تحليل قصيدة من "سؤال الذات"

النبيّ المجهولُ
أيّها الشَّعبُ ليتني كنْتُ حطَّابا \\\ فأَهْوِي على الجُذُوعِ بفأْسِي
ليتنِي كنتُ كالسُّيُول ،إذا سالَتْ \\\ تهُدُّ القبورَ : رَمْسَا برَمـــْسِ
ليتنِي كنت كالرِّياح،فأَطْــــوِي \\\ كلَّ ما يخنُقُ الزُّهورَ بنَحْسِي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ،يا شعبِي \\\ فأُلقي إليْك ثوْرَةَ نفْســـــي
أنتَ رُوحٌ غبِيّةٌ ، تكرَهُ النُّـــورَ \\\ وتقْضِي الدُّهورَ في مـــــلْسِ
أيها الشعب أنت طفل صغير \\\ لاعب بالتراب والليل مُغْــــسِِ
أنت في الكون قوة لم تسسها \\\ فكرة عبقرية ذات بــــــأس
أنت في الكون قوة كبلتها \\\ ظلمات العصور من أمسِ أمس
والشقيّ الشقيّ من كان مثلي \\\ في حساسيتي ورقة نفسي
أبو القاسم الشابي، ديوان أبي القاسم الشابي ورسائله،قدم له وشرحه مجيد طراد ،دار الكتاب العربي،ط2 ، 1994-1415هـ ، ص 117-118 بتصرف .
تحليل القصيدةِ:
لم يتوقف الشعر العربي في تطوره عند مدرسة إحياء النموذج، بل استمرت عجلتُه في الدوران ليثمر حركة جديدة هي حركة سؤال الذات، وقد كاَن دور هذه الحركة يتجلى في ردّ الاعتبار للذات التي همّشها الإحيائيون، والثورة على المضامين القديمة، ورفض الخضوع لها، ولم تظهر هذه الحركة بشكل تلقائي، بل أسهمت في ظهورها عدة أسباب كالاحتكاك بالثقاقات الأجنبية، وصعود الطبقة البورجوازية، وكذا التأثر بالفكر الحّر، والتّرجمة عن الثقافة الغربية، وانقسمت هذه الحركة إلى مدارس ثلاث هي: مدرسة الديوان، والرابطة القلمية، وأبوللو.و حمل عدّة شعراء على عاتقهم مهمَّة التَّعبير عن الذّات، نذكر منهم: العقاد، وشكري، وأبو ماضي، ونُعيْمة، وصاحب القصيدة التي بين أيدينا أبو القاسم الشابي الذي ينتمي لمدرسة أبوللو ، الذي دفعه مرضه إلى الهيام بالطبيعة وعشق الحرية والتغني بها. فإلى أي حد مثلت القصيدة خصائص شعر سؤال الذات؟
إن أول ما يقع عليه طرْفُ القارئ هو العنوان الماثل أعلى الصفحة، وقد جاء عبارة عن جملة اسمية تتكون من مبتدأ ونعت (النبي المجهول) والخبر متن النص، ودلاليا فالنبي هو المرسَل إلى قومه الساعي إلى هدايتهم وإخراجهم من الضلالة إلى الهدى، والمجهول هو غير المعروف أو الذي لا يُصدَّقُ ، وعليه يوحي العنوان برسالة يحملُها الشاعر إلى قومه الذين يعانون من التخلّف والجهل.فإلى أي حد يعكس العنوان مضمون النص؟
وانطلاقا من دلالةِ، العنوان واتكاء على شكل القصيدة العمودي التقليدي واسم الشاعر، وبناءً على بعض املشيرات النصية من قبيل:" أيها الشعب، أنت روح غبية، أنت طفل صغير، لاعب بالتراب والليل مغس، أنت في الكون قوة لم تسسها..." نفترض أننا قُبالة قصيدة عمودية تقليدية تنضوي تحت خطاب سؤال الذات، يتوجه فيها الشاعر إلى شعبه مستنكرا جهله والظلمات التي يعيش فيها والتخلف الذي يحياه. فإلى أي حد تصدُق هذه الفرضية؟ وما الأساليب الفنية التي استخدمها الشاعر في قصيدته؟
استهلَّ الشاعر قصيدته بمخاطبة شعبه، متمنيا القضاء على الجمود الذي يسوده وأن يكون عبارة عن قوى طبيعية كالسيول والرياح والعواصف ليهدم الموت والتخلف ويزيل الظلمات التي يتخبط فيها وطنه، ولينشر أنوار التقدم وربيع السعادة، ثم عرّج بعد كل هذه الأماني ليصف شعبه بالروح الغبية والطفل الصغير الذي يظلُّ يلهو دون أن يكترث بالليل أو الدجى، قائلا إن وطنه رغم قوته إلا أنه لا يملك فكرة عبقرية تقوده، وهو كذلك قوة مقيدة بظلمات عصور خلت، وأنهى الشاعر قصيدته متأسفا على حال شعبه معتبراً أن الشقي من كان في مثل حساسيته ورقة نفسه تجاه شعبه العائم في بحر مظلم.
←الملاحظ من خلال قراءة القصيدة أن الشاعر جدّد في المضمون، ولم يستعؤنْ بمضمون قديمٍ، حيث عبّر عن حزنه تجاه شعبه المتخلف مما يدل على تجديد الشاعر مضمونيا.
وإذا انتقلنا ناحية التحليل وجدنا أن معجم النص ينقسم إلى حقلين دلاليين؛ هما على التوالي حقل الشّعب ويضم بين ثناياه ما يلي :" أيها الشعب، أنت في الكون قوة، أنت طفل صغير، أنت روح غبية..." والحقل الدال على الشاعر ومما ينضوي تحته نذكر:3 ليتني كنت حطابا، ليتني كنت كالسيول، ليت لي قوة، رقة نفسي" ، والملاحظ من خلال جرد الحقلين أن حقل الشعب يغلب على حقل الشاعر حيث كان له قصب السَّبق، وهذا راجع إلى رغبة الشاعر في التعبير عن مدى تخلف شعبه وتخبطه في ظلمات الجهل، والعلاقة بين الحقلين قائمة على السببية، ذلك أنّ تخلّف الشعب ومعاناته من ويلات الجهل هو الذي جعل الشاعر يعبر عن رغبته في أن يصير قوًى طبيعية ليهدم ذلك التخلف ويردعَه.
←نسنتج أن لغة القصيدة لغة لينة سهلة، لا صعوبة فيها ولا صلابة، مما يدل على تجديد الشاعر في هذا الجانب.

وإيمانا من الشاعر بأن الصّور الشعرية جوهرُ الشعر وعموده الفقري، وبدونها يصبح الشعر مغسولا وكلاما باردا وبها يصير كلاما معسولا تتوق النفوس إلى سماعه، فقد وظف الشاعر جملة منها، فنجد التشبيه في وله:" ليتني كنت كالرياح" والمشبه هنا هو الشاعر والمشبه به هي الرياح، ووجه الشبه هو القوة والقدرة، وقد عبّر هذا التشبيه عن رغبة الشاعر الجامحة في تخليص شعبه من قيود التخلف والركود، كما نجد الاستعارة في قوله:" قوة كبّلتها ظلمات العصور"، حيث استعار للظلمات صفة "التكبيل" حاذفا المستعار منه الذي هو "الإنسان" رامزا إليه بالقرينة " كبلتها" على سبيل الاستعارة المكنية التبعية، وقد أدت هذه الصور بالإضافة إلى الوظيفة الجمالية التزيينية المتمثلة في إضفاء المائية والرونق والبهاء- وظيفة تصويريّة إذ صورت الظلمات في شكل إنسان يقيد ويكبل، ونجد أيضا كناية مبثوثة في البيت الخامس حيث قصد بالملس (الظلام) الجهلَ والتخلف، وتجلت وظيفة هذه الكناية في المراوغة والإيجاز وتقديم المعنى بشكل غير مباشر، وعموما أدت هذه الصور مجتمعةً دورا في الارتقاء بالقصيدة في مدارج الشعرية وسماوات الجمال، وأعطتها بعدا تخييليا أغنى المعنى.
←وظف الشاعر صورا شعرية نابعة من تجربته الذاتية ومنبثقة من رؤيته، مما يعني أنه جدد على مستوى التصوير.
وإذا عرجنا ناحية الإيقاع وجدنا أن الشاعر قد بنى قصيدته بناء عموديا تقليديا حافظ فيه على وحدة الوزن والقافية والروي، أما فيما يخص القافية فجاءت مطَّرِدَةً مطلقةً موحدة في سائر القصيدة(-0-0)، كما جاءت في كل الأبيات كلمةً، وأسهمت بذلك في إعطاء نهايات الأبيات تناغما صوتيا وانسجاما إيقاعيا، مؤدّية وظائفها الثلاث: النّفسيّة، والمعنويّة، وكذا الصوتية، أما الروي فقد جاء عبارة عن "سين" مكسورة، ممّا عكس تأزّم نفسية الشاعر جرَّاء تخلّف شعبه الغارق في سبات عميق، وحقَّقَ الرويّ وقعا نغميا تطرب له الآذان وتهتزُّ له النفوس.
وإذا نزلنا بساحة الإيقاع الدّاخلي ألفينا الشّاعر يوظّف التوازي الذي نجده في قوله:
ليتني\ كنت\ كالسيول
ليتني\ كنت\ كالرياح
وهو توازٍ عموديّ، عروضيّ، نحويّ، نسبيّ لأنّه لم يتمّه في سائر البيت، وقد أغنى هذا التوازي الجانب الموسيقي للقصيدة وأعطاها نغمة إيقاعية متميزة وانتشلها من جو الحزن والغضب المخيم عليها.
ونجد أيضا توظيفا للتّكرار بأنواعه المختلفة؛ فنلفي تكراراً للصوامت مثل" السين والنون والشين"، وتكرارا للصوائت كالكسرة والفتحة والسكون، وتكرارا لبعض الألفاظ من قبيل" الشعب، الكون.." ، ناهيك عن التّكرار العروضي المتجلي في تردادِ نفس الوزن والقافية والروي، ولا يخفى ما أداه هذا التكرار من إغناء للموسيقى الداخلية حيث منحها حيوية إيقاعية متميزة.
←إن المستنتَج من دراسة البنية الإيقاعية للقصيدة أن الشاعر لم يجدد في إيقاع القصيدة، حيث حافظ على وحدة القافية والروي وبنى قصيدته بناء عموديا تقليديا، مقصراً تجديده على المضمونِ والصورِ.
عمل الشاعر في قصيدته على التوجّه إلى شعبه بالانتقاد والعتاب، مستنكرا ما وصل إليه من تخلف ومتحسرا على جهله الذي يتخبط فيه، متمنيا في نفس الوقت لو كان عبارة عن قوى طبيعية لينقذ شعبه من ويزيح عنه حاجز الركود والجمود، وقد قصد إلى إبراز أسفه وحزنه العميق على ما آل إليه شعبه ورغبته في انتشاله من مستنقع التخلف الذي يغرق فيه مقدما نفسه في صورة النبيّ المنقذ، واستخدم لذلك صورا شعرية نابعة من التجربة الذاتية، وبنية إيقاعية تقليدية، ولغة تتصف باللين والبساطة،، ونصل في النهاية إلى إثبات صحة الفرضية وانتماء النص إلى خطاب "سؤال الذات". وعموما يمكن القول أن الشاعر نجح في تمثيل خصائص شعر سؤال الذات على الظقل من الناحية المضمونية والتصويريّة.وإذا كان أبو القاسم الشابي قد نجح في هذه القصيدة فهل حالفه النجاح في جميع القصائد؟

ليست هناك تعليقات