نظرة إلى مجتمع الصحراء من خلال أشعاره في القرن 20 م

 نظرة إلى مجتمع الصحراء من خلال أشعاره في القرن 20 م

للأستاذ الحسين باتا

(نشر هذا المقال في العدد الأخير من مجلة وادي درعة)

     تروم هذه الورقة التعرف على مجتمع الصحراء من خلال أحد أشكاله الإبداعية التي اعتبرها أفضل معبر عن انشغالاته واهتماماته وميولاته ومشاعره المختلفة، أي الشعر، فكان هذا الشكل الأدبي والفني مرآة حقيقية عكست عمق أصالته وجدية تجاربه، ورصدت قدرته الغريبة على التعايش مع معطيات صعبة، هي الظروف العامة للصحراء، من تضاريس مقفرة ومناخ جذب، وما يثير الإعجاب حقا ليست قدرته على التعايش فحسب، بل قدرته الهائلة على صناعة الحياة في وسط يتهدده الموت من أمامه ومن خلفه.

   ويعتبر الإبداع الشعري منهلا عظيما للدراسات التاريخية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية التي تتوخى الكشف عن ملامح مجتمع الصحراء في القرون الماضية، لما توفره للباحث من تفاصيل ودقائق حياتية ومعطيات عن مناشطه الاقتصادية والاجتماعية قد لا تسعفه المصادر الأخرى في الوقوف عليها، ونحن من خلال هذه الورقة إنما نحاول التأكيد على هذه الأهمية التي تكتسيها المادة الشعرية في الكشف عن بعض خبايا تاريخ هذا المجتمع.

وقبل أن نشرع في تحليل بعض النماذج الشعرية يلزمنا تحديد المجال المدروس أولا، وذلك من خلال الإجابة عن سؤال: عن أي صحراء نتحدث؟


المحور الأول: تحديد المجال   

      بقدر ما تبدو الإجابة سهلة عن هذا السؤال بقدر ما هي مستعصية، فالصحراء واحدة والمسميات متعددة، وهذا التعدد يعكس وجود تباينات كبرى في المنطلقات، وتبعا لذلك تتمايز التحديدات، فاسبانيا التي كانت مشبعة بفكر استعماري توسعي، كانت تسميها بالصحراء الاسبانية ، أو صحراء ريو ديورو .

 وللبعض منطلقات سياسية أخرى، فيسميها بالصحراء الغربية، باعتبار أن هذه التسمية وإن كانت جغرافية في الأصل تمييزا لهذه المنطقة عن الصحراء الشرقية، أي صحراء تافيلالت، إلا أنها اتخذت صبغة سياسية واضحة، خصوصا وأن ملف الصحراء في أروقة المنتظم الدولي يحمل هذه التسمية ، فيعتبرون الصحراء تبعا لذلك هي المنطقة الفاصلة بين الطاح شمالا، ولكويرة جنوبا، وفي هذا تضييق غير مقبول لمجال أكثر اتساعا، ويحاول آخرون التخفيف من وطأة هذا الاسم فيسمونها بالصحراء الجنوبية الغربية، لكنهم يحافظون على نفس التحديد الجغرافي السابق، ويسميها آخرون  بالصحراء المغربية، لكنها في تمثل أغلبهم هي الأراضي المتنازع عليها ، وعليه فهم لا يشذون في تحديدهم الجغرافي للصحراء عن سابقيهم، ويفضل آخرون النأي بأنفسهم عن هذا المعمعان فيسمونها الصحراء الأطلسية أو الأطلنتية، لكنهم يسقطون سهوا في فخ التعميم، باعتبار أن الصحراء الأطلسية تمتد إلى ما وراء لكويرة فتشمل موريتانيا والسنغال.

    والحال هاته فقد وجدت لنفسي مخرجا يغنيني عن الدخول في حيص بيص التسميات فأسميتها بصحراء واد نون_ واد الذهب، وأختصرها بصحراء نون الذهب، وكما هو بيّنْ فإن تحديدها الجغرافي واضح للغاية، فهي بالنسبة لي تمتد من وادنون شمالا، أي من السفوح الجنوبية للأطلس الصغير إلى منطقة واد الذهب جنوبا، ويحدها المحيط الأطلسي من جهة الغرب، والجزائر من جهة الشرق. 

    وكما هو جلي أيضا فإني أعتبر أن منطقة وادنون جزءا لا يتجزأ من الصحراء، ونأسف لأننا مضطرين لأن نؤكد على هذا، فهو أمر لا ينكره إلا جاهل بالتاريخ وساذج في علم الجغرافيا، وأي رؤية لا تضع هذه القطعة من الخريطة في مكانها الصحيح فإنما هي تحاول تشويه الخريطة بقصد، وهو أمر فظيع، أو بدون قصد، وهو أمر أفظع.

فمنطقة وادنون من أقدم المناطق تعميرا في هذه الصحراء، وهو أول جزء وصله بنو حسان من قبائل بني معقل المهاجرين من صحراء تافيلالت ، التي قضوا بها ردحا من الزمن بعد وصولهم إليها من صحراء اليمن مرورا بمصر الفاطمية والقيروان فمملكة تلمسان، هذا من الناحية التاريخية، أما من الناحية الجغرافية فالمناخ واحد، هو المناخ الصحراوي، والغطاء النباتي متشابه إلى درجة التماهي، والوحيش من نفس العينات المنتشرة في الأجزاء الأخرى من الصحراء، أما من الناحية الثقافية فلا فروق جوهرية، الدين نفسه، وهو الإسلام على المذهب المالكي ، اللهجة نفسها ، أما العادات والتقاليد فهي متقاربة، ولا أقول متشابهة .


المحور الثاني: الصحراويون ومشكلة الاستعمار الأجنبي


      بعد تحديدنا للمجال الذي نقصده في هذه المداخلة، نستعرض بعض المواضيع التاريخية والاجتماعية التي يختزنها إبداع مجتمع هذا المجال، ونبدأ بموضوع التدخل الأجنبي في الصحراء، الذي عارضه أهالي المنطقة من أقصاها إلى أقصاها وقاوموه باعتباره عنصرا دخيلا، لا يمت بصلة لهم، ولنتوقف عند نص عانى صاحبه من الغربة بعد أن اضطرته ظروف الجهاد إلى الابتعاد عن وادنون بمئات الكيلومترات :

يَلاَّلِي  مَبْعَدْ تِيسَكْنَانْ  وَگْصَرْ عَابِدِينْ أُدَحمان

إِيسَگْ أُلَخْنَگْ وَالوديان رَاسْ الطارف وَالنَّطْفِيَّ

والرَّكْنَ وَمْغَادَرْ سَلْطَان   أُگجگالة ألمعيطيَّ

عَظْم الْبَل  وذراع الغزلان  وذريع منبت بوشامي

وذْرَيع منبت تيلمسان  ويفندان ولحميدي

اخنيفيس أُكَرْب الشيلان  والكعدة والحكونية

اَدورة وحويس عثمان   إزيك أذيك الحيثي

من فَصْكْ أُگَبْ أُدرمان  بولوتاد أُمَنْ لَكْدَي

وگْلاَب إينيان  مَدْنْ الحوات أُلَبْثَيْني

فديرك وگلاب إيشكران  عَگْبُ والگَابُوني

گَطْعْ النسر وروس إِفرْنان  عَكْلَتْ سيدي وأم لْوَي


     ومن خلال هذا النص يستحضر الشاعر-المجاهد المسافات البعيدة التي تفصله عن موطنه من خلال استعراض تسميات شواهد جغرافية عن المناطق الشاسعة التي تحول بينه وبين مكان ألف العيش فيه، والمكان هنا يشير أيضا إلى العشيرة والعائلة والأسرة الصغيرة، لكن إحساسه بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه تجاه الوطن كان يفوق ألمه لفراق الزوجة والولد والعائلة.

ويقول شاعر آخر  في قصيدة يحدد فيها تواريخ استعمار مجموعة من المدن الصحراوية:

سنة أَثْنَاعش وأَتْسَع مِية             وأَلف أَملي حقيقية

استعمار الاسباني                   فواد الذهب محصيين

وسطعش الطرفاية هي              هُومَ مناطق محبوسين

أُعَاگب لَلْف مع اتسع مية         العيون انزادُ فأربعبن

أعاگب ذاك إلى حد أغلط        وأجحد عن نفس واتورط

واگْلب تاريخ وتخلط              فلسان كِيف الملحدين

وأمع لستعمار أشرط              يذاك من لگْذَيْبْ اَمْسَيْكِين

      إن هذا النص في غاية الأهمية، فهو يؤرخ للنصف الأول من القرن العشرين، هذه الفترة التي عرفت فيها الصحراء، بل والمغرب عموما حركية خاصة تمثلت في تزايد وتيرة التكالب الاستعماري الأوربي،، ففي العام 1912م تمكنت فرنسا من انتزاع توقيع المغرب على المعاهدة التي سميت تمويها بمعاهدة الحماية، وبذلك فقد المغرب استقلاله الذي حافظ عليه لقرون، وبالنسبة لهذا الجزء الجنوبي فإن بدايات احتلاله تعود إلى العام 1884م وبحلول العام 1912م فإن الاسبان كانوا قد أحكموا سيطرتهم على واد الذهب، وسيطروا على الطرفاية في العام 1916م، في حين تمت السيطرة على العيون سنة 1940م وأنضافت إلى المناطق المحتلة.

    هذا ما يصرح به النص بشكل مباشر، ويتجه الشاعر للتأكيد على أن هذه المناطق إنما تم احتلالها في التواريخ التالية، وبالتالي فإن كل من سيحاول فيما بعد القول بأن هذه المناطق اسبانية فإنما هو يكرر أطروحات الكفار/النصارى ويدخل نفسه إلى دائرة الكفر والإلحاد باعتباره مواليا للنصارى بموجب أطروحات باطلة، وفي هذا إشارة إلى وجود بعض الصحراويين الذين اعتبرهم الشاعر في حكم الخونة، وهناك تلميح إليهم حينما يقول: "وتخلط فلسان كيف الملحدين"، وأعتقد أنه يقصد الأشخاص الذين كانوا يشتغلون كمترجمين مع الاسبان "أماليز" بشكل مباشر وغيرهم من الصحراويين الذين كانوا متعاونين مع السلطات الاسبانية.

       والحق أن ساكنة الصحراء لم تذخر جهدا في مواجهة الاسبان، فمنذ أن وطأت أقدامهم خليج الداخلة حتى تعرضوا لهجوم من بعض القبائل الصحراوية، الأمر الذي استهجنه أمير ادرار المدعو أحمد ولد عيدة، بحجة أنه كان قد أعطى الأمان لهؤلاء النصارى، وبالتالي فإن قتالهم لا يستقيم وصحيح الشرع الذي يوجب احترام العهود، غير أن الشيخ ماء العينين ولد محمد فاضل رد عليه بكتاب كامل أسماه: هداية من حارى في أمر النصارى، يدلل فيه من القران والسنة على وجوب مقاتلة المعتدين إذا طمعوا في بلاد الإسلام، غير أن ما يهمنا هنا هو رد آخر حصل عليه ولد عيدة المذكور من الشيخ الفاضل العتيق ولد محمد فاضل بن محمد الليل من خلال قصيدة يقول فيها :

قل للأمير الذي بعدله اشتهرا                بين الأنام وبين سائر الأُمَرَا

لا تكفرن نعما أوليتها فلقد                 خاب الذي نعم الله قد كفرا

فالله نعمته ما إن يغيرها                     حتى يغيرها أربابها بطرا

الله، الله، إن الله خلفكم                    في أرضكم ناظرا في فعلكم نظرا

إياك والظلمَ إن الظلمَ مرتعهُ                قد ذل ملك به آباره حفرا

لا تسألن عن أصحاب الجحيم به          لا تستحلن ما عليك قد حُظرا

لا تجعلن على عينيك عَهْدَهُمُ              لم يعرفوك ولم تعرف لهم خبرا

ولو فرضنا عهودا بينكم وقعتْ            فأين ما اشترطوا في عهد من كفرا

أنى تُعَاهد قوما لا تنالهمُ                   أحكامكَ الدهر ليس ذاك معتبرا

أنى تُؤَمِّنَ قوما لست تَأْمَنُهُم              بل تختشي الغدر ممن منهم قدرا

إن الحلال دماؤهم ومالهمُ                لا مالَ من كان بالإسلام قد جهرا

إن كنت مبتغيا للحق متبعا               فالحق ما قد يقول شيخنا ويرى

شيخ المشايخ قطب الكون قاطبة      ماء العيون به إنسانها بصرا

      إن العلامة العتيق ولد محمد فاضل يلوم الأمير أحمد ولد عيدا على موقفه الغريب من هجوم قبائل الصحراء على الأكواخ الثلاثة التي بناها الاسبان في خليج سنترا وتدميرهم إياها وقتلهم لعدد من الجنود وأسرهم لعدد آخر منهم، معتبرا أنه حتى إذا ما فرضنا أن الأمير المذكور قد وقع معهم عهود أمان فإنها لا تصح، لأن إعطاء الأمان لا يكون للمعتدين على ديار الإسلام بل تجب مقاتلتهم وغنيمة أموالهم.


المحور الثالث: البعد الاقتصادي والاجتماعي في بعض أشعار الصحراء


    ليس من السبق في شيء القول أن النظام الاقتصادي في الصحراء ارتكز أساسا على تربية الماشية وتسمين القطعان معتمدا على حياة الترحال بحثا عن الماء والمرعى، وإن كان هذا المجتمع قد عرف وجود أنصاف الرحل  الذين مارسوا الزراعة بشكل إلى جانب اهتمامهم بالرعي.

   ومن باب المسلمات أيضا الإشارة إلى ما يلاقيه هؤلاء من معاناة في رعاية القطيع، خصوصا حينما تشح الأمطار ويقل الكلأ ويندر الماء، فضلا عن مصاعب اليقظة الدائمة من أجل حماية القطيع من الضواري الجائعة التي تجوب الصحراء وعمليات النهب الممنهجة التي تفرضها سنوات الضنك.

    غير أن هذا الواقع ليس دائما عذابا محضا، فكما أن للصحراء مراحل عسر فلها كذلك فترات يسر، وأي يسر، حينما تزهر المرابع وتنمو الحشائش حتى لتكاد تغطي الإبل واقفة، فيسمن القطيع وتلد الإناث منه مثنى وثلاث ورباع، فتكثر الألبان إلى حد الوفرة، وما يعنيه ذلك من كثرة الزبدة ومشتقاتها، فتتحول الصحراء إلى عالم رومانسي لا مثيل له، يقول الشاعر محمد سالم الري :

وأَكتَن عَادتها عَادتها              حَس الحيوان أُحس أََهدير

اگْعُود إِوَگْوَگْ بَكْرَتها              والحية رَاحت وَتجرجير

ناگَة مفقودة تَركتها              وَشْمَ ذا تسمع حَسْ بْعِير

يْخَسر فَوگ جريدتها             وامنين أَلجل الليل إسير

لاه تتگارب جَرتها                تسمع لَذان وكهل أَكبير

إِهلل وقت أَحْلُوبَتها               وكهلة تَتْحَرْحَزْ تغسل جِير

واتگسم من تَزَوتها               ومرا تَترگَب فوك أَگْوير

                 تلگَطْ عودان أَلْسَطلتها           أَتْرگب مخزاها لَفْتِير

باش تطعم شكوتها               أُوَحْدة تَتْنَخْثَرْ فَوْگْ الزير

تعبث بلسان أَگْلاَدتها               ماهي عجلانة فتنخثير

مشيتها زينة مشيتها                ولاهي كَرارَة لمَـَدِير

شفتها ظهرت خملتها               وتريكَ تلعب فتمير

أُشَرَكْرَكْ هِوايتها                   والخيل ولكلاب ولحمير

وغنم ما تخسر صدتها               والعبد أَعْلَى وگافة بير

الگرفة يعرف نترتها                 وعي زاد إگُود إِشَيْشِير

ولا طفلة بجديلتها                   أُخيمةْ عَارْ افْلَخْلاگْ اتنير

سدارة تصلح كَفْيتها                والْكَسْب اللي فيه أَم الخير

مرگَت شورو بارادتها               وعشار إِگَدمهم بلخير

وبلال أَمْبَرك عَتْرَتْهَا                 وأَگراجْ أَعْگل باعگال أسير

بحلفة زينة دكتها                    وَجمايع من أهل التدبير

ماگط انحلو حزمتها                 فيها طَواش من النذير

ولا گط أَنْطَرْحَتْ عَدتها            گَعْدَتها فخبر ذكر الخير

سيان فيه اوگفتها                    وهذا مجبور إِصُوعْ ابعير

عرگُوب يَابَى حَمْرَتْهَا                 يعْطيها وإلا دار إِغِير

مَرتها تسبك طعمتها                 وإلا جَا بشير ونذير

بَراگة خبطت سنيتها                ووديان تخثرب من لغدير

ذيك السعادة مارتها                 نسيلة گنطة وألا خير

كيفن ظهرت سُفَايتها              والصلْيَان ألين من لحرير

والحرشة صالح منبتها               وتجبر صدرة من بونگير

منزرگة منها رگبتها                وفم الگاطة من حلگ الطير

مولانا زين ظحكتها                وأزوزال يسف العبير

عندو رگبة تجديرتها                 منها لَعَادَتْ عين اتغير

تغير تو أَلْشَافَتْهَا                     وصيدح وَقْت المسير اتسير

تمشي زينة هُوينتها                  واعْبَيْدِية وخْزَامة سير

ما محكوكة رباحتها                 وحمولْ نْطَرحو أُوتَكْرِير

وَغْرَاير زينة بَطْحتها              وأَبْيات انتشدو من كُثير

عَزة جابت سِيَرتها                والبت ولبتيت ولبير

وطلعة ما تخسر نَشْدَتها           حَسْ الحيوان وحس هدير

         هذه القصيدة لوحدها تعتبر سجلا متكاملا يحكي تفاصيل حياة هذا المجتمع، إذ ترصد وقت بداية الأنشطة اليومية وتحدده بدقة متناهية، وهو ما قبل صلاة الفجر، حينما يبدأ شيخ مسن في التهلال، إذ تبدأ عملية حلب النوق، وتستعد مدبرة الخيمة⁄ الكهلة لتجميع الحليب بتحضير الأواني اللازمة، وتظهر الفتيات خارج الخيمة لمباشرة وظائفها المتعددة، ولعل أقلها إعداد الإفطار أو الإشراف على إعداده.

        تشير القصيدة إلى استمرار وجود الرقيق في مجتمع الصحراء، فتذكر أحد العبيد يقوم بعملية جلب الماء من البئر وقد يسانده صبي أو فتاة صغيرين، والأرجح أنهما أبناؤه، وتذكر عبدا آخر اسمه "بلخير" يقوم برعي الإبل، ثم عبد ثالث يدعى "بلال" وقد رصدته عين الشاعر يعقل الإبل، إلى جانب إحدى الجواري واسمها "أم الخير" وكانت ترعى الماعز والأغنام.

تشير القصيدة كذلك إلى بعض الألعاب التي كانت تستهوي الأطفال حينئذ وذكر منها لعبة التمير، وشركرك، واللعب مع الكلاب ومع الخيل ومع الحمير.

       ومن القضايا المهمة التي تخبرنا عنها القصيدة هي وجود مجلس مكلف بتسيير شؤون القبيلة (اجمايع من أهل التدبير) أو "الجماعة" وهي مشكلة من عدد من أصحاب الخبرات والتجارب المتأهبين دوما لكل طارئ، بحيث لا تفارقهم أسلحتهم في أية لحظة حفاظا على سلامة المجموعة وأمنها، ويشير الشاعر إلى أن مجالسهم هي دوما في ذكر أخبار الخير، وأي خير، خير الجماعة التي يشرفون على تدبير أمورها، فيراعون تطبيق العرف داخل جماعتهم/ قبيلتهم، ويحرصون على ضمان التوازنات مع القبائل الأخرى المجاورة وعلى احترام هذه القبائل لحقوقهم، ويتخذون قرارات مهمة بخصوص الاستقرار والرحيل وفقا لاحتياجات قطعانهم وغيرها من المهام الموكولة إليهم.

       إلى جانب ذلك فالطلعة تخبرنا عن نظام خاص كان يفرض على المنهزمين، وهو عبارة عن إتاوة تدعى "حمرة العرگوب"، وتؤدى للطرف الغالب في كل سنة، فالهزيمة إذن في أحد الغزيان لم تكن تعني انتهاب ثروة المنهزم فقط بل وتعني استنزافه ماديا لسنوات بعد ذلك، استغلالا له من جهة وضمانا لاستمرار ضعفه من جهة ثانية، وما يعنيه ذلك من اتقاء لشره لأطول فترة ممكنة، الأمر الذي يشابه تماما ما يلاحظه الباحث في المبدأ الذي تحكم في مؤتمر فرساي المنعقد في باريس سنة 1919م والذي أفرز مجموعة من المعاهدات التي كانت غايتها استنزاف ألمانيا وحلفاؤها لأطول فترة ممكنة.

وفيما تبقى من القصيدة فإن الشاعر انبرى يصف كيف تتحول الصحراء من صورة مقفرة جدباء إلى جنة حقيقية بعد التهاطلات، فبعد أن يظهر البشير والنذير، ويقصد بهما الرعد والغيوم، تضرب "البراگة" أي البرق، فتصبح الأودية متدفقة بالغدير، وتنمو مختلف النباتات والحشائش (النسيلة، الصليان، بونگير، حلگ الطير) وهي نباتات وورود جميلة ومغذية للماشية، ومذرة لمختلف الخيرات التي تحقق الأمن الغذائي للمجتمع وتحافظ على استقراره وتوطد دعائم السلام والأمان فيه، الأمر الذي يجسده انتعاش الحياة الثقافية من شعر وطرب كما تشير إلى ذلك الأبيات الأخيرة من القصيدة:

وغْرَاير زينـة بطحتها            وأبيات انتشدو من كُثَيْر

عَزَّة جابت سيرتهـا               البت أُلَبتيت أُلَبيـــر.


المحور الرابع: الصحراويين  والابتكارات التقنية الحديثة من خلال أشعارهم


    تسعفنا الأشعار المحفوظة على الوقوف على طريقة تعامل الصحراويين مع مجموعة من الابتكارات العلمية والتقنية الحديثة التي لم يؤلفوها في وسطهم الصحراوي، ومع ذلك فإن ما هو متوفر من شواهد شعرية تثبت أنهم استقبلوها بذهن متيقظ منتبهين إلى خصائصها العامة ومبادئ اشتغالها وما إلى ذلك كما سنتابع مع النماذج التالية:

ففي اختراع من حجم الطائرة يقول العالم والأديب والمجاهد والشاعر مربيه ربه :

                      تطايرت آلة بالريح محكمة 

                                           كما تطاير جند الطير بالروح

                      والكل من خالق الأكوان حرك من

                                           مجراه بالروح أو مجراه بالريح

ومن المرجح أن بربيه ربه قد سافر على متن الطائرة في حجه الأول سنة 1356 هـ/1937م، وإلم يكن ذلك صحيحا فإن ما هو ثابت أنه سافر على متنها في حجته الثانية في العام الموالي من الطرفاية إلى لاس بالماس، حسبما تخبرنا به الرحلة المعينية للشيخ ماء العينين ولد العتيق .


وفيها أيضا يقول العالم والشاعر محمد الإمام :

              ألا لطفا متى امتطي الهوا             على جوفاء جؤجؤها هوا

              لها في الصدر إن حميت أزيز         وغيطلة يضيق بها الفضا

              فتجري أولا بمحركات              تساعدها القوى والكهرباء

              فتعجل عن رحى العجلات وثبا     شيكا فالأمام بها وراء

              فتنزل مثلما ابتدأت برفق             فطاب بها النزول والاتقاء

              فتقبل نحو مركزها تهادي             يقارنها اختيال وازدهاء

ومن خلال هذه القصيدة نتتبع وصفا دقيقا لإقلاع الطائرة ولاستقرارها في الجو وكذا وصفا لنزولها.

وفي الكهرباء يقول الشاعر محمد الإمام :

وانظر لصنع الكهرباء فإنه             من لطف صنع الله في الأكوان

إذ سهلت كل الصعاب وأوهمت      أن المجال بحيز الإمكان

وتريك للضدين في آن معا            بالسلب والإيجاب ينفعلان

ومن خلال هذه الأبيات الثلاثة ندرك أن الشاعر الصحراوي قد وقف على المنافع العديدة لهذا الاكتشاف الهائل الذي ساعد أوربا كثيرا على انجاز ثورتها الصناعية خلال القرن التاسع عشر، بل وأدرك مبدأ هذا الاكتشاف القائم على الثنائية الضدية المعروفة: السالب والموجب.


مما تقدم فإننا لم نتغيا إلا الإشارة إلى أهمية الرجوع إلى المتون الشعرية لاستنباط ذلك الفيض الكبير من المعطيات والإشارات التاريخية والاجتماعية الهامة التي قد تمكن الباحثين والمهتمين بهذا المجال من كتابة تاريخ هذه المنطقة بشكل أفضل بعيدا عن الاهتمام الصرف بالكتابات والحوليات والكتب الرحلات الغربية المليئة حقيقة بالمعطيات المهمة، لكنها مليئة أيضا بالأكاذيب، التي وإن فطن الباحث اليقظ إليها، فإن الباحث الغير متمرس يسقط ضحية أمام إغراءاتها المعرفية الزائفة.


ثبت المصادر والمراجع:


_ العالية ماء العينين، شعر الشيخ محمد الإمام، رسالة مرقونة بكلية الآداب عين الشق، جامعة الحسن الثاني، السنة الجامعية: 1998-1999م

_ نماذج من شعر مربيه ربه، جوانب وحدوية من ثقافة الصحراء المغربية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ط 1، 1997

_ باه النعمة، الشعر الحساني: المجال النقدي والمرجع، الشركة المغربية للطباعة والنشر، ط 1، 1992.

_ العينين مربيه ربه، الشيخ ماء العينين ومعركة الداخلة 1885م مع تحقيق مخطوط كتاب هداية من حارا في أمر النصارى، منشورات مؤسسة مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط،ط 1، 1998.

_ عبد الرحيم الورديغي، جغرافية الساقية الحمراء ووادي الذهب، وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الموريتانية والصحراء المغربية، الرباط، (بدون تاريخ).

_ محمد دحمان، الثقافة الحسانية، سلسلة ندوات ومحاضرات، مقال بعنوان: مجتمع الساقية الحمراء ووادي الذهب من خلال الموروث الشعبي الحساني، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، مطبعة كوثر، الرباط، ط 1، 2003.

ليست هناك تعليقات