر الحداثة، الشعر المحدث.
كان الظهور الأول لشعر التفعيلة في العراق على يد نازك الملائكة ( 1923/2007) في قصيدتها الكوليرا " التي اعتبرت ثورة في عالم الشعر وهي من الوزن المتدارك( فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن)، والتي نشرتها عام 1947م.
وهناك من يرى أن هذا النوع من الشعر الجديد، جاء على يد الشاعر بدر شاكر السياب ( 1926/1964) في ديوانه أزهار ذابلة وفي قصيدة حرة الوزن له من بحر الرمل( فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ) عنوانها هل كان حبا؟ والتي ألقاها السياب أـمام طلاب دار المعلمين ببغداد فلاقت استحسانا كبيرا.
كان السياب "ملامسا لمختلف حركات المجتمع وسكناته وكان مسكونا بحسن التعبير فلا يلبث أن يعلن رؤيا شعرية جديدة وسط حقل أدبي كان يتنافس فيه المتنافسون من شعراء العراق وغيرهم من أقطار الوطن العربي خاصة مصر".
وفي بحر الثلاثينات قرأ السياب مقالات فكرية عن الثورة والتجديد في جرائد مصرية ولبنانية وكانت هذه المقالات من البذور الأولى التي صنعت منه شاعرا كبيرا.
لقد تأثر السياب ب طوماس ت س إليوت الإنجليزي" الأرض والخراب" وهو" أول شاعر تمرد على القواعد الشعرية، والشاعر نفسه الذي اتخذته مجلة شعر نموذج لمشروعهم التحديثي من خلال ترجمات قصيدته من طرف يوسف الخال وأدونيس."
كانت مجلة شعر أساس إبداع الشعراء ويظهر ذلك في المحتوى الذي بث من خلاله الشعراء إبداعاتهم وتخطيهم السائد من الكتابة والسير نحو الإبداع والتجديد و" قد جعلت مجلة شعر موقفها حول تجربة الشعر الحر قضية مصيرية."
من أهم الخصائص الفنية لشعر التفعيلة مايلي:
*التحرر من نظام القافية والروي.
*الابتعاد عن ما يعرف بنظام الشطرين، والاعتماد على وحدة التفعيلة، لكن دون التقيد بعدد معين من التفعيلات في الشطر الواحد، وينظم الشعر الحر على البحور الصافية على غرار البحور الممزوجة كون الأولى أيسر نظما عند الشاعر.
*توظيف الرمز والأسطورة و التناص للتعبير عن تجارب الشاعر وخلجاته.
* قبول التدوير" وهذا يعني أنه من الممكن أن يأتي جزء من التفعيلة في نهاية البيت، وجزء منها في بداية البيت الذي يتبعه.
تعتبر قصيدة التفعيلة تحولا حاسما من تحولات القصيدة العربية، لذلك تعتبر سمة من سمات الحداثة الشعرية.
المحاضرة السادسة: الحداثة ومجلة شعر( ب- قصيدة النثر)
شكل ظهور مجلة شعر منبرا يدعو الشعراء لكتابة قصيدة النثر بكل حماسة لتتوجه إلى العالم العربي وتصبح كائنا مستقلا يتميز بالإيجاز والتوهج.
تحمل قصيدة النثر عدة مسميات منها ( الشعر المرسل- النثر الشعر)، أما أدونيس فله رأي خاص حيث يوضح في مجلة شعر العدد 14 ص(80)، حول النثر الشعري بقوله:" ليس النثر الشعري شكل، هو استرسال واستسلام للشعور دون قاعدة فنية أو منهج شكلي بنائي، وسير في خط مستقيم ليس له نهاية، لذلك هو روائي أو وصفي يتجه إلى التأمل الأخلاقي أو المناجاة الغنائية أو السرد الانفعالي، ولذلك يمتلئ بالاستطرادات والتفاصيل، تتفسخ فيه وحدة التناغم والانسجام. أما قصيدة النثر فذات شكل قبل أي شيء، ذات وحدة مغلقة. هي دائرة ، أو شبه دائرة، لا خط مستقيم، وهي مجموعة علائق تنتظم في شبكة كثيفة، ذات تقنية محددة ، وبناء تركيبي موحد، منتظم الأجزاء، متوازن، تهيمن عليه إرادة الوعي التي تراقب التجربة الشعرية وتقودها وتوجهها،
إن قصيدة النثر قبل أن تكون نثرا- أي إنها وحدة عضوية، وكثافة، وتوتر، قبل أن تكون جملا وكلمات." وهنا تكمن خصائص قصيدة النثر.
ويفرق أدونيس بين قصيدة الوزن( الشعر ) وقصيدة النثر، بقوله:" إذا كانت قصيدة الوزن مجبرة على اختيار الأشكال التي تفرضها القاعدة أو التقليد الموروث، فإن قصيدة النثر حرة في اختيار الأشكال التي تفرضها تجربة الشاعر، وهي من هذه الناحية ، تركيب جدلي رحب، وحوار لا نهائي بين هدم الأشكال وبنائها." (مجلة شعر العدد 14)
لقد تأثر شعراء قصيدة النثر–جماعة مجلة شعر- بالآداب الأجنبية وفي مقدمتها الأدب الفرنسي، فلا يخفى تأثر أدونيس بمجموعة من الشعراء الفرنسيين أمثال: أندريه دي بوشيه، جاك دوبان وهما من بين الذين كانوا يكتبون في مجلة شعر، كما تأثر ببولدير، وملارميه في تشكيله للغة الشعرية، و كذا بالكاتبة الفرنسية سوزان برنار، وغير ذلك من الأدباء العرب أمثال: أنسي الحاج، ويوسف الخال ممن نهلوا من الشعر الفرنسي فلاقت تجاربهم نجاحا وإقبالا من طرف القراء.
المحاضرة السابعة: الحداثة في مجلة شعر ( ج- التوقيعة الشعرية)
يرى أكثر النقاد أن النثر سابق على الشعر، باعتباره القول العادي الذي ليست له قيود الوزن والقافية، ومنهم من يرى أن الشعر أسبق على النثر باعتباره لغة العاطفة، والنثر لغة العقل وطه حسين من هؤلاء، فقد تمتعت اللغة العربية بقدر كبير من أشكال نثرية عديدة عنيت بدراسة فائقة من قبل الدارسين كفن الخطابة، الرسالة، المقامة، الوصية، وبعض الأشكال الشعبية كالأمثال والألغاز، وبما أن لغة العرب هي لغة موجزة رصينة تتضمن ألوانا من المعاني لفت انتباه النقاد مكانة التوقيعات وأهميتها بما تحمله من إيجاز بليغ وعبارات قصيرة لها وقعها على النفس والشعور.
التوقيع لغة:
التوقيعات جمع توقيع من المادة اللغوية ( و.ق.ع)، والوقع، وقعة الضرب بالشيء، ووقع المطر، ووقع حوافر الدابة، يعني ما يسمع من وقعه، ... والميقعة المكان الذي يقع عليه الطائر".
والتوقيع: "ما يقع في الكتاب وهو إلحاق شيء بعد الفراغ منه لمن رفع إليه، كالسلطان ونحوه من ولاة الأمر، كما إذا رفعت إلى السلطان أو الوالي شكاة، فكتب تحت الكتاب، أو على ظهره: ينظر في أمر هذا ويستوفى لهذا حقه."
التوقيع اصطلاحا: يعرفه القدامى أمثال القلقشندي (ت121ه) بقوله:" هي الكتابة على حواشي الرقاع والقصص بما يعتمد الكاتب من أمر الولايات والمكاتبات في الأمور المتعلقة بالمملكة والتحدث في المظالم وهو أمر جليل، ومنصب حفيل." ( أبو العباس القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء ص110).
أما المعاصرون فعرفها عمر فروخ في كتابه تاريخ الأدب العربي بأنها:" ما كان الخلفاء يثبتونه من الجمل القصار في أعقاب الرسائل التي ترد إليهم من الولاة وسائر الناس ليجيزوا ما في هذه الرسائل."
إذا فالتوقيعات هي عبارات قصيرة موجزة تكتب على حواشي الرقاع في زمن الخلافة الراشدة تحمل في طياتها دلالات ومعاني موحية، " يوقع بها الخلفاء والمسؤلون على ما يرفع إليهم من أوراق أو رقاع تتضمن تظلما أو طلبا من محتاج."
خصائصها الفنية:
-الميل إلى الإيجاز في اللفظ وحسن التشبيه.
-الاقتباس من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
-توظيف المحسنات البديعية مثل: السجع والجناس والطباق والمقابلة.
-احتوائها على صيغة الأمر في معظم الأقوال الصادرة.
نماذج من التوقيعات:
ومن نماذج التوقيعات مايلي:
رد جعفر بن يحيى البرمكي على كتاب رجل شكى إليه بعض عماله فوقع لأحدهم يقول:" قد كثر شاكوك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت".
ووقع عمر بن عبد العزيز لعامله بحمص حينما كتب إليه بأن مدينته تحتاج إلى بناء حصن لحمايتها من الأعداء قائلا:" حصنها بالعدل والسلام".
ومن التوقيع بالاقتباس من القرآن الكريم، ما كتب به عامل إلى الخليفة العباسي المهدي، يشكو إليه سوء طاعة الرعية، فوقع المهدي في خطابه قوله تعالى:" خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين."
( هناء قنديل: التوقيعات، صوت الأمة، soutaloma.com).
لقد حاولت حركة مجلة شعر أن تبني مفهومها للحداثة انطلاقا من الهدم وبناء مفاهيم ورؤى فكرية ومصطلحية جديدة تتلاءم مع روح العصر وقضاياه.
التعليقات على الموضوع